تسيطر روسيا اليوم على نحو 80% من شواطئ أوكرانيا، حسب حدودها الأصلية، وفي حال قدرتها على تأمين السيطرة على كامل ماريوبول فإن هذه الشواطئ ستصبح مؤمّنة بالكامل بالنسبة لروسيا، وستمكنها من استخدام موانئ هذه الأراضي بشكل آمن وكامل، بحسب Foreign Policy.
تمثل الشواطئ التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا خطاً على الشواطئ الجنوبية في أوكرانيا، على بحر آزوف تحديداً، بطول أكثر من 400 كيلومتر، بما في ذلك أهم وأكبر ميناء في منطقة بحر آزوف، وهو ميناء ماريوبول.
تقول روسيا إنها تسيطر الآن على كامل المدينة، باستثناء جيب واحد للمقاومة الأوكرانية، التي تتمركز في أحد مصانع المدينة، والذي يقع على شواطئ المدينة على البحر، وقد أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزير دفاعه بعدم اقتحام المصنع، وإقامة حصار كامل عليه بدلاً من ذلك، لمنع دخول أو خروج أي شيء من المصنع، مع توجيه لمن فيه للاستسلام، ووعدهم بمعاملتهم معاملة جيدة.
في حالة استسلام من في المصنع، أو قدرة القوات الروسية على اقتحامه، أو حتى التفاوض مع الأوكرانيين لإجلاء من في داخل المصنع إلى خارجه، إلى أي نقطة أخرى لا تزال تحت السيطرة الأوكرانية خارج ماريوبول، فذلك سيعني تأمين الخط الساحلي الجنوبي الذي تسيطر عليه روسيا، بكل الموانئ التي تحتوي عليها.
وليس هذا فحسب، بل إن المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا تعتبر مهمة صناعياً لأوكرانيا، فدونباس يعتبر قلب أوكرانيا الصناعية، ويحتوي أيضاً على رابع أكبر منجم فحم في أوروبا، ورغم أن المنطقة المحيطة بمدينة دونيتسك لا تكون إلا 5% من إجمالي مساحة أوكرانيا، ويسكنها 10% فقط من السكان، إلا أنها تنتج 20% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، أو على الأقل كان كذلك في عام 2014.
فما الذي ستعنيه السيطرة الكاملة على الشريط الساحلي؟ سواء بالنسبة للاقتصادين الروسي أو الأوكراني، وأيضاً للتجارة الأوكرانية مع منطقة الشرق الأوسط تحديدا؟
أوكرانيا تفقد غالبية الشواطئ والموانئ
يعتمد الاقتصاد الأوكراني كثيراً على التجارة الخارجية، التي يتم إجراء جزء كبير منها عبر بحر آزوف وموانئ أوكرانيا عليه، وسيدفع الاقتصاد الأوكراني على المديين القصير والطويل ثمناً غالياً للحرب، نتيجة خسارة هذه الموانئ، والسيطرة الروسية عليها، فضلاً عن الخسارة السياسية الوطنية والرمزية.
كما أن السيطرة الكبيرة على هذه الشواطئ قد تدفع روسيا لاحقاً للسيطرة الكاملة على الشريط الساحلي الأوكراني، وتحويل أوكرانيا إلى بلد غير ساحلي، مقفل بشكل بري على نفسه، وسيعني ذلك ضرورة دخول مدينة أوديسا الأوكرانية أيضاً، وقبلها مدينة ميكولايف.
بسبب كل هذه الأحداث؛ ولكن تحديداً بسبب الحصار البحري الذي تفرضه روسيا على أوكرانيا، فالمتوقع أن ينكمش الاقتصاد الأوكراني في عام 2022 بنسبة 45% في عام واحد، ورغم أن الأرقام الرسمية لم تصدر بعد عن حجم اقتصاد أوكرانيا في عام 2021، ولكن المتوقع أنها وصلت إلى 155 مليار دولار.
يعني ذلك أن الاقتصاد سيرجع إلى الحجم الذي كان عليه قبل 18 عاماً في 2004، بحسب بيانات البنك الدولي، وقد تتضرر إمكانيات الاقتصاد إلى الأبد، بحيث تحتاج أوكرانيا لأكثر من 18 عاماً أخرى للعودة إلى مستويات عام 2021، بسبب الخسارة الاقتصادية الفادحة للموانئ والمناطق الصناعية في الجنوب والشرق.
علماً أن الاقتصاد الأوكراني كان حجمه أكبر في عام 2013 من حجمه في عام 2021، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي في أوكرانيا عام 2013 أكثر من 180 مليار دولار، ولم يستطع خلال السنوات الماضية العودة إلى ذلك الحجم مطلقاً، وكان المتوقع قبل الحرب أن يصل الاقتصاد الأوكراني في عام 2022 إلى حوالي 175 مليار دولار.
تظهر المقارنة بين نمو أوكرانيا وروسيا منذ عام 2014 تصوراً ممكناً عن آثار الحرب والعقوبات على البلدين في المستقبل، فبينما انكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 2% في عام 2014، وعاد بعدها للنمو الموجب ولو بنسب قليلة، انكمش الاقتصاد الأوكراني بنسبة مقاربة لـ10% في عامي 2014-2015، أي أن الاقتصاد الأوكراني خسر أكثر من خمس حجمه خلال عامين فقط، واحتاج لأكثر من سبع سنوات بعدها لاستعادة جزء مما فقده.
أما الحرب الحالية فهي ستُفقد أوكرانيا أكثر بكثير مما أفقدتها بعد ضم القرم وحرب دونباس الأولى، فحجم الأراضي التي خسرتها أكبر، ومعها غالبية موانئها البحرية، بالإضافة إلى أن العمليات العسكرية شملت أراضي أكثر، ووصلت إلى كييف وخاركيف وأوديسا، بالقصف الجوي والصاروخي على الأقل.
كيف قد تستفيد روسيا من الشريط الساحلي؟
فضلاً عن النصر السياسي والعسكري والمعنوي لروسيا بتحقيقها للسيطرة على غالب الشريط الساحلي، وموانئ أوكرانيا على البحر، وإحياء مشروع "روسيا الجديدة"، وتحقيق ربط القرم بدونباس، وربما لاحقاً، وبالاعتماد على نتيجة معارك الشرق قد تتوسع روسيا غرباً باتجاه أوديسا.
وليس ذلك فحسب، فإن استطاعت روسيا الوصول إلى أوديسا، وحدود أوكرانيا الغربية فيها، فذلك سيعني أن روسيا ستربط أراضيها الرئيسية (Mainland) بالأرض المسيطرة عليها روسيا في مولدوفا، والتي لا تربطها حدود مشتركة بالأراضي الروسية، والتي تشبه قصتها قصة دونباس أيضاً.
وبالطريقة نفسها التي فقدت فيها أوكرانيا جزءاً من اقتصادها بسبب خسارة دونباس وغيرها من الشرق والجنوب، فإن هذا الجزء من الاقتصاد الأوكراني سيضاف إلى الاقتصاد الروسي، ومعه كل الفوائد السياسية والاستراتيجية والعسكرية أيضاً، بما في ذلك إضعاف أوكرانيا، وجعلها مطوقة من الشمال والجنوب والشرق بالوجود الروسي، على الأقل الجزء الشرقي منها.
لكن المعضلة الأساسية في وجه الاستفادة من هذه الموانئ ستبقى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، والتي ستشمل بالتأكيد كل الأراضي الأوكرانية المسيطر عليها من قبل موسكو والانفصاليين التابعين لها، وسيشمل ذلك حظراً للتجارة مع هذه المناطق، ومع الموانئ الموجودة فيها.
وعليه ستجد روسيا صعوبة كبيرة في الاستفادة منها كما يجب، إلا إذا كانت تخطط للاستفادة منها محلياً، أو وجدت طرقاً للتصدير لوجهات لن تتأثر بالعقوبات الغربية، كالدول الحليفة لموسكو، أو الدول التي ترفض الالتزام بالعقوبات، وهذا لا يقتصر على الصين وحدها، بل يشمل الهند أيضاً ودولاً أخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
كما أن السيطرة على هذه السواحل تعني انكشافاً روسياً أكبر على البحر الأسود، و"المياه الدافئة"، التي لطالما سعت موسكو للوصول إليها، ولا يقتصر الانكشاف على الأبعاد السياسية والتجارية فحسب، بل هي مساحة أكبر للأسطول الروسي أيضاً.
ومن أهم ما تتعلق به مسألة السيطرة الروسية ومستقبل عمل هذه الموانئ، أنها كانت إحدى أهم نقاط تصدير أوكرانيا لمنطقة الشرق الأوسط تحديداً، ولغيرها من دول العالم، ولكن كثيراً من صادرات أوكرانيا الغذائية تحديداً كانت تمر من هذه السواحل.
من الصحيح أن دول الشرق الأوسط المعتمدة على القمح الأوكراني عليها البحث عن بديل على المدى القصير، لكن الاستيراد من أوكرانيا لم يكن اعتباطياً أيضاً، فقد كان خياراً أفضل من بدائل أخرى، وبالتالي سيكون مفيداً على المدى البعيد لو استطاعت هذه الدول العودة لاستيراد القمح الأوكراني، ولو عن طريق الموانئ المسيطر عليها من قبل روسيا.
لكن العقوبات الغربية ستحول دون ذلك على الأغلب، وبسبب فارق القوة الكبير فالأغلب أن الوضع الحالي في الجنوب الأوكراني سيبقى على ما هو عليه لسنوات، وربما عقود قادمة، وإذا استمرت العقوبات على روسيا كما هي عليه الآن، فذلك قد يعني بالنسبة لكثير من دول الشرق الأوسط انتهاء الخيار الأوكراني من الغذاء إلى الأبد، وضرورة توفير بدائل أخرى دائمة، وربما بكلفة أعلى.
أما إذا استطاعت روسيا أن تسيّر التجارة من هذه الموانئ ولو بشكل أضعف مما كان عليه سابقاً، سواء بسبب تخفيف العقوبات لأهمية الصادرات الأوكرانية للعالم، أو بسبب أن كثيراً من الدول المستوردة اختارت عدم الالتزام بالعقوبات حفاظاً على أمنها الاقتصادي، فذلك سيكون نصراً استراتيجياً عظيماً لروسيا على المدى البعيد؛ اقتصادياً بالشكل المباشر، ولكن سياسياً أيضاً.
مثل هذا الاحتمال يعني تفتيتا أكبر للهيمنة الغربية في العالم، ويعني بالضرورة أن هذه الهيمنة قد تضرب في إحدى نقاط قوتها الأهم، وهي السيطرة على التجارة العالمية والنظم المالية والاقتصادية، بسبب أن العقوبات لا تتماشى مع الأمن الغذائي، حتى لدول حليفة للغرب والولايات المتحدة مثل مصر، وقد لا تستطيع حكوماتها احتمال النتائج الداخلية للالتزام بالعقوبات الغربية على المدى البعيد، ولكن كل ذلك يبقى احتمالات فقط.