لا يرغب سوى قلة من الخبراء في التنبؤ بكيف ومتى ستنتهي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن الكثيرين يتوقعون صراعاً مريراً طويل الأمد، لا سيما في شرق البلاد، مع تراجع القوات الروسية بعد صد زحفها نحو كييف، حيث أعلنت الحكومة الأوكرانية أن روسيا بدأت هجومها الجديد المتوقع في شرق أوكرانيا، وسط معارك محتدمة على مدينة ماريوبول الاستراتيجية، التي تقول روسيا إنها سيطرت عليها بعد شهرين من هجومها العسكري على أوكرانيا.
أمريكا تريد إحياء نسخة قديمة من الحرب الباردة في التعامل مع روسيا
يتعهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ"القتال إلى أجل غير مسمى" بدلاً من الانصياع للإنذارات الروسية. وتعثرت عملية دبلوماسية مترددة وسط تزايد التقارير عن "جرائم حرب وفظائع روسية" في المدن والبلدات الأوكرانية، كما تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية.
في واشنطن والعديد من العواصم الأوروبية الأخرى، يخطط المسؤولون لممارسة الضغط على الكرملين والإبقاء عليه لسنوات قادمة. وعلى الرغم من أنَّ معظم قادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) –باستثناء متمثل في الرئيس الأمريكي جو بايدن- لم يعربوا عن رغبة علنية في تغيير النظام في موسكو، لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا قد وجّه تركيز الغرب، الذي دفعته الصدمة للتحرك سريعاً، على طريق المواجهة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وكما ذكرت صحيفة The Washington Post في نهاية الأسبوع، بدأت بالفعل تتضح ملامح استراتيجية طويلة المدى بقيادة الولايات المتحدة لعزل روسيا. وهي تمثل نقطة انتقال جديدة من الرسالة التي رددتها واشنطن عالمياً لفترة طويلة "بالتوجه صوب آسيا"، التي تعكس تصميم الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى العقد الماضي، لتحويل أولوياتها الجيوستراتيجية إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. والآن يرى البيت الأبيض روسيا، ومعها الصين، خصماً أساسياً، ويعيد إحياء نسخة من نهج حقبة الحرب الباردة القديمة المتمثل في "الاحتواء" لتقييد طموحات موسكو، كما تصف ذلك الصحيفة الأمريكية.
وبحسب واشنطن بوست، "فمن المرجح تغيير استراتيجية الأمن القومي الأولى لبايدن، المطلوب إصدارها قانوناً منذ العام الماضي، لكنها لم تكتمل بعد، تغييراً كبيراً عن التوقعات الأولية التي ستركز تركيزاً شبه حصري على الصين والتجديد المحلي. وتعطي استراتيجية الدفاع الوطني الجديدة للبنتاغون، التي أرسلها الشهر الماضي سراً إلى الكونغرس، الأولوية لما أطلق عليه ملخص موجز للبنتاغون (التحدي الروسي في أوروبا)، بالإضافة إلى التهديد الصيني".
ما هي سياسة الاحتواء الأمريكية؟
تعرف سياسة الاحتواء بأنها أسلوب استراتيجي وجيوسياسي في السياسة الخارجية، التي تتبعها الولايات المتحدة، إذ يرتبط المصطلح بشكل كبير بفترة الحرب الباردة، حيث استخدم لوصف الاحتواء الجيوسياسي للاتحاد السوفييتي التي بدأت في الأربعينيات. وتُعرف استراتيجية الاحتواء بأنها "سياسة الحرب الباردة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها، لمنع انتشار الشيوعية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية".
وكجزء من الحرب الباردة، كانت هذه السياسة بمثابة استجابة لحركة الاتحاد السوفييتي لزيادة النفوذ الشيوعي في أوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ويمثل الاحتواء موقفاً وسطاً بين الانفراج (الاسترخاء في العلاقات) والتراجع (استبدال نظام بشكل فعال).
وصيغ أساس هذا المصطلح في برقية عام 1946 من قبل الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من ولاية الرئيس الأمريكي هاري ترومان. كوصف للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، نشأت الكلمة في تقرير قدمه كينان إلى وزير الدفاع الأمريكي جيمس فورستال.
استراتيجية احتواء واستراتيجية دفاع تتشكلان لدى الغرب ضد روسيا
وتقول صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، إنه في يونيو/حزيران، سيكشف الناتو عن أول وثيقة "مفهوم استراتيجي" له منذ عام 2010. قبل 12 عاماً، كان الحلف يأمل في تأمين "شراكة استراتيجية حقيقية" مع روسيا، لكنه من المحتمل أن يشير الآن إلى موقف أكثر عدوانية تجاه نظام بوتين. ومن المرجح أنَّ حكومات الناتو ستلتزم بنشر قوات أكبر وأرسخ على طول الحدود الروسية، بينما يبدو أنَّ الحلف مستعد للنمو مع اقتراب كل من فنلندا والسويد من الانضمام إلى الكتلة. وعلى الرغم من أنَّ بعض النقاد يرغبون في أن يتحرك الناتو أسرع، تعمل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أيضاً نحو التخلص التدريجي طويل الأجل من اعتماد القارة على الطاقة الروسية.
وقال وزير خارجية لاتفيا إدغار رينكيفيكس، في مقابلة مع صحيفة The Washington Post: "هناك إدراك متزايد بأنَّ هذا وضع طويل الأمد، وأنَّ استراتيجية احتواء واستراتيجية دفاع تتشكلان. ادعموا أوكرانيا بقدر ما تستطيعون، وافرضوا عقوبات على روسيا بقدر ما يمكن، وافعلوا كل ما يمكنكم فعله لتقليل الاعتماد على روسيا، لكن يمكنكم أخيراً التركيز أكثر على الدفاع العسكري".
من جهته، أشار غيديون راشمان، كاتب في صحيفة The Financial Times، إلى أنَّ "أي انطباع مبدئي بأنَّ العالم بأسره قد توحد في الغضب ضد روسيا كان مضللاً بوضوح، بل هناك محور غضب يتمحور حول التحالف الغربي، ومحور اللامبالاة الذي يتمركز حول الجنوب العالمي".
قد يوفر هذا وحده بعض الراحة للكرملين. وأعلن بوتين في التلفزيون الرسمي الروسي الأسبوع الماضي: "لا ننوي أن نكون معزولين. من المستحيل عزل أي شخص بشدة في العالم الحديث، خاصةً دولة شاسعة مثل روسيا".
"احتواء روسيا سيؤدي إلى رد فعل عنيف"
لقد أوصل قرار بوتين بمهاجمة أوكرانيا -ورد فعل الغرب الجماعي والواسع على الهجوم- الغرب إلى "لحظة وجودية" كما تقول واشنطن بوست، إذ يبدو أنَّ الوضع الراهن لا يمكنه الاستمرار، وكلا الجانبين يبحثان عمّا يمكن أن يكون جموداً طويل الأمد ومكلفاً. في واشنطن يعتقد بعض المحللين أنَّ المخاطر لا ينبغي أن تكون عالية لهذا الحد، لا سيما أنَّ الولايات المتحدة لا يزال عليها الاستعداد للتغلب على التحدي الأكبر والهادف الذي تمثله الصين.
غالباً ما يشيرون إلى مرحلة التفكير الأخيرة التي طرحها جورج كينان، الدبلوماسي الأمريكي الشهير، الذي صاغ سياسة الاحتواء التي انتهجتها الولايات المتحدة في الحرب الباردة. مع مرور السنوات التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، نظر كينان المسن بارتياب إلى توسع الناتو في أوروبا الشرقية، محذراً من أنه سيؤدي حتماً إلى رد فعل عنيف من جانب حكومة روسية قلقة من احتوائها مرة أخرى.
وقال كينان لصحيفة The New York Times في عام 1998: "أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة. أعتقد أنَّ الروس سوف يتصرفون تدريجياً تصرفات معاكسة للغاية وسيؤثر ذلك على سياساتهم. أعتقد أنه خطأ مأساوي".
لكن العديد من الأوروبيين لم يعودوا مهتمين بالحساسية تجاه شخصية مثل بوتين أو التسامح مع استيائه الانتقامي وطموحاته الإمبريالية الجديدة. قال مسؤول أوروبي كبير لصحيفة The Washington Post: "كنا نظن أنَّ الترابط والتواصل من شأنه أن يؤدي إلى الاستقرار لأنَّ لدينا مصالح مترابطة، والآن رأينا أنَّ هذا ليس هو الحال. كانت روسيا على اتصال وثيق بأوروبا، وهي دولة معولمة، الاعتماد المتبادل، كما رأينا الآن، يمكن أن ينطوي على مخاطر جسيمة، إذا كان البلد قاسياً بما فيه الكفاية.. علينا التكيف مع وضع جديد تماماً".