"صفقة سرية لا تحب إسرائيل الإشارة إليها"، لأنها تكشف عن توافق مصالح غريب بين الصهيونية والنازية في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتعرف هذه الصفقة باسم اتفاقية هعفراه "Haavara Agreement".
واتفاقية هعفراه هي اتفاقية بين ألمانيا النازية ويهود ألمانيا الصهاينة، تم التوقيع عليها في 25 أغسطس/آب 1933. تمت الاتفاقية بعد ثلاثة أشهر من المحادثات بين الاتحاد الصهيوني الألماني، البنك الأنغلو-فلسطيني (تحت إدارة الوكالة اليهودية)، والسلطات الاقتصادية لألمانيا النازية.
كانت الاتفاقية عاملاً محورياً في تسهيل هجرة حوالي 60 ألف يهودي ألماني إلى فلسطين بين عامي 1933-1939.
ولتنفيذ اتفاقية هعفراه، ساعد النازيون، وحتى قوات الأمن الخاصة قبل الحرب العالمية الثانية، في الهجرة غير الشرعية لليهود في فلسطين، كما منع هتلر الدعم عن عرب فلسطين حتى لا يغضب البريطانيين، الذين كانت فلسطين واقعة تحت انتدابهم.
جذور التنسيق بين النازية والصهيونية تعود لعهد الإمبراطورية الألمانية
ظلّت سياسة ألمانيا تجاه فلسطين بدون تغيير منذ أواخر الإمبراطورية الألمانية عبر جمهورية فايمار، حيث دعم صناع السياسة الألمان الجهود الصهيونية للاستيطان، وتأسيس دولة في فلسطين، لأنهم أدركوا أن الصهيونية يمكن أن تكون أداة فعّالة في السياسة الخارجية الألمانية، في ظل وجود عدد كبير من اليهود في ألمانيا والنمسا، ولفترة توقفت أو تباطأت هذه السياسة بسبب التحالف بين ألمانيا والدولة العثمانية، التي كانت لها الولاية على فلسطين حتى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
وخلال الثلاثينيات، واصل النازيون التعاون مع الصهيونية لأنهم أرادوا استخدام الصهيونية لتقليل أعداد اليهود في ألمانيا، وإرضاء البريطانيين، في الوقت ذاته، حسب دراسة لفرانسيس نيقوسيا، وردت أجزاء منها في موقع متحف التسامح (MOT)، هو مركز يصف نفسه بأنه مختبر لحقوق الإنسان ومركز تعليمي مخصص لفهم الهولوكوست.
الظروف التي أدت إلى توقيع اتفاقية هعفراه
أثارت إجراءات هتلر المبكرة المعادية لليهود جهوداً عالمية لمقاطعة البضائع الألمانية، ونظّم اليهود على مستوى العالم جهود المقاطعة هذه، وهو أمر كان من شأنه أن يضر باقتصاد ألمانيا، الذي كان لا يزال غير مستقر.
وفي صيف عام 1933، بعد فترة وجيزة من توليه السلطة، وقعت حكومة هتلر اتفاقية هعفراه مع الممثلين الصهاينة، وأدى ذلك إلى تراجع أغلبية الحركة الصهيونية عن دعم المقاطعة ضد المنتجات الألمانية.
كانت الاتفاقية تهدف إلى مساعدة ألمانيا ضد البطالة، وانخفاض أسعار المنتجات الزراعية، بالإضافة إلى هدف الحزب النازي المتمثل في إجبار اليهود على مغادرة البلاد، وكذلك إنهاء حركة المقاطعة للمنتجات الألمانية.
أتاحت اتفاقية هعفراه هجرة أعداد كبيرة من اليهود، كما فتحت فلسطين والشرق الأوسط أمام الصادرات الألمانية، من خلال الاتفاق أن يشتري اليهود المهاجرون لفلسطين من ألمانيا منتجات ألمانية، مقابل أثمان ممتلكاتهم في ألمانيا، حيث كانت الاتفاقية تقضي بنقل أموال اليهود المهاجرين من ألمانيا إلى فلسطين على هيئة بضائع وسلع ألمانية، ما أسهم في إنعاش الاقتصاد الصهيوني في فلسطين، وتوفير آلات زراعية ومعدات صناعية لدعم المشروع الصهيوني، وتوفير فرص عمل للمهاجرين اليهود الجدد الذين استوطنوا في فلسطين.
وبموجب اتفاقية هعفراه، كان على المهاجرين اليهود تسليم ممتلكاتهم قبل مغادرتهم ألمانيا، واستخدمت العائدات من قبل شركة أنشئت خصيصاً لهذا الغرض في تل أبيب لشراء سلع ألمانية للبيع في فلسطين، ثم تم دفع عائدات هذه المبيعات بالعملة الفلسطينية للمهاجرين اليهود إلى فلسطين.
تمت هذه الصفقة في وقت كانت بدأت بعض الممارسات التمييزية بحق اليهود في ألمانيا، حيث تم طردهم من الخدمة المدنية الألمانية ومن المهن، ومقاطعة متاجرهم وأعمالهم التجارية، وسُلبت منهم الجنسية الألمانية. تم استبعادهم خطوة بخطوة من الحياة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والثقافية الألمانية، ولكن لم تكن البلاد قد شهدت مذابح بحقهم.
انتقادات من كل الأطراف
في ذلك الوقت انتُقدت الاتفاقية على الفور من جميع الأطراف، واتُّهم الاتحاد الصهيوني بالتعاون مع النازيين، وانتقد النازيون السلطات النازية لمساعدتها اليهود عندما كانت سياستهم الرسمية هي "حل المسألة اليهودية". ومع ذلك في هذه المرحلة من الزمن، رأى كلا الجانبين بلا شك فوائد محتملة لأنفسهما في مثل هذه الاتفاقية.
إحدى النقاط الشائكة في هذه الاتفاقية بالنسبة للزعماء الصهاينة آنذاك أن الاتفاقية كان من شأنها أن تقوض المقاطعة العالمية للبضائع الألمانية التي انتشرت في ذلك الوقت.
ولذا تسببت الاتفاقية في الانقسامات بين اليهود، حيث عارض غير الصهاينة اتفاقية هافارا، لأنهم كانوا يأملون أن تضغط المقاطعة على النازيين لاستعادة حقوق اليهود.
في المقابل، "عمل معظم الصهاينة على أساس فرضية أن وضع اليهود في ألمانيا ليس فيه أمل، وأن الهجرة إلى فلسطين كانت خيارهم الوحيد"، لكن الموقف الصهيوني لم يكن بالإجماع، كان هناك أيضاً صهاينة يعارضون أي شكل من أشكال التعاون مع ألمانيا النازية، لأنهم أرادوا إجبارها على تغيير سياساتها المعادية لليهود.
نتيجة لاتفاقية هافارا، زادت الصادرات الألمانية إلى فلسطين بسرعة كبيرة، حتى إنه بحلول عام 1937 كانت ألمانيا قد انتقلت إلى المركز الأول بين الدول المصدرة إلى فلسطين، متجاوزة حتى بريطانيا العظمى، القوة صاحبة الانتداب على فلسطين.
وشملت البضائع المصدرة الأسمنت، والعوارض الفولاذية، وألواح الحديد، والألومنيوم، ومنتجات النحاس، والساعات، ومعدات التصوير، والآلات الزراعية، والجلود.
من الواضح أن بريطانيا لم تكن راضية عن الأنشطة الاقتصادية لألمانيا في فلسطين، وأظهرت الأبحاث أن لندن ضغطت بالفعل على بعض اليهود في فلسطين، لإلغاء طلباتهم من الآلات الألمانية الكبيرة، وإعادة استيراد بديل لها من المملكة المتحدة.
قوات النازية تعمل إلى جانب النشطاء الصهاينة
اللافت أن قوات الأمن النازية الخاصة فضلت باستمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، رغم القيود البريطانية على الهجرة القانونية، واستمرت في ذلك حتى عام 1941، عندما سادت السياسة الجديدة للحل النهائي (الإبادة)، حسبما ورد في تقرير لمتحف التسامح (MOT).
وكان هناك تعاون بين قوات الأمن النازية الخاصة والصهاينة في الفترة 1933-1937، كما دعمت الحكومة الألمانية النازية برنامج الصهاينة لإعادة التدريب الزراعي، وشجعوا تعليم اللغة العبرية، وتعريف اليهود الألمان بفلسطين، وحتى عرض ما يعرف بالعلم الوطني اليهودي باللونين الأزرق والأبيض، وأثناء هذا التعاون مع النازية كان نشطاء الحركة الصهيونية يرتدون الزي العسكري. من الواضح أن كل هذا تم من أجل الترويج لغايات محلية واقتصادية ألمانية بحتة، دون أي اهتمام بالوضع الفلسطيني نفسه.
وإلى أن أجبرت خطة التقسيم "بيل" لعام 1937، ألمانيا على إعادة النظر في سياستها بشأن فلسطين، فإن اتفاقية هافارا حققت لفترة من الوقت أهداف النظام النازي وأهداف الحركة الصيهونية، فكان النازيون يريدون تقليل أعداد اليهود في ألمانيا، والوكالة اليهودية تريد زيادة هجرة اليهود لفلسطين.
وكانت اتفاقية النقل أو ما يُعرف بـاتفاقية هعفراه، بين الصهيونية والنازية، حلقة من حلقات تعزيز الاقتصاد اليهودي في فلسطين.
وحتى بدايات الحرب العالمية الثانية نُقل حوالي 14 مليون جنيه إسترليني من ألمانيا إلى فلسطين، كان لها الأثر الكبير في دعم الوجود الصهيوني في فلسطين،
بالنسبة للاتحاد الصهيوني كان ذلك وسيلةً لإنقاذ اليهود من براثن نظام معادٍ بشكل متزايد، وجذبهم إلى فلسطين، بينما كان توقيع الدولة النازية على اتفاقية دولية دليلاً آخر على شرعيتها.
الأهم أن الصفقة أدت إلى كسر الحركة اليهودية لمقاطعة البضائع الألمانية، وساعدت على انتعاش الصادرات الألمانية، في وقت كان الاقتصاد الألماني لا يزال يعاني من الكساد.
لماذا تراجع النازيون عن الصفقة؟
يقول تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية، إنه بحلول أواخر عام 1937، أشار مسؤول ألماني مناهض للنازية، شارك في إدارة الاتفاقية، إلى ظهور خوف في الأوساط النازية من أن الاتفاقية قد تؤدي إلى دولة يهودية، وهو الأمر الذي عارضه هتلر بشدة، وأدى ذلك إلى اقتراحات بأنه "يجب إنهاؤها".
ومع زيادة التوسع الألماني في السيطرة على أوروبا أدرك النازيون أن ملايين اليهود الذين يعيشون في المناطق التي احتلتها ألمانيا في شرق أوروبا قد لا يتناسبون أبداً مع مساحة فلسطين الصغيرة، ولذا فإن فكرة إرسال ملايين اليهود إلى جزيرة مدغشقر الإفريقية اكتسبت شعبية بين دوائر معينة من صانعي السياسة الألمان، على أن تحتفظ برلين بالسيطرة على هذه "المحمية" الضخمة، ومع ذلك تم التخلي عن هذا المشروع الوهمي عندما هاجمت ألمانيا الاتحاد السوفييتي، وأطلقت سياسة الحل النهائي لإبادة اليهود.
مازالت هذه الصفقة تثير الجدل في الأوساط اليهودية والغربية، حيث يقول البعض إنها تمثل دليلاً على أن هتلر كان صهيونياً، ودليلاً على التعاون المشبوه بين النازية والصهيونية.
اتفاقية هافارا لا تعني أن النازيين كانوا صهاينة، بل هي دليل على حقيقة أن السياسة النازية تجاه اليهود لم تكن واضحة المعالم منذ البداية، ولكنها تطورت بشكل كبير على مر السنين. كانت الثوابت الوحيدة للنازية هي الكراهية لليهود، والإصرار على أنهم هم السبب الجذري لكل مشاكل ألمانيا، وأن المسألة اليهودية "يجب حلها" بشكل نهائي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Independent البريطانية.
ولكن ما تتجاهله الدوائر الغربية عادة أن اتفاقية هافارا هي دليل أيضاً على أن النازية أسهمت بجرائمها في توفير البشر والموارد للحركة الصهيونية، لتطور مخططها لسلب فلسطين من سكانها، ولتقوم بترحيلهم كما فعلت النازية مع اليهود في بداية أمرها.