يحيط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسَه بدائرة صغيرة من "الرجال المخلصين" له، يعتمد عليهم في قراراته، وفي الوقت نفسه عندما يحين موعد اختيار خليفته سيكون واحداً من تلك الدائرة، فمن هم رجال بوتين؟
لا يكاد يمر يوم دون حديث في الغرب عن احتمالات سقوط فلاديمير بوتين، وصلت أحياناً إلى دعوات علنية لاغتياله، وربما تكون دعوة جو بايدن لإبعاده أكبر المؤشرات، فهل تشهد روسيا فراغاً في السلطة إذا ما حدث ذلك؟
الحديث عن سيناريوهات سقوط بوتين أو اختفائه من المشهد تَزامَن مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة لمنع عسكرة كييف، ويصفه الغرب بأنه غزو، ومصدره وسائل الإعلام ومعاهد الدراسات السياسية والمسؤولون الغربيون، دون أن يكون لذلك الحديث صدى علني داخل روسيا نفسها.
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "الصراع على السلطة بعد بوتين"، رصد سيناريوهات انتقال السلطة في روسيا، في حالة قرّر بوتين التنحي، أو في حالة وفاته بشكل طبيعي، وماذا يقول الدستور الروسي، ومَن الأقرب لخلافة رجل الكرملين القوي؟
لا علاقة للقصة بأمنيات بايدن
في خطاب ألقاه في أواخر شهر مارس/آذار، انحرف الرئيس الأمريكي جو بايدن عن نصه، وقال جهراً شيئاً عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان يفكر فيه الكثيرون على انفراد: "لا يمكن لهذا الرجل أن يظل في السلطة". سارع مساعدو البيت الأبيض للتراجع عن ملاحظة الرئيس المزعجة، مؤكدين أن هدف الولايات المتحدة في روسيا ليس تغيير النظام.
ومع ذلك، عزَّزَت سخرية بايدن، عن قصد أو بغير قصد، قناعة البعض في واشنطن بأن أبسط طريقة لإنهاء الهجوم الروسي على أوكرانيا هي إنهاء قبضة بوتين نفسه على السلطة. وكما غرَّد السيناتور ليندسي غراهام، الجمهوري، عن ولاية كارولينا الجنوبية، في شهر مارس/آذار، فإن: "الطريقة الوحيدة التي ينتهي بها هذا الأمر هي أن يقوم شخص ما في روسيا بإخراج هذا الرجل".
لكن لا يوجد سبب للاعتقاد بأن بوتين يواجه خطر الاغتيال الفوري، ولا يبدو أن هناك انقلاباً أو ثورة شعبية وشيكة في أي وقت قريب. وفي الوقت نفسه يبلغ بوتين من العمر 69 عاماً، وربما يعاني من اعتلالٍ صحي؛ إذ زعم الصحفيون الاستقصائيون الروس أنه ربما كان مصاباً بسرطان الغدة الدرقية، وسواء مات في منصبه، أو أطيح منه، أو تخلَّى عن السلطة طواعيةً، فإن حكم بوتين على روسيا سينتهي بطريقة أو بأخرى.
لكن بعيداً عن كونه حدثاً لتحقيق الاستقرار فإن النهاية الحتمية لحكمه ستكون لحظة غير مؤكدة وخطيرة على الأرجح بالنسبة لروسيا، بحسب تحليل فورين أفيرز. فعلى مدى العقدين الماضيين، احتفظ بوتين بالسلطة من خلال إضعاف القواعد والمؤسسات الرسمية للبلاد، وإزالة الحواجز التي من شأنها أن تضمن انتقالاً منظماً للسلطة.
ونتيجة لذلك، فإن مجموعة السيناريوهات المعقولة لما سيحدث إذا مات أو ترك منصبه أوسع بكثير مما لو كان على زعيمٍ أمريكي أو حتى زعيم صيني أن يفعل الشيء نفسه. ورغم أن الدستور الروسي ينص على عملية انتخاب زعيم جديد، من المُرجَّح عملياً ألا يتم تحديد الرئيس الروسي القادم إلا بعد صراعٍ خلف الكواليس بين النخب. بعبارةٍ أخرى، من خلال بناء أوتوقراطية شخصية للغاية، جعل بوتين من المستحيل التنبؤ بما سيحدث عندما يُحدِث الله أمراً كان مفعولاً.
ما المفترض أن يحدث؟
من الناحية القانونية، من الواضح ما الذي يجب أن يحدث إذا ترك بوتين منصبه بشكل غير متوقع: وفقاً للدستور الروسي، إذا كان الرئيس "غير قادر على أداء واجباته"، يصبح رئيس الوزراء رئيساً بالإنابة لمدةٍ لا تزيد عن ثلاثة أشهر أثناء تنظيم الانتخابات.
ورغم أن روسيا ليست دولة ديمقراطية بالمفهوم الغربي، فإن الانتخابات هناك لا تزال تحمل وزناً إجرائياً رسمياً. مرَّت البلاد بما يقرب من ثلاثة عقود من الانتخابات المنتظمة منذ عام 1993.
وبحسب تحليل المجلة الأمريكية، أصبحت الانتخابات في روسيا بشكل تدريجي أقل شفافية في ظل حكم بوتين، لكن القواعد الانتخابية لا تزال تحدِّد أسئلة مثل التوقيت، والإجراءات، ومدة الولاية. ومع ذلك فهي لا تحدِّد مَن الذي سيترشح لمنصب، أو من الذي يحصل على دعم الكرملين، إذ تُحدَّد هذه الأشياء من وراء الكواليس من قِبَلِ بوتين ومجموعة صغيرة من النخب.
على مدار السنوات العشرين الماضية سيطر بوتين على المؤسسات الرسمية في البلاد، وجعل من نفسه مركزاً لكل شيء، وأعاد كتابة الدستور مرتين؛ أولاً لتمديد مدة الفترات الرئاسية، ثم "إلغاء" خدمته السابقة، حتى يتمكن من البقاء في المنصب حتى عام 2036. وقلَّصَ مجلسي البرلمان والمحكمة الدستورية في روسيا ليصبحا دُمى في يده، علاوة على ملاحقة وحظر وسجن أو قتل أيٍّ من مرشحي المعارضة القادرين على تحديه.
في حالة وفاة بوتين أو ترك منصبه بشكل غير متوقع، فإن التحالفات بين النخب ستكون على الأقل بنفس أهمية القواعد الرسمية في تحديد من سيخلفه. السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن يصبح رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين رئيساً بالإنابة، مثلما تملي القواعد الرسمية، وسيكون أمام مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي أسبوعان لجدولة الانتخابات.
خلال ذلك الوقت، ستجري معركة شرسة خلف الكواليس لتحديد مرشح توافقي من بين اللاعبين الرئيسيين الذين يشكلون فريق بوتين. فبيت القصيد من الاستبداد الانتخابي في المقام الأول هو معرفة الفائز مقدَّماً.
وبصفته الرئيس الجديد -وإن كان بالإنابة- ستكون لدى ميشوستين ميزة كبيرة في صراع الخلافة هذا، فهو واحد من حفنة صغيرة من السياسيين في الدرجة الثانية بعد بوتين من حيث الثقة العامة. لقد حصل على معدلات قبول عالية باستمرار، حتى قبل أن يتسبَّب الهجوم على أوكرانيا في ارتفاع معدلات التأييد له.
من بعض النواحي، كان يسعى ميشوستين إلى اتباع نفس المسار الذي سلكه رئيس وزراء آخر عديم اللون إلى الرئاسة. عشية رأس السنة الجديدة عام 1999، تولى بوتين منصب الرئيس بالنيابة عندما استقال بوريس يلتسين بشكل غير متوقع، بعد ثلاثة أشهر، انتُخِبَ بوتين رئيساً رسمياً، بعد أن تنحَّى متنافسون بارزون آخرون جانباً وانحازت معظم النخب لترشيحه.
ميشوستين وافد جديد نسبياً إلى أعالي السياسة الروسية، عيَّنه بوتين رئيساً للوزراء في يناير/كانون الثاني 2020، وكان سابقاً رئيس دائرة الضرائب الفيدرالية في روسيا. أُحضِرَ للإشراف على القضايا الاقتصادية وتحسين كفاءة الحكومة، لكنه أقام علاقات مع المطلعين الرئيسيين الآخرين، ووفقاً للمحللة الروسية تاتيانا ستانوفايا، التي تقول عنه إنه "زاد من ثقله السياسي". وللمفارقة، الشيء الوحيد الذي قد يكون ليس في صالح ميشوستين هو سنه الصغيرة نسبياً (56 عاماً). في الواقع، الحرس القديم قديم جداً، وقد يفضل الكثيرون واحداً منهم على رئيس أصغر سناً وطموحاً.
هل يكون ميشوستين خليفة بوتين؟
من المرجح أن يكون لميشوستين اليد العليا في أي تدافع لخلافة بوتين، لكنه ليس المرشح الوحيد، ليس لدى روسيا سلسلة خلافة رسمية بخلاف رئيس الوزراء، وهذه فجوةٌ قانونيةٌ هائلة، لكن آخرين يأملون في كسب عدد كافٍ من الحلفاء لتولي منصب الرئاسة قد يحاولون القيام بذلك من مجلس الأمن، وهو هيئة تضم كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين.
ورغم غياب أيٍّ منهم في التسلسل الرسمي للخلافة، فإن المتنافسين المحتملين على المنصب الأعلى هم سيرغي شويغو (وزير الدفاع)، وديمتري ميدفيديف (الرئيس السابق ونائب الرئيس الحالي لمجلس الأمن الروسي)، وفياتشيسلاف فولودين (المتحدث باسم مجلس الدوما)، وسيرغي سوبيانين (عمدة موسكو).
وبالنظر إلى انقسامات النخبة الروسية وانخفاض مستويات الدعم الشعبي الذي تتمتع به معظم هذه الشخصيات، فمن الصعب تخيّل أن يتفوق أي منهم على ميشوستين في المناورة ليصبح المرشح التوافقي. على الأرجح سيستنتج الجميع أن الصراع على السلطة مخاطرةٌ كبيرة، وأن من الأفضل العيش للتصارع في يومٍ آخر.
ومع ذلك، من المحتمل أن يتحدى أحدهم ميشوستين، إما في فترة الأسبوعين التي يُحدَّد خلالها مرشح الكرملين، أو في الانتخابات الخاصة اللاحقة كمرشح مستقل. في هذا السيناريو سيكون لدى ميشوستين ميزة التحكم في الروافع الرئاسية للسلطة، بما في ذلك التلفزيون الحكومي ولجنة الانتخابات المركزية، ولكن إذا قرر شخص آخر من دائرة بوتين يتمتَّع بمكانةٍ وطنية التنافس علناً على السلطة، فسيشهد العالم شيئاً لم يشهده منذ عام 1996: انتخابات رئاسية روسية لم تُحسَم نتائجها مسبقاً.
هناك أيضاً إمكانية تقديم محاولة غير دستورية لمنصب الرئاسة، تمتلك العديد من الوكالات الروسية، من الناحية النظرية، القدرة على القيام بانقلاب، ليس فقط الجيش بل أيضاً خدمة الحرس الفيدرالي والحرس الوطني وجهاز الأمن الفيدرالي. لكن من الصعب تخيُّل قدرة أيِّ شخص على حشد كل تلك القوات تحت رايةٍ واحدة، خاصة في زمن الحرب.
تاريخياً، عمل القادة الروس بجد لتجنب المواقف التي قد تُستخدَم فيها هذه القوى لموازنة بعضها البعض. وربما الأهم من ذلك أن القادة العسكريين الروس يذعنون للنخب المدنية منذ فترة طويلة. لقد مرَّ قرنان منذ أن قدم الجيش محاولة للحصول على السلطة، عندما توفي حاكم في منصبه، ويبدو أن تكرار ثورة الديسمبريين عام 1825 -التي سرعان ما انهارت- أمرٌ مُستبعَد للغاية في روسيا اليوم.
أحد السيناريوهات الأخيرة التي يمكن أن تقلل من عدم اليقين هو أن يقوم بوتين بمغادرة مخطَّط لها -لأسبابٍ صحية على سبيل المثال- وتعيين خليفة له. إن نقل بديل مختار بعناية إلى رئاسة الوزراء قبل ترك منصبه سيسمح لبوتين بتوحيد مجموعات النخب المتنافسة، وبالتالي زيادة احتمالات الخلافة المنظمة. إذا اختار بوتين هذا الطريق فليس هناك سببٌ وجيه للاعتقاد بأنه سيُبقي على ميشوستين، الذي كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه تكنوقراط، عندما عُيِّنَ رئيساً للوزراء.