تمكن الروبل الروسي من العودة لمعدلات ما قبل الحرب الروسية في أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير/شباط 2022، وبعد كل العقوبات الغربية على روسيا بهدف إخضاعها، بدأ اليورو رحلة هبوط كبير أمام الدولار، حتى وصل إلى أدنى قيمة له منذ عام 2017. فهل تكون أوروبا أكبر خاسر من استخدام سلاح العقوبات ضد روسيا؟
لماذا ارتفع الروبل وهبط اليورو إلى هذا الحد؟
عند بدأت الحرب الروسية في أوكرانيا؛ كان اليورو عند 0.88 للدولار الواحد، وهو اليوم عند 0.94، بانخفاض 6%، ورغم أنها ليست نسبة كبيرة، ولكن الفارق بينها وبين انخفاض الروبل هو الاستمرارية، بل وتوقعات استكمال هذا المسار لاحقاً، والوصول إلى 1 يورو للدولار الواحد، وربما أسوأ من ذلك في المستقبل القريب.
فرغم أن الاقتصادات الأوروبية أقوى من نظيرتها الروسية، لكن ذلك لا يعني حصانتها من أثر الحرب والعقوبات، وأن روسيا لن تكون الوحيدة التي تتأثر بما يحصل اليوم؛ علماً أن الاقتصاد الروسي الأضعف أكثر قدرة على احتمال الآثار السلبية، مقارنة بالمواطنين الأوروبيين الذين لن يستطيعوا احتمال تغير حياتهم بشكل كبير، أو الدخول في أزمة ركود اقتصادية نتيجة لموقف سياسي متشدد، وقد يمكن تخفيفه لتخفيف أعباء الحياة.
1- الحرب والخوف من وقوعها
ابتدأ الأمر قبل بداية الحرب في أوكرانيا، ولكن جزئياً أيضاً بسبب المخاوف من بدء الحرب قبل 24 فبراير/شباط 2022، والذي قرأته الأسواق بوصفه ضربة لأسعار الطاقة، التي تعد أساسية جداً للاقتصادات الأوروبية واستقرارها.
كما أن أوروبا، مثل بقية العالم، تحاول استكمال مساري التعافي من الآثار الاقتصادية المدمرة لجائحة كورونا، والتي لم يمر عليها إلا سنتان حتى الآن، وتحتاج لوقت أطول لاستكمال هذا التعافي، وسط استمرار أزمات سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالمياً، والتي تسببت بارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق.
2- قرارات الفيدرالي الأمريكي
ولكن يضاف إلى كل ذلك أسباب مالية أخرى؛ تجعل المستثمرين يبتعدون أكثر عن اليورو، ويتحولون إلى الدولار بدلاً منه، ولسوء حظ أوروبا فقد جاءت هذه الأسباب بالتزامن مع الحرب الأوكرانية.
فقد ضرب التضخم الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مسبوق منذ عقود، بعد أن انتهى الفصل الأصعب من جائحة كورونا، وعليه فإن الفيدرالي الأمريكي واجه ضغوطاً كثيرة للبدء بالتراجع عن سياساته النقدية السابقة.
كانت هذه الإجراءات السابقة تهدف إلى تقليص أثر الجائحة، وتحفيز الاقتصاد والنشاط؛ لا في الولايات المتحدة فقط، بل في العالم كله أيضاً؛ ما يخفف من الأثر الانكماشي على الاقتصاد، ويجعل بالإمكان تعافي الاقتصاد بصورة أسرع من أثر الإغلاقات الاقتصادية.
تمثلت هذه الإجراءات برفع معدلات خلق النقود من قبل الفيدرالي بصورة غير مسبوقة، وبخفض أسعار الفائدة حتى أصبحت مقاربة للصفر، ولكن هذه الإجراءات تسهم في إنتاج التضخم في الاقتصاد، نتيجة لارتفاع الطلب بسببها.
وعليه؛ فقد أصدر الفيدرالي الأمريكي أول رفع لسعر الفائدة منذ 4 سنوات، بهدف محاربة التضخم، ولكن رفع سعر الفائدة له تأثيرات أخرى أيضاً، وأحدها رفع جاذبية الدولار الأمريكي مقابل غيره.
فعند رفع سعر الفائدة يرتفع العائد المتوقع من الاستثمار في أصول مالية مقومة بالدولار الأمريكي، وهو ما يعني ارتفاع الطلب على الدولار نفسه، وارتفاع قيمته.
ولن يقف الفيدرالي عند ذلك؛ فالمتوقع أنه سيرفع أسعار الفائدة أكثر من مرة خلال العام الحالي، وهو ما يعني ازدياد الفرق بين سعر الفائدة الأمريكية، وسعر الفائدة الأوروبية، وبالتالي ازدياد الفرق في جاذبية الاستثمار في كل منهما.
إلى أين يتجه اليورو؟
لا يمكن التنبؤ بدقة بالمسار الذي سيتخذه اليورو في قادم الأيام، ولكن إذا استمر على مساره الحالي فسيصل على الأقل إلى أن يساوي دولاراً واحداً، وقد ينخفض عن ذلك أكثر أيضاً.
إحدى أهم إشارات إمكانية انخفاض اليورو أكثر في المستقبل هو مقارنته بعملات أخرى في العالم، انخفضت بشدة أكبر منه خلال الفترة الماضية، رغم أن بعض الدول قد لا تتأثر اقتصادياً بالتأثير نفسه الذي تشهده أوروبا، أو ما يمكن أن يحصل في قادم الأيام.
فاليورو هو أفضل العملات أداءً مقارنة بكل من عملات اليابان، وبريطانيا، والسويد، وهذا كله يعني أنه ما زال هناك متسع أمام اليورو للانخفاض أمام الدولار أكثر مما حقق من خسائر سابقاً.
جاءت هذه الخسائر الجديدة، والوصول إلى أدنى مستوى منذ خمس سنوات، بالترافق مع إعلان روسيا قطع الغاز عن بولندا وبلغاريا، بعد رفضهما الالتزام بسداد دفعات الغاز الروسي بالروبل، بدلاً من اليورو أو الدولار.
وتسبب القرار الروسي برفع أسعار الغاز في أوروبا، وهي في ارتفاع مستمر منذ بدء الهجوم الروسي العسكري على أوكرانيا أصلاً، والمتوقع أن تؤدي هذه الأحداث كلها إلى إضعاف الاقتصاد الأوروبي، والإخلال بمسار التعافي الاقتصادي، في أوروبا والعالم كله.
توقعات النمو الأوروبي في انخفاض
صحيح أن روسيا ستكون أكثر تضرراً من غيرها بالعقوبات الاقتصادية؛ فالمتوقع أن ينكمش اقتصادها بنسبة 9% تقريباً خلال العام الجاري، ما لم يعلَن عن حظر استيراد الطاقة من روسيا، وعندها قد يصل الانكماش إلى نسب أعلى بكثير؛ ولكن ذلك لا يعني أنها الطرف الوحيد المتضرر، بل غيرها سيتضرر أيضاً.
فالمتضرر الأكبر من الأزمة الحالية ستكون أوكرانيا نفسها؛ والمتوقع أن ينكمش اقتصادها بنسبة 45% خلال العام الجاري، أي أنها ستفقد ما يقارب نصف الإنتاج خلال شهور فقط! وهي نسبة ضخمة جداً، لن يصلها الانكماش الروسي بالمطلق على الأرجح.
وقبل الحرب؛ خفضت توقعات النمو الأوروبي من 4.3%، إلى 4% خلال عام 2022، ثم خفض لاحقاً بنسبة 1%، ليصبح النمو المتوقع 3% فقط في عام 2022، وهي نسبة منخفضة جداً بالمقارنة مع ما يحتاجه الاقتصاد الأوروبي للخروج من آثار الجائحة.
كل هذه المؤشرات خطيرة بالنسبة للعملة الأوروبية، خصوصاً إذا قرر الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار فائدته أكثر من مرة خلال هذا العام، ولم تفعل أوروبا ذلك بشكل متناسب مع الارتفاع الأمريكي.
ولكن هذا ليس كل شيء؛ بالعادة يقرر الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة بنسبة 0.25%، ومن النادر جداً أن ترفع بنسبة أعلى من ذلك في مرة واحدة، ولكن المرجح اليوم أن الفيدرالي يخطط لرفع سعر الفائدة بـ 0.5% مرة واحدة بداية مايو/أيار القادم.
في حال حصول ذلك فإن الضغوط على العملة الأوروبية سترتفع أكثر، ومع التوقعات بأن الفيدرالي الأمريكي سيرفع سعر الفائدة 6 مرات خلال هذا العام؛ قد يكون بينها نسب 0.5%، فهذا يعني أن أوروبا ستحتاج لفعل الكثير لتستطيع موازاة الفيدرالي الأمريكي.
وفي حال قررت أوروبا أن الأسلم لها عدم رفع سعر الفائدة، وترك فرق كبير بينها وبين أسعار فائدة الفيدرالي الأمريكي؛ فذلك يعني انسحاب عدد أكبر من المستثمرين من أوروبا، والتحول أكثر للدولار الأمريكي بدلاً من اليورو، وربما بوتيرة أسرع، ما يعرض اليورو لخطر الهبوط أكثر وأكثر.
ومن الطبيعي حينها أن يرتفع خطر التضخم؛ على الأقل في الدول الأوروبية ذات العجز في الميزان التجاري (الصادرات – الواردات)؛ لأنها ستضطر لشراء السلع بثمن أكبر، نتيجة لانخفاض قيمة اليورو.
وستضاف هذه العوامل إلى التضخم العالمي، ومشكلات سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الطاقة، ومخاطر حصول الركود، لتعقد من المشهد الاقتصادي في أوروبا أكثر، وقد لا يكون اليورو الضحية الوحيدة للوضع؛ ما لم تجد أوروبا السياسات الاقتصادية المناسبة للخروج من الأزمة.