هل أزمة الديون المتراكمة على الحكومة المصرية في طريقها للانفراج أم أن العكس هو المتوقع؟ متى وكيف بدأت ديون مصر تتفاقم بهذه الصورة؟ وما تداعيات الأزمة ومن هم أبرز ضحاياها؟
أصبحت هذه الأسئلة والبحث عن إجاباتها الشغل الشاغل ليس فقط لخبراء الاقتصاد والمتخصصين في الشؤون المالية، بل باتت تمثل هما للمواطن العادي، وهو ما تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي والسعي الدائم لمعرفة أسعار الدولار في مقابل الجنيه وما يتعلق بالاحتياطي من النقد الأجنبي ومبالغ الديون، والسبب بالطبع هو التأثير المباشر لتلك الأمور على أسعار السلع الأساسية التي لا يستطيع أحدا العيش بدونها مهما ارتفعت الأسعار.
ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً عنوانه "إيضاحات حول أزمة الديون المتصاعدة والمصاعب الاقتصادية في مصر"، رصد تفاصيل أزمة الديون، الخارجية والداخلية، وتداعياتها وأبرز ضحاياها.
ارتفاعات قياسية في الديون الخارجية لمصر
شهد الدين المصري تزايداً حاداً خلال العقد الماضي، ويُنتظر أن يصل إلى مستويات قياسية مع نهاية العام الحالي. وبينما لا تزال الأسواق تشعر بآثار جائحة كوفيد-19 والتأثير المضاعف لحرب روسيا ضد أوكرانيا، فسوف تتفاقم المشكلة التي يواجهها الاقتصاد المصري.
ويُتوقع أن يستغرق التعافي سنوات، وسوف يتحمل عشرات الملايين من المصريين العبء الأكبر في ظل ارتفاع الأسعار بصورة شديدة. ويقدم هذا التقرير إجابة عن التساؤلات الرئيسية حول كيفية تكشف أزمة الدين في مصر، وما الذي تعنيه لاقتصاد البلاد.
بنهاية العام المالي 2020/2021، وصل إجمالي الدين المصري إلى 392 مليار دولار. يتضمن ذلك 137 مليار دولار هي قيمة الدين الخارجي، وهي أكبر بأربعة أضعاف من الدين في عام 2010 (33.7 مليار دولار). ويتضمن كذلك 255 مليار دولار هي قيمة الديون الداخلية، وذلك وفقاً للبنك المركزي المصري، وهو ما يعادل تقريباً ضعف الدين المحلي في 2010.
كذلك تكشف الأرقام الصادرة عن صحيفة Daily News Egypt المصرية الناطقة بالإنجليزية، عن أن الحكومة تتوقع أن تقترض 634 مليار جنيه (34 مليار دولار) من السوق المحلي في الربع الأخير من العام المالي 2021/2022.
وواصل الدين الخارجي ارتفاعه منذ قدوم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في 2014. فقد بلغ 46.5 مليار دولار في 2013، ثم انخفض إلى 41.7 مليار دولار في 2014، قبل أن يرتفع بحدة في السنوات اللاحقة، ليصل إلى 84.7 مليار دولار في 2016، وإلى 100 مليار دولار في 2018، وإلى 115 مليار دولار في 2019.
تبلغ نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي الآن 33.9%، أي أنها لا تزال في نطاق الحدود الآمنة نسبياً، وفقاً للمعايير الدولية، التي ترى أن النسبة آمنة ما دامت أقل من 60%.
ومع ذلك، عند إضافتها إلى الدين المحلي، الذي كان 79.4 مليار دولار قرب نهاية العام المالي 2012/2013 وصار الآن 255 مليار دولار، فإن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تصير 89.84%، وهي أعلى بكثير من الحدود الآمنة.
نسبة الديون إلى الناتج القومي في مصر
في عام 2021، احتلت مصر المركز الـ 158 من أصل 189 دولة، على صعيد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وحصلت على المركز الـ 100 بالنسبة لمتوسط نصيب الفرد من الدين.
وفي يناير/كانون الثاني، وصلت نسبة الدين الحكومي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 91.6%، بعد أن كانت 87.1% في 2013. وتقول الحكومة إنها تأمل خفض نسبة إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 85% في السنوات الثلاثة القادمة.
بيد أن هذا الهدف يبدو من الصعب الوصول إليه، بالنظر إلى خطط القاهرة الرامية إلى اقتراض 73 مليار دولار إضافية عن طريق بيع السندات هذا العام.
جاءت غالبية الدين الخارجي بين عامي 2013 و2022 من بيع السندات في الأسواق الدولية. وجاءت هذه الديون كذلك من مؤسسات دولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنوك الدولية.
وقد نشأت غالبية الديون الداخلية بسبب اقتراض الحكومة من البنوك المحلية. وبحسب شركة التصنيفات ستاندرد آند بورز، فإن مصر يُتوقع لها أن تتخطى تركيا بوصفها أكبر مصدر للديون السيادية في الشرق الأوسط.
قدم صندوق النقد الدولي إلى حكومة السيسي قروضاً بقيمة 20 مليار دولار منذ 2016، وطلبت مصر قرضاً آخر منذ بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
تتجاوز قروض صندوق النقد الدولي إلى مصر منذ 2016 بكثيرٍ حصة عضويتها في الصندوق، وبالتبعية ينشأ عنها رسوم إضافية لأسعار الفائدة، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن منظمة مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط (POMED). وصارت البلاد أكبر عميل لصندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين.
ويعرب خبراء الاقتصاد المصريون عن قلقهم من أن غالبية الدين سوف تذهب لسداد الديون الأقدم أو سداد خدمة هذه الديون.
قال الخبير الاقتصادي المصري ممدوح الولي: "الموارد المالية الجديدة تحتاج أن تصنع عوائد تساعد الدولة على سداد الديون والفوائد. نحتاج إلى استخدام القروض في إنتاج السلع والخدمات، وليس من أجل سداد الديون".
مشروعات ذات قيمة رمزية وليست اقتصادية
وبعيداً عن دينها الآخذ في النمو، أنفقت الحكومة الجزء الأكبر من إيراداتها المتاحة في السنوات الأخيرة على مشروعات ضخمة "ذات قيمة رمزية بدلاً من أن تكون ذات قيمة اقتصادية"، وذلك وفقاً لتقرير منظمة POMED الذي كتبه روبرت سبرينغبورغ.
تتضمن المشروعات "العاصمة الإدارية الجديدة في الصحراء خارج القاهرة بقيمة 58 مليار دولار، وحيازة أسلحة لا يُعرف قيمتها الفعلية لكنها تجعل البلاد ضمن أكبر خمس مشترين للأسلحة حول العالم، ومفاعل نووي لإنتاج الطاقة بقيمة 25 مليار دولار في بلد لديه فائض كهرباء، وتوسعة قناة السويس بقيمة 8 مليارات دولار لكنها لم تحقق بعد زيادة ملحوظة في إيرادات العبور، التي وصلت إلى 5.8 مليار دولار فقط في 2020 بعد أن كانت 5.6 مليار دولار في 2017″، وذلك وفقاً للتقرير.
وصل الإنفاق العام في ميزانية 2020/2021 إلى 93 مليار دولار. وُجه منها مبلغ بقيمة 30.7 مليار دولار إلى خدمة الدين. وبجانب الأموال التي تذهب إلى رواتب موظفي القطاع العام البالغ عددهم 6 ملايين موظف (18.2 مليار دولار في موازنة 2020/2021)، يترك هذا بقية أموال الموازنة لتغطية قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الأخرى، والتنمية.
يتوقع الخبراء أن تتواصل زيادة الدين المصري الخارجي والمحلي خلال المدة القادمة لعدة أسباب. حرمت الحرب في أوكرانيا مصر من مورد مهم للدخل القومي، وتحديداً السياحة، نظراً إلى أن حوالي ثلث السياح الذين يتدفقون إلى مصر خلال السنوات الأخيرة يأتون من روسيا وأوكرانيا. وفي عام 2019، كانت إيرادات قطاع السياحة بقيمة 13 مليار دولار.
كذلك تجبر الحرب مصر على إنفاق أموال أكثر على الواردات، وأهمها القمح، في ظل أن 80% من استهلاك القمح في مصر جاء في 2021 من البلدين اللذين يخوضان الحرب الآن.
ما الذي يحدث لاحتياطيات النقد الأجنبي؟
في 21 مارس/آذار، رفعت مصر أسعار الفائدة بـ 100 نقطة أساس، وخفضت قيمة عملتها بنسبة 14% في أعقاب الهجوم الروسي ضد أوكرانيا. كان الهدف كبح تدفقات رأس المال الأجنبي إلى الخارج، واستقرار أسعار صرف الجنيه المصري ومنع زيادة الدين العام.
غير أن هذه الخطوات أدت إلى زيادة أسعار الغذاء في السوق المحلي، لتزيد معها معاناة عشرات الملايين من الأشخاص في بلد يعتمد حوالي 70% من سكانه البالغ عددهم 100 مليون نسمة، على التموين.
وفي غضون ذلك، لم يمنع رفع أسعار الفائدة وخفض قيمة العملة رأس المال الأجنبي من الهروب إلى أسواق أخرى. من أجل هذا دعت مصر دول الخليج الثرية من أجل إنقاذها، بما في ذلك ضخ مليارات الدولارات إلى البنك المركزي لرفع الاحتياطات الدولية وضخ الاستثمارات في السوق المصري.
لكن الحلفاء العرب لا يطلقون مشروعات جديدة يمكنها زيادة الإنتاج المحلي بل يستحوذون على أصول ثابتة موجودة بالفعل تعمل بصورة جيدة وتحقق أرباحاً. يشكل هذا مصدر قلق متعاظم بين المصريين الذين يلومون على الحكومة ترك هذه الأصول المهمة لتقع في أيادي أجنبية، حتى في ظل تحقيقها إيرادات للحكومة المصرية.
وأثرت الحرب أيضاً على احتياطيات النقد الأجنبي، التي كانت تقترب من 41 مليار دولار في نهاية فبراير/شباط من هذا العام، ثم انخفضت بحوالي 4 مليارات دولار في مارس/آذار لتصل إلى 37.082 مليار دولار.
قيدت جائحة كوفيد-19 فعلياً نمو احتياطيات العملات الأجنبية في مصر قبل أن تتفاقم الأوضاع بسبب اندلاع الحرب في أوكرانيا، بسبب تراجع أعداد السياح القادمين من روسيا وأوكرانيا وارتفاع تكلفة استيراد الغذاء، بما في ذلك ارتفاع تكاليف النقل والتأمين.
طالب خبراء الاقتصاد بخفض الواردات وزيادة الصادرات، والعثور على أسواق جديدة للسياحة من أجل تعويض الخسائر التي خلفتها الحرب في أوكرانيا.
قال الدكتور كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد الدولي، خلال حديثه مع موقع Middle East Eye: "بصرف النظر عن هذه التدابير، سوف نحتاج إلى تشجيع المصريين العاملين في البلاد الأخرى على المحافظة على التحويلات التي يرسلونها إلى البلاد. نحتاج كذلك إلى زيادة وتحسين الإنتاج من أجل زيادة صادراتنا، التي لا تبعث قيمتها على الرضا". بلغت تحويلات المصريين العاملين في البلاد الأخرى 31.5 مليار دولار في 2021.
يتوقع خبراء الاقتصاد الآخرون، مثل العمدة، أن تزيد التحويلات هذا العام؛ نظراً إلى أن دول الخليج، التي يعمل فيها ملايين المصريين، حققت أرباحاً من ارتفاع أسعار النفط بسبب الحرب. أما صادرات مصر من السلع الأساسية فقد بلغت أكثر من 30 مليار دولار في 2021.
من هم أبرز الضحايا؟
يُتوقع أن يُستشعر التأثير الاقتصادي للحرب في أوكرانيا على مدى سنوات كثيرة، بجانب أن أي تعافٍ يُرجح أن يستغرق وقتاً طويلاً، ومن ثم فإن هذا سوف يُترجم إلى تحمل المعاناة من جانب عشرات الملايين من المصريين الذين يواجهون صعوبة بالفعل من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية.
تضاعفت تقريباً أسعار الغذاء، وصار لزاماً على بعض الأسر المصرية التخلي عن بند أساسي تلو الآخر بسبب هذه الأسعار المرتفعة.
في 12 أبريل/نيسان، قال الرئيس السيسي إن أزمة العملة قد تستمر لوقت طويل، وطلب من مسؤولي الحكومة بذل جهودهم من أجل السيطرة على زيادات أسعار السلع الأساسية. وأضاف "نحتاج الآن، كمسؤولين، أن نكون متواجدين على الأرض بنسب كبيرة… لضبط الأسعار… وأن نسمع من المواطنين".
قفز معدل التضخم السنوي إلى 12.1% في مارس/آذار، بعد أن كان 4.8% في نفس الشهر منذ العام الماضي، وذلك وفقاً للحكومة المصرية. وأوضحت الحكومة أن التضخم الحضري ارتفع إلى 10.5% في مارس/آذار بعد أن بلغ في فبراير/شباط 8.8%، مشيرةً إلى وجود ارتفاع في أسعار الأغذية والمشروبات، وزيادة تكاليف المواصلات والتعليم والفنادق والمطاعم.
ويقترح خبراء الاقتصاد عدداً من الحلول لخفض الضغط على المواطنين العاديين، بما في ذلك زيادة كمية السلع الأساسية المعروضة، وفرض ضوابط أكثر إحكاماً على السوق وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية للفقراء.
قال الخبير الاقتصادي وليد جاب الله في حديثه مع موقع Middle East Eye: "من المهم أيضاً سد الثغرات التمويلية بطرق يستقر معها سعر صرف الجنيه المصري. تحتاج مصر كذلك إلى مواصلة المضي قدماً في إصلاحاتها الهيكلية من أجل السيطرة على الواردات وزيادة الصادرات".