نزهة عسكرية.. هذا ما كان يتوقعه الروس عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، ولكن بات السؤال: هل تتطور الأزمة إلى شكل من أشكال الحرب العالمية الثالثة؟ وماذا سيكون موقف بقية العالم من الصراع المرير بين موسكو والغرب؟
عندما بدأت "العملية العسكرية الخاصة" للرئيس فلاديمير بوتين في 24 فبراير/شباط، اعتقد الجنود الروس أنهم سيكونون في كييف في غضون أيام إن لم يكن ساعات، مع قيام البعض بتعبئة زيهم العسكري في عرباتهم المدرعة استعداداً للاحتفالات الوشيكة. كان من المتوقَّع أن تنهار أوكرانيا إذا تُركت وحدها، لكن الأمر لم يسر على هذا النحو.
قال وزير خارجية المملكة المتحدة: إن بريطانيا وحلفاءها الغربيين عليهم إظهار "الشجاعة وليس الحذر"، ومساعدة كييف على إخراج الروس من "أوكرانيا بأكملها".
وقد نُقِلَت تصريحاته على الفور عبر القنوات الإخبارية الروسية دليلاً على أن الحرب هي حرب "بين الغرب وروسيا"، وأنه "تقرَّر في لندن أنها لن تنتهي إلا بعد تحقيق نصر كامل وحاسم على موسكو".
هل بدأت الحرب العالمية الثالثة؟
قال مذيعو التلفزيون وكتَّاب الأعمدة الروس، مراراً وتكراراً: إنهم منخرطون في صراعٍ عالمي وجودي، لكن ما كان يبدو أنه مبالغة جامحة قبل بضعة أسابيع أصبح الآن وجهة نظر ذات مصداقية متزايدة خارج روسيا أيضاً. سُئلت فيونا هيل، التي كانت حتى وقت قريب مديرة الشؤون الأوروبية والروسية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، في مطلع الأسبوع الجاري، عمَّا إذا كان الحديث عن حرب عالمية جديدة محتملة بعيد المنال؛ أجابت بصراحة: "نحن بالفعل فيها، وقد كنَّا فيها لبعض الوقت".
وعندما اجتمع وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في 26 أبريل/نيسان 2022، في ألمانيا مع حوالي أربعين دولة حليفة، بغيةَ توفير مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا، في مواجهة الهجوم الروسي، حذرت موسكو من خطر "حقيقي" لنشوب الحرب العالمية الثالثة.
يجب أن تجبرنا مثل هذه التحذيرات على النظر إلى ما وراء المشاهد المرعبة في ماريوبول وبوتشا وعدد لا يحصى من المدن والبلدات الأخرى، التي تعرَّضت لهجومٍ وصف بالوحشي، من قبل القوات الروسية منذ نهاية فبراير/شباط، ومن ثم تقييم وجهات النظر العالمية الأوسع، بما في ذلك ما يعنيه هذا من منظور الغرب، وبقية العالم بالفعل.
ليس هناك شك في أن الأسابيع المقبلة ستجلب معاناة مروعة إلى شرق أوكرانيا، حتى لو تمكنت الدفاعات الأوكرانية من مواصلة مقاومتها للهجمات الروسية.
لكن ما حدث في الأسابيع التسعة الماضية له بالفعل عواقب زلزالية، وستزداد موجات الصدمة المتولِّدة عنها قوةً وخطورةً خلال الصيف بالنسبة لأولئك الذين يعيشون بعيداً عن الخطوط الأمامية وبعيداً عن أوكرانيا نفسها.
إذ فتح النزاع في أوكرانيا الباب على مصراعيه أكثر من أي وقت مضى، لاندلاع الحرب العالمية الثالثة، التي قد تكون نووية لا تبقي ولا تذر، كما جاء على لسان المسؤولين الروس والغربيين على حد سواء. وفي ظل عجز القوات الروسية عن إسقاط الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي، والسيطرة على العاصمة كييف، تتفاقم المخاوف من لجوء فلاديمير بوتين لاستخدام أسلحة نووية، أقلها التكتيكية منها، والمعروفة بإحداثها دماراً شاملاً في نطاق جغرافي محدود، لكن مع عواقب لا تحمد عقباها.
ومؤخراً، حذّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من خطر نشوب الحرب العالمية الثالثة، وقال: "إنه أمر حقيقي، لا يمكنك التقليل من شأنه". وحذر لافروف الغرب من الاستهانة بالمخاطر المتزايدة لحدوث صراع نووي، وقال: إنه يرى أن إمداد حلف الناتو لأوكرانيا بالأسلحة يعني "في جوهره" أن التحالف الغربي ضالع في حرب بالوكالة مع روسيا. في المقابل، عدَّت الخارجية الأمريكية تصريحات لافروف حديثاً فضفاضاً هو "قمة اللامسؤولية".
مناطق يمكن أن تنتقل إليها المعارك بما يهدد بتوسيع الصراع
وفي تطور لافت، شهدت ترانسدنيستريا، المنطقة الانفصالية في مولدافيا المجاورة لأوكرانيا مؤخراً، وقوع انفجارين، وأبلغت السلطات عن هجوم بقاذفات قنابل يدوية على وزارة في العاصمة تيراسبول. وعزز الحادث المخاوف من تمدد النزاع في أوكرانيا المجاورة. وفي كييف قال مستشار الرئاسة ميخايلو بودولياك: إن "روسيا تسعى لزعزعة استقرار منطقة ترانسدنيستريا؛ ما يعني أن على مولدافيا أن تتوقع وصول 'زوار'"، في إشارة إلى القوات الروسية، مضيفاً: "إذا سقطت أوكرانيا، ستكون القوات الروسية غداً على أبواب كيشيناو"، داعياً إلى "العمل معاً" من أجل أن تضمن كييف "الأمن الاستراتيجي للمنطقة".
وفي الشرق الأقصى، حذرت روسيا مؤخراً اليابان من أنها ستضطر إلى "اتخاذ إجراءات انتقامية" إذا توسعت المناورات البحرية الأمريكية اليابانية على الحدود الشرقية لروسيا.
وقال نائب وزير الخارجية الروسي إيغور مورغولوف: "نحن نرى أن مثل هذه الإجراءات من قبل الجانب الياباني تشكل تهديداً لأمن بلدنا. نحذر طوكيو بشكل مباشر من ذلك من خلال القنوات الدبلوماسية". مضيفاً أن المناورات تصعد التوترات؛ لأنها "ذات طبيعة هجومية محتملة".
وقد تؤدي خطط فنلندا والسويد المحايدتين للانضمام لحلف الناتو، لتفاقم التوتر بين روسيا والغرب، وقد يتحول بحر البلطيق إلى منطقة نزاع جديدة، وحتى الآن لوحت روسيا بإدخال السلاح النووي إلى بحر البلطيق، رداً على انضمام هلسنكي وستوكهولم للناتو، وهدد برلمانيون روس الدولتين الإسكندنافيتين بشكل صريح.
كما أصبح القطب الشمالي منطقة جديدة محتملة للنزاع بين روسيا والناتو، بعد تصريحات روسية تبدي القلق من مناورات حلف شمال الأطلسي في القطب الشمالي، وتحذر من مخاطر وقوع "حوادث غير مقصودة" في المنطقة.
كانت إحدى نتائج الخلاف الغربي الروسي، بعد اندلاع حرب أوكرانيا، التعليق غير المسبوق لعمل مجلس القطب الشمالي، وهو مجموعة من ثماني دول تترأسها روسيا حالياً وتضم أيضاً كندا والدنمارك وأيسلندا والنرويج والولايات المتحدة، (الأعضاء في الناتو)، إضافة إلى فنلندا والسويد، وجاء قرار تعليق عمل المجلس من الجانب الغربي.
وفي مارس/آذار 2022، أجرت قوات الناتو تدريبات تدعى "الاستجابة الباردة" نصف السنوية واسعة النطاق في النرويج، والتي جرت بالقرب من الحدود الروسية، وشهدت مشاركة حوالي 30 ألف جندي من 27 دولة، من بينها فنلندا والسويد، اللتان تفكران في الانضمام إلى حلف الناتو العسكري.
أزمة اقتصادية عالمية
لقد جاء الهجوم الروسي في وقتٍ سيئ وخطير بشكلٍ فريد في الشؤون العالمية؛ فمع اقتراب العالم من الخروج من الجائحة، أدى إغلاق الموانئ التجارية الرئيسة على الساحل الشرقي للصين إلى تراكم مزمن للسفن التي تنتظر القدوم للتحميل؛ ما زاد من الضغوط التضخمية التي بدأت بالفعل في رفع تكاليف العيش، ليس فقط بشكل حاد، ولكن أيضاً بسرعة.
هذه الضغوط التضخمية هي نفسها، بالطبع، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحرب وباستخدام روسيا لمواردها الطبيعية سلاحاً في ترسانتها الدبلوماسية والاقتصادية، ورغم الجهود المبذولة لوقف واردات الوقود، استمر تدفق الوقود الأحفوري من روسيا على نطاق مذهل؛ حيث أشار مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف إلى أن الاتحاد الأوروبي قد أنفق 43 مليار يورو منذ شنِّ الهجوم في المقام الأول على خطوط الأنابيب والغاز الطبيعي السائل والنفط الخام والمنتجات النفطية.
ورغم الحديث عن الحاجة إلى العمل واستقلال الطاقة؛ فإن الحقيقة هي أن التخلِّي عن مثل هذا الاعتماد المفرط المزمن سيستغرق سنوات، أو حتى عقوداً، ومستويات هائلة من الاستثمار في تقنيات أخرى، سيعتمد الكثير منها على المواد الخام مثل النيكل أو الزنك؛ حيث تتمتَّع روسيا أيضاً بموقعٍ مهيمن في الأسواق العالمية على هذه الخامات، إن لم تكن تتمتَّع بقبضةٍ خانقة.
هذه هي مخاطر العولمة: الادعاء بفوائد الأسعار المنخفضة يجعل من المغري للغاية عدم تقييم المخاطر المرتبطة بسلاسل التوريد بشكل صحيح، أو عدم تقييمها على الإطلاق.
دفعت الصدمة المفاجئة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى أزمة، وإلى مستوياتٍ عاليةٍ من التعاون، على الأقل عندما يتعلق الأمر بتنسيق الدعم العسكري لأوكرانيا وخارجها.
وأثارت مثل هذه الالتزامات دهشة العديد من بلدان العالم، التي تتساءل: أين "خطط مارشال" الخاصة بهم، مثل ليبيا أو سوريا أو أفغانستان أو دول أخرى مزقتها الحروب والصراعات في السنوات الأخيرة. وفي حين أن البعض قد يجادل بأن هناك تفسيرات معقولة في كل حالة، فإن ردود الفعل المختلفة على إسكان الفارين من أوكرانيا، في وقت يتعامل الغرب بشكل سيئ المهاجرين الذين جاؤوا في عام 2015 بسبب الحرب في سوريا، قوبلت بانتقادات حادة في بقية العالم، وخاصة الشرق الأوسط.
روسيا تبرز ازدواجية الغرب
ليس من المستغرب أن تسعى الدبلوماسية الروسية إلى الاستفادة من الآراء المنتشرة بأن الغرب كان جيداً في رعاية مصالحه الخاصة، وتجاهل مصالح الآخرين.
قال سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في الصين قبل أن يتوجَّه إلى دلهي في نهاية شهر مارس/آذار: "هناك واقعٌ جديدٌ يتبلور. إن العالم أحادي القطب يتراجع بشكل لا رجعة فيه إلى الماضي، ويولد عالم متعدد الأقطاب. هذه عملية موضوعية لا يمكن وقفها".
تلقى هذه التعليقات صدى جيداً في أجزاء كثيرة من العالم، حيث يدور الحديث عن محاور جديدة للقوة وتعدُّدٍ للأقطاب وعدم الانحياز؛ حيث لا يتعين على الدول الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة/الغرب أو الصين أو روسيا أو غيرها. يبدو أنه يقدم بدائل جذابة لما يمكن أن يوصف بالمعسكر الثالث.
ولكن المشي على الحبل المشدود ليس بالأمر السهل، ويتطلب القدرة على تحمل الضغط من الحلفاء والمنافسين المحتملين، لكن العديد من الدول تشعر أن هذا سيؤدي إلى نتائج أفضل من الانحياز لأحد الطرفين: الغرب أو روسيا.
لكننا نشهد ولادة عالم جديد، عالم مثل جميع سابقيه سيكون مؤلماً بشدة. أوضح لافروف ذلك مؤخراً عندما قال: إن "الأمر لا يتعلق بأوكرانيا على الإطلاق، بل النظام العالمي. إن الأزمة الحالية لحظة مصيرية، تصنع عهداً في التاريخ الحديث. إنه يعكس المعركة حول الشكل الذي سيبدو عليه النظام العالمي".
إن احتمال الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. وكما عبَّرَت فيونا هيل عن بوتين، فإنه "في كل مرة تفكر فيها تقول: "لا لن يفعل. أليس كذلك؟". نعم، سيفعل".
أزمةٌ غذائية تلوح في الأفق
إن التحذيرات المروعة لما قد يحدث داخل الساحة الأوكرانية يجب ألا تحجب الأزمات الحقيقية والوشيكة، وربما التي لا مفر منها، والتي تختمر بالفعل في أماكن أخرى. تواجه قارة إفريقيا ككل مشكلات حادة، وفقاً لصندوق النقد الدولي، الذي حذرت آفاقه الإقليمية الأخيرة من انعدام الأمن الغذائي المزمن، وارتفاع مستويات الفقر، وزيادة عدم المساواة الاقتصادية، واحتمال حدوث اضطرابات اجتماعية.
أدت أهمية أوكرانيا بوصفها منتجاً للحبوب، إلى جانب أسعار الأسمدة التي تضاعفت أربع مرات تقريباً في أكثر من عام بقليل، جنباً إلى جنب مع تباطؤ التجارة العالمية بسبب الوباء والعقوبات والحرب، إلى ارتفاع الأسعار العالمية التي كشفت مئات الملايين من الناس للمخاطر في الأسابيع والأشهر القادمة.