استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب قد يكون واحداً من أهم الدروس المستخلصة من الحرب الأوكرانية حتى الآن.
فالحماس والخوف من دور الذكاء الاصطناعي في الحروب يتنامى منذ سنوات. ويرى كثيرون أن الذكاء الاصطناعي سيغير الحرب تغييراً شاملاً مثلما فعل مع التجارة، وتقدم الحرب الأوكرانية إجابات أولية عن هذه التساؤلات، حسبما ورد في تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب؟
السياق التنظيمي والاستراتيجي يشكّل أداء جميع أنظمة المعلومات العسكرية. والذكاء الاصطناعي لا يُفترض أن يغير ذلك. لكن السؤال هو: كيف يشكل السياق الفريد للحرب عنصري الذكاء الاصطناعي الحيويين: البيانات والتقييم؟
رغم أن صنع القرار متشابه في المؤسستين العسكرية والتجارية، فهما تعملان في ظروف مختلفة جذرياً. فالمؤسسة التجارية تفيد من البيئات المؤسسية والمعايير المشتركة. لكن المؤسسة العسكرية، من جهة أخرى، تعمل في بيئة أكثر فوضوية وتقلباً. وتلبية شرطي جودة البيانات والتقييم الواضح في التجارة السلمية أسهل من تلبيتها في القتال العنيف.
ومن التداعيات المهمة لاعتماد المؤسسة العسكرية على الذكاء الاصطناعي هو أنها ستصبح أكثر تعقيداً. فالجيوش التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي ستنشغل بجودة بياناتها وتقييماتها، فضلاً عن الطرق التي تتخذ بها فرق البشر والآلات القرارات. والموظفون الصغار سيتولون مسؤولية التوفيق بين أنظمة الذكاء الاصطناعي والأهداف العسكرية. وبالتالي، فتقييمات القوة النسبية للجيوش التي تدعم الذكاء الاصطناعي ستتحول إلى كفاءة رأس المال البشري والخيارات الإدارية.
وأي شيء يمثل مصدر قوة في الحرب سيصبح أيضاً هدفاً جذاباً. إذ إن خصوم الجيوش المعتمدة على الذكاء الاصطناعي سيكون لديهم دوافع أكثر لاستهداف قوة البيانات وترابط التقييمات. ولأن الذكاء الاصطناعي يزيد من كفاءة المؤسسات، فسيتعين عليها زيادة الاستثمار في تنسيق وحماية كل ما تفعله. ويُتوقع أن يؤدي هذا التعقيد التنظيمي والاستراتيجي الناتج عن استخدام الذكاء الاصطناعي إلى إحداث مزيد من التأخير والارتباك، وليس تسريع العمليات أو جعلها أكثر حسماً.
لماذا تبدو كييف أكثر استفادة من الذكاء الاصطناعي؟
الحرب في أوكرانيا تدور بين قوات تقليدية في قتال ضاري للسيطرة على الأراضي. وهذا السيناريو تحديداً هو ما يظهر في الكثير من توقعات مستقبل الذكاء الاصطناعي. لكن هذه الحرب نفسها قد تحمل دروساً مهمة عن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مختلف تماماً في الحرب، أو عدم استخدامه على الإطلاق.
العديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي تؤدي دوراً مساعداً بالفعل. فأوكرانيا تهيمن على حرب المعلومات، حيث تنقل منصات التواصل الاجتماعي وصفحات الأخبار ووسائل الإعلام وحتى تقييمات المطاعم الروسية أخبار المعاناة والبطولات الأوكرانية. وجميع هذه المنصات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، إلا أن القراصنة يحاولون التأثير على المحتوى الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي. ويستخدم المحللون الماليون الذكاء الاصطناعي في تقييمهم لآثار العقوبات الاقتصادية الساحقة على روسيا، سواء لتحسين آلية استهدافها أو لحماية رأس المال منها. وتدعم أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضاً شبكات الخدمات اللوجستية التجارية التي تنقل الإمدادات الإنسانية إلى أوكرانيا من المانحين على مستوى العالم.
وكالات الاستخبارات الغربية تساعدهم
وتستعين وكالات الاستخبارات الغربية أيضاً بتحليلات البيانات لدراسة كم هائل من البيانات -صور الأقمار الصناعية، واستخبارات الإشارات، والمحادثات مفتوحة المصدر- أثناء متابعتها لسير المعركة. وتتبادل الوكالات هذه المعلومات الاستخبارية مع كييف، وتُستخدم لدعم القوات الأوكرانية في الميدان. وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي يسهم مساهمة غير مباشرة في أحداث ساحة المعركة. والذكاء الاصطناعي له تطبيق تشغيلي آخر في مجال الأمن السيبراني التجاري. على سبيل المثال، اعتمد دفاع مايكروسوفت الاستباقي ضد روسيا على الذكاء الاصطناعي للكشف عن البرامج الضارة.
وتجدر الإشارة إلى أن نجاح هذه التطبيقات في الذكاء الاصطناعي راجع إلى أنها ترتكز على مؤسسات سلمية خارج ساحة المعركة. والحرب في أوكرانيا جزء لا يتجزأ من الاقتصاد المعولم الذي تؤثر فيه الحرب ويتأثر بها في الوقت نفسه. ولأن الذكاء الاصطناعي بالفعل جزء مهم من هذا الاقتصاد، فهو جزء من هذه الحرب. ولأنه يساعد على تمكين الترابط العالمي، فهو يساعد أيضاً في تمكين الاعتماد المتبادل. وبينما تركز التوقعات المستقبلية للذكاء الاصطناعي على تطبيقات ساحة المعركة المباشرة، قد يصبح للذكاء الاصطناعي دورٌ أكثر أهمية في السياق الاقتصادي والمعلوماتي غير المباشر للحرب.
ولكن لا يجب المبالغة في دور الذكاء الاصطناعي في الحروب
تؤكد التوقعات المستقبلية بشكل عام على الفاعلية الهجومية للذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي المستخدمة اليوم لا تساعد أوكرانيا في صدها للهجوم الروسي إلا بدرجة هامشية. والذكاء الاصطناعي لا يسهم في تسريع وتيرة الحرب وإنما إطالة أمدها عن طريق زيادة قدرة أوكرانيا على المقاومة. وفي هذه الحالة، لا يعمل الوقت في صالح الجيش الروسي المكشوف والمضطرب.
ويُتوقع أن التطبيقات العسكرية الواعدة للذكاء الاصطناعي هي التي لها نظائر مشابهة في المؤسسات التجارية، مثل الإدارة والموظفين والخدمات اللوجستية. ولكن حتى هذه الأنشطة مليئة بالمشكلات. فتجديد الإمدادات في الوقت المناسب لن يعوض فشل روسيا الذريع في التخطيط لمواجهة مقاومة حازمة. وأنظمة إدارة الموظفين الفعالة لم تكن لتخبر الجنود الروس بالطبيعة الحقيقية لمهمتهم.
لماذا يبدو أداء روسيا أقل من المتوقع؟ الذكاء الاصطناعي لا يصلح أخطاء القادة
والجميع تقريباً بالغوا في تقدير قوة روسيا وقللوا من قوة أوكرانيا بناءً على أفضل البيانات والتقييمات المتاحة. ولم يكن لإخفاقات الاستخبارات الروسية علاقة كبيرة بكفاءة البيانات والتحليلات، بل بانعزالية القيادة الروسية. فالذكاء الاصطناعي لا يمكنه إصلاح، بل قد يفاقم، أمراض المعلومات في الأنظمة الاستبدادية. وبالمثل، فقدرات الحرب السيبرانية المدعومة بالذكاء الاصطناعي لن تكون ذات فائدة تذكر إذا فشل القادة في تضمين خطة حرب إلكترونية.
من الحماقة أن نتوقع أن الظروف نفسها التي مكّنت نجاح الذكاء الاصطناعي في التجارة ستتكرر في الحرب. فظروف الحرب المتمثلة في ضبابية العنف والاضطرابات غير المتوقعة والجدل السياسي ستقوّض شرطي الذكاء الاصطناعي الرئيسيين من بيانات قوية وتقييم واضح. وفي الواقع، لا يمكن أتمتة الاستراتيجية والقيادة.
والأسئلة الأهم عن أسباب ومسار وختام الحرب في أوكرانيا (أو أي حرب) لا علاقة لها بالتنبؤ على الإطلاق. فتساؤلات الأهداف الاستراتيجية، والإرادة السياسية، وتحمل المخاطر لقادة مثل فلاديمير بوتين، وفولوديمير زيلينسكي، وجوزيف بايدن، مرتبطة بتقييمات القيم والأهداف والأولويات. والبشر وحدهم هم من يمكنهم الإجابة عنها.
وصحيح أن الذكاء الاصطناعي سيوفر العديد من التحسينات التكتيكية في السنوات المقبلة، إلا أن التكتيكات البارعة ليست بديلاً للاستراتيجيات الضعيفة. فالحروب ناتجة عن سوء التقدير والارتباك، والذكاء الاصطناعي لا يمكنه معادلة الغباء الطبيعي.