عطلت الحروب الزراعة عبر التاريخ وأدت إلى أزمات غذائية كبيرة، واليوم تعد الحرب الروسية في أوكرانيا حرباً بين قوتين للإنتاج الزراعي، لها عواقب لم يسبق لها مثيل على الزراعة والأمن الغذائي العالميين. وبعد نحو شهرين من الحرب، كانت ملامح هذه العواقب واضحة، حيث توقفت الصادرات الغذائية والزراعية من أوكرانيا، كما أن تأمين المحاصيل المستقبلية ما يزال موضع شك، وارتفعت أسعار السلع والغذاء عالمياً، وكانت المناطق الأكثر تعرضاً للأزمة هي التي تعتمد على الصادرات الزراعية من أوكرانيا وروسيا إلى إطعام مواطنيهم أو الأسمدة من روسيا وبيلاروسيا لإنتاج طعامهم. لكن كيف ينعكس ذلك تحديداً على المنطقة الأوروبية المجاورة، وهل تهدد الحرب الروسية الأوكرانية الأمن الغذائي لأوروبا؟
1- هل تهدد الحرب الروسية الأوكرانية الأمن الغذائي لأوروبا؟
تمثل روسيا وأوكرانيا اللتان تعتبران بمثابة "سلة خبز عالمية"، 29٪ من صادرات القمح العالمية، و19٪ من صادرات الذرة و78٪ من صادرات زيت دوار الشمس. لكن الحرب تسببت في تعطيل إنتاج الغذاء وزادت من تضخم أسعاره، وحظرت روسيا صادرات الحبوب فيما تعد عملية حصاد المزروعات في أوكرانيا صعبة وغير مؤكدة حتى اللحظة.
وسلّطت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) الضوء على أن مؤشر أسعار الغذاء العالمي بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق في مارس/آذار من هذا العام، وهو أعلى مستوى منذ إنشاء الفاو في الأربعينات.
وداخل الاتحاد الأوروبي، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والكحول والتبغ وغيرها بنسبة 4.1٪ في فبراير بعد زيادة بنسبة 3.5٪ في يناير/كانون الثاني، بحسب بيانات المؤشر الأوروبي.
لكن تقول مؤسسة "بيرد لايف" Birdlife الأوروبية إن التهديد الحقيقي للأمن الغذائي يقع في البلدان الفقيرة، ولا سيما في البلدان التي تعتمد بشدة على الواردات من أوكرانيا، كما هو الحال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مشيرة إلى أن الأمر في أوروبا يتعلق أكثر بالتضخم، حيث إن الحبوب وزيت عباد الشمس وحفنة من السلع الأخرى ستواجه على الأرجح صدمة في المعروض، لكن من المهم أن نفهم أن هذا الأمر يتعلق بالمستقبل القريب.
2- ما حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وكل من روسيا وأوكرانيا؟
يقول تقرير لإذاعة صوت ألمانيا Deutsche Welle إن الاتحاد الأوروبي كان شريكًا تجاريًا رئيسيًا لمنتجات غذائية زراعية مختلفة مع كل من روسيا وأوكرانيا. ووفقًا لتقرير صادر عن البرلمان الأوروبي قبل اندلاع الحرب، أرسل الاتحاد الأوروبي 3.7٪ من إجمالي صادراته من الأغذية الزراعية إلى الاتحاد الروسي وحوالي 1.4٪ من وارداته جاءت من روسيا.
وفيما تضمنت صادرات الاتحاد الأوروبي من الأغذية الزراعية: فول الصويا وحبوب الكاكاو والبذور الزيتية والعسل، شملت الواردات من روسيا البذور الزيتية والقمح ومكونات الأعلاف والأسمدة الزراعية.
وفي الوقت نفسه، استحوذت أوكرانيا على 36٪ من واردات الحبوب إلى الاتحاد الأوروبي و 16٪ من البذور الزيتية. بدوره، صدّر الاتحاد الأوروبي بما قيمته أكثر من 3 مليارات يورو من المنتجات الغذائية الزراعية إلى أوكرانيا في عام 2021.
ومع ذلك، وفقًا للمفوضية الأوروبية، يمكن للتكتل أن يتغلب بسهولة على حالة عدم الاستقرار التي سببتها الحرب في أوكرانيا. وقالت المفوضية في بيان: "إن الاتحاد الأوروبي يتمتع بالاكتفاء الذاتي من الغذاء إلى حد كبير، مع وجود فائض هائل في الأغذية الزراعية، ويمكن مرة أخرى أن يُتوقع أن تثبت السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي قدرتها على امتصاص الصدمات".
ونشرت المفوضية تقريراً في أوائل أبريل/نيسان، يتضمن تدابير لمساعدة مزارعي الاتحاد الأوروبي على زيادة الإنتاج المحلي من الحبوب مثل القمح والذرة والبذور الزيتية.
وسبق للمفوضية أن حذرت بالفعل من أن ارتفاع تكاليف المدخلات في عمليات الإنتاج الزراعي قد يتسبب في استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية، مما يضرب مجتمعات الاتحاد الأوروبي الأكثر فقراً.
كما أن الأمن الغذائي خارج الاتحاد الأوروبي يتأثر أيضًا بالصراع، إذ إن هناك بعض الدول في شمال إفريقيا تعتمد بشكل كبير على الواردات من روسيا وأوكرانيا لتحقيق أمنها الغذائي. ويحتاج الاتحاد الأوروبي إلى إعادة توجيه الإمدادات الغذائية إلى هذه المناطق أيضاً.
3- أزمة الأسمدة التي تهدد محاصيل المزارعين الأوروبيين
أدت الحرب كذلك إلى زيادة أسعار الأسمدة، مما جعل تكاليف الإمدادات الغذائية أكثر تكلفة وأثار غضب المزارعين في العديد من البلدان الأوروبية. ونظم المزارعون في اليونان وفرنسا وإسبانيا بالفعل مظاهرات تطالب الاتحاد الأوروبي بضرورة دعمهم في معالجة ارتفاع تكاليف الأسمدة، والتي يخشى الكثيرون من تأثيرها على عملية إنتاج الغذاء.
وبينما أعلنت المفوضية الأوروبية أن المزارعين سيحصلون على مزيد من الإعانات من الاتحاد الأوروبي للتعامل مع ارتفاع تكاليف الوقود والأسمدة، قال بيكا بيسونين، الأمين العام لمجموعة الضغط الزراعية الأوروبية كوبا كوجيكا Copa-Cogeca، لـ DW: "لقد رأينا ذلك قبل الحرب، كانت هناك زيادة هائلة في أسعار الأسمدة والطاقة وتكلفة العمالة ".
وأضاف بيسونين أن هذه "التكاليف الإضافية كان من الصعب للغاية شرحها لباقي مكونات "سلسلة القيمة" وهما قطاع الصناعات الغذائية وتجار التجزئة".
ويجادل أرييل برونر من منظمة Birdlife بأنه في حين بات من الواضح أن المزارعين يكافحون للإنتاج وسط هذه الأجواء، كشفت هذه الحرب أيضاً عن مشاكل النظام الزراعي الحالي في الاتحاد الأوروبي.
ويقول برونر: "أصبح الاعتماد الشديد على الوقود الأحفوري مشكلة واضحة وبدأ بعض المزارعين الآن أيضاً في إدراك أنهم يجب أن يكونوا أقل اعتمادًا على الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية وأن يلجأوا للمزيد من الممارسات الزراعية الداعمة للبيئة. كما يُظهر ضعفاً شديداً في الزراعات المتخصصة، حيث انتقل العديد من المزارعين من الزراعة المختلطة إلى زراعة نوع واحد فقط من المنتجات".
ويضيف الخبير بالمنظمة أنه "من الواضح للغاية أن جانباً كبيراً من نظامنا الزراعي يواجه ضغوطاً متعددة بشكل زاد من المخاطر التي يتعرض لها المزارعون بشدة، سواء كان ذلك بسبب هذا النوع من الاضطرابات الجيوسياسية أو بفعل تغير المناخ الذي لا يزال يمثل التهديد الحقيقي والأكبر لإنتاج الغذاء".
4- ما خطة الاتحاد الأوروبي للاستعداد لأزمة الأمن الغذائي؟
يقول المفوض الأوروبي لإدارة الأزمات، جانيز ليناركيتش، إن "ارتفاع أسعار المواد الغذائية يضع الأشخاص الأكثر ضعفاً في جميع أنحاء العالم في وضع أسوأ.. فالغزو الروسي لأوكرانيا يزيد الضغط على النظم الغذائية ويهدد الملايين في جميع أنحاء العالم بالجوع، نطالب بعمل عاجل الآن".
ويضيف أن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة سيعملان على معالجة انعدام الأمن الغذائي وتقديم المساعدات الإنسانية للمناطق المعرضة للخطر. وفي الأسبوع الماضي، دعا أعضاء البرلمان الأوروبي أيضاً التكتل إلى زيادة إنتاجه المحلي ودعم البلدان خارج أوروبا التي تواجه نقصاً في الغذاء بسبب الحرب.
ويرى بيكا بيسونين، الأمين العام لمجموعة الضغط الزراعية الأوروبية كوبا كوجيكا Copa-Cogeca، أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى التعلم من الماضي وأن يصبح أكثر مرونة.
وأوضح بيسونين للإذاعة الألمانية كيف تعاملت أوروبا مع نقص الغذاء في الماضي: "قبل حوالي 100 عام، كانت فنلندا على سبيل المثال جزءاً من الإمبراطورية الروسية. ثم بسبب الصعوبات السياسية والحروب الثورية في روسيا تم إغلاق الحدود. وهذا يعني أنه كان لدينا بالفعل نقص في الغذاء خاصة في جنوب البلاد".
ويضيف بيسونين: "نتج عن هذه التجربة وجود استعداد سياسي لضمان أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعمل فعلياً على ما يسمونه (خطة الاستعداد)، حيث يتعين علينا في أي نوع من الأزمات- سواء كانت سياسية أو عسكرية أو حتى طبيعية- أن نتأكد من حصول السكان على المواد الغذائية بشكل جيد وأن لدينا إمدادات مستقرة".
5- ما الإجراءات العاجلة التي أعلنت عنها الحكومات الأوروبية لمساعدة المزارعين؟
الشهر الماضي، وعد رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس بتقديم 400 مليون يورو كمساعدات وتخفيضات ضريبية للمساعدة في "تحسين التدفق النقدي للمزارع" المتضررة من ارتفاع تكلفة علف الحيوانات، بحسب ما نقلت وكالة "يورو نيوز".
فيما قال وزير الزراعة جوليان دينورماندي إنه في حين أن إمدادات الأسمدة كانت كافية لاستمرار موسم النمو في الربيع، فإن الحكومة الفرنسية تدرك أن هناك حاجة إلى وضع خطة لفصل الخريف، مشيراً إلى أنه سيحصل المزارعون الفرنسيون على دعم حكومي لتكاليف الوقود أيضاً.
من جهتها، تقول الحكومة الإسبانية أيضاً إنها تخطط لاتخاذ إجراءات لمكافحة ارتفاع أسعار الطاقة والوقود في وقت لاحق من هذا الشهر. وفي المملكة المتحدة، يدعو الاتحاد الوطني للمزارعين (NFU) إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على رفوف السوبر ماركت ممتلئة. وكتب الاتحاد في رسالة إلى الحكومة في وقت سابق من هذا الشهر: "يجب أن تتحرك الحكومة الآن، بإشارة واضحة إلى أن الأمن الغذائي يمثل أولوية بالنسبة للشعب".