يواجه مسلمو فرنسا التحدي الأصعب على الإطلاق عندما يحين موعد التصويت في جولة الحسم من انتخابات فرنسا الرئاسية، فبطاقة الاقتراع فيها ماكرون ومارين لوبان، وكلاهما خيار "سيئ" للغاية.
كانت قضية تأثير الإسلام على المجتمع الفرنسي قد أصبحت ملفاً رئيسياً من ملفات الانتخابات الرئاسية، بعد أن ذهبت فرنسا أبعد من أي بلد غربي آخر في مواجهة ما تسميها "التيارات الراديكالية" داخل الإسلام، وتبارى المرشحون للرئاسة في المزايدة على كيفية فرض "نسخة فرنسية" من الإسلام.
ويمكن القول إن المنطق فرض نفسه على نتيجة الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في فرنسا، التي أجريت الأحد 10 أبريل/نيسان الجاري، وتأهل إيمانويل ماكرون ومارين لوبان لجولة الإعادة، المقررة يوم الأحد 27 أبريل/نيسان. وتصدر ماكرون قائمة المرشحين الاثنا عشر بنسبة 27.6% من إجمالي الأصوات، وجاءت زعيمة اليمين المتطرف لوبان في المركز الثاني بنسبة 23.4%.
وفي المركز الثالث جاء مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلنشون، الذي كان بالفعل واحداً من أبرز المرشحين، وحصل على 22.2% من الأصوات، بينما حل اليميني المتطرف إيريك زمور رابعاً بنحو 7%.
الاختيار بين "السيئ والأسوأ"
وقبل أيام قليلة من جولة الحسم، يمكن تلخيص مشكلة مسلمي فرنسا في "الاختيار بين السيئ والأسوأ"، ماكرون ولوبان. فالولاية الرئاسية الأولى لماكرون، شهدت تضييقاً غير مسبوق على المسلمين في فرنسا خاصة بعد إصدار قانون مكافحة ما يسمى "الانفصالية الإسلامية"، ومحاولة خلق "إسلام عصري" على مقاس "العلمانية الفرنسية"، بحسب تحليل لوكالة الأناضول.
وكان الرئيس الفرنسي قد فجر غضباً واسعاً بين مسلمي العالم عندما قال إن "الإسلام يعيش أزمة عميقة في كل دول العالم". كما يفاخر وزير الداخلية جيرالد دارمانان، المحسوب على ماكرون، بإغلاق 200 جمعية إسلامية مقربة، حسب قوله، من "حركات الإسلام السياسي"، وفق صحيفة "لوريان21″، على غرار جمعية مكافحة الإسلاموفوبيا، ناهيك عن إغلاق المساجد.
وكان ماكرون قد أعلن دعمه لنشر الصور المسيئة للرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، واعتبارها حرية رأي، بينما لم تتحمل باريس نشر السفارة الروسية رسماً ساخراً عن أوروبا على موقعها، وتم استدعاء السفير الروسي بشأنه، في مفارقة تكشف بشكل صارخ الكيل بمكيالين بشأن حرية التعبير.
ورغم قرارات ماكرون المزايدة على اليمين المتطرف في عدائه للمسلمين والمهاجرين، إلا أن لوبان رفعت السقف إلى مستويات غاية في التطرف، عندما أعلنت خلال حملتها الانتخابية أنها ستمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة وتفرض غرامات على المحجبات في الشوارع، إذا وصلت للرئاسة.
واعتبرت زعيمة حزب "التجمع الوطني"، أن الحجاب "رمز لتلك الأيديولوجية الشمولية (تقصد الإسلام)، ولهذا أتمنى تخليص كل النساء من الحجاب". وردت عليها سيدة فرنسية محجبة من أصل جزائري، على هامش حملتها الانتخابية "دعي المسلمين وشأنهم".
وكشف مسؤولون في حزب لوبان أنها تراجعت عن فكرة "حظر الحجاب في الأماكن العامة"، وأن هذه القضية "لم تعد على رأس أولوياتها" في النضال ضد ما وصفوه بـ"التشدد الإسلامي".
إذ قالت لوبان السبت 16 أبريل/ نيسان 2022 إن الحجاب "مشكلة معقدة"، لكنها في المقابل أكدت على أنها "غير محدودة التفكير" وأن مشروع الحظر المثير للجدل هذا سيطرح للنقاش في الجمعية الوطنية.
لكن لوبان مُصرة على فتح الملفات التي تغذي اليمين المتطرف بأصوات الشعبويين، على غرار منع ذبح الأضاحي على الطريق الإسلامية، وحرمان المسلمين بالتالي من اللحم الحلال، لكنها تقترح بالمقابل استيراده من الخارج.
ورغم أن ماكرون يتبنى مشروعاً يشدد فيه على تقييد الهجرة وحق اللجوء من خارج الاتحاد الأوروبي وبالخصوص من الدول العربية والإسلامية، إلا أن لوبان تبالغ في الدعوة لتقييد هذا الحق.
فبينما يقترح ماكرون تسهيل عملية ترحيل اللاجئين الذين رفضت طلباتهم، ومراجعة شروط الحصول على تصاريح الإقامة لأكثر من 4 سنوات، تشدد لوبان على ضرورة تقديم هذه الطلبات من البلد أو الموطن الأصلي في السفارات الفرنسية في الخارج قبل أي هجرة.
وبالنسبة للحصول على الجنسية الفرنسية، فإن ماكرون يقترح اشتراط إتقان اللغة الفرنسية، بينما تكالب منافسته بإلغاء حق الأرض والحصول على الجنسية تلقائياً عن طريق الزواج. وتدعو لإدراج الظروف المؤدية إلى إسقاط الجنسية الفرنسية في الدستور، بحسب موقع أورونيوز.
لمن صوّت المسلمون في الجولة الأولى؟
بحسب معهد إيفوب لاستطلاعات الرأي، فإن أصوات المسلمين في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، التي أجريت في 10 أبريل الجاري، لم تذهب لا لماكرون ولا للوبان، بل حصد ميلنشون المرشح اليساري الراديكالي المدافع عن المهاجرين على حصة الأسد بما يقرب من 70%. ولم يحصل ماكرون سوى على 14% من أصوات المسلمين، فيما صوت 7% منهم للوبان.
ويمثل المسلمون بحسب بعض التقديرات 10% من عدد السكان، البالغ عددهم أزيد من 67 مليون نسمة، منهم 48.7 مليون يحق لهم التصويت.
وبلغت نسبة المشاركة في الدور الأول للرئاسيات 73.69% مقارنة بـ78% في انتخابات 2017، ما يمثل تراجعاً بأكثر من 5 نقاط، ومن المتوقع أن تتراجع هذه النسبة في الدور الثاني، خاصة وأن المعركة الرئاسية تبدو محسومة لماكرون، رغم تمكن لوبان من تقليص الفجوة بينها وبينه.
وحصل ماكرون، على 27.85% من الأصوات الصحيحة، مقابل 23.15% للوبان، بحسب النتائج الرسمية للمجلس الدستوري.
ولم يعلن ميلونشون، الذي حاز بثقة أكثر من ثلثي المسلمين في فرنسا دعمه لماكرون، لكنه دعا لحرمان لوبان من أي صوت لأنصاره، ما يصب ذلك في مصلحة الرئيس المنتهية ولايته، خاصة وأن المرشح الذي حلّ ثالثا بأكثر من 7 ملايين صوت لم يدعو إلى مقاطعة الانتخابات.
وفي أقرب استطلاعات الرأي، التي نشرت خلال الدور الأول تمكنت لوبان من تقليص الفجوة بينها وبين ماكرون إلى 3 نقاط فقط (48.5% للوبان مقابل 51.5% لماكرون).
وهذا فارق ضئيل جداً وغير مسبوق، رغم أن ماكرون يحظى بدعم أغلبية المرشحين الرئاسيين الخاسرين، إلا أن إمكانية حدوث مفاجأة ليس بالمسألة المستحيلة، خاصة إذا لجأ الناخبون إلى التصويت العقابي ضد ماكرون، أو أن نسبة المقاطعة كانت كبيرة في الأوساط اليسارية والمسلمة، مقابل تحشيد كثيف لأصوات اليمين المتطرف خلف لوبان.
فالمعركة الرئاسية لم تحسم بشكل نهائي، والمسلمون بإمكانهم هزيمة ماكرون، لأنهم يمثلون نحو 10% من الناخبين بينما الفارق يقترب من 3%، لكن البديل سيكون الخيار الأسوأ، لذلك لا يبدو الرئيس المنتهية ولايته قلقاً كثيراً بشأن أصوات المسلمين، إلا أنه يخشى من التصويت العقابي.
الجدير بالذكر أنه في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، صوّت 86% من الناخبين الفرنسيين المسلمين في الجولة الثانية للمرشح الاشتراكي فرانسوا أولاند، الذي انتُخِب رئيساً بنسبة 51.56% من الأصوات. ولولا الدعم الكبير من المسلمين الفرنسيين، لكان سيُعاد انتخاب خصمه اليميني نيكولا ساركوزي. وفي عام 2017، كان هناك إقبال كبير للناخبين بين مسلمي فرنسا على الانتخابات بنسبة 62%: أكثر من 90% منهم (2.1 مليون ناخب) صوتوا لماكرون، بينما صوّت 200 ألف لمارين لوبان، وفقاً لمعهد استطلاع الرأي.
ولم يقدم ماكرون في حملته الانتخابية تنازلات كبيرة للمسلمين، لكنه حاول الظهور بصورة المنقذ للمسلمين من "بعبع" اليمين المتطرف، وقال في حملته الانتخابية "أريد لفرنسا أن تسمح للجميع بحرية المعتقد والعبادة في ظل العلمانية، ولا أريد لها أن تمنع المسلمين واليهود من تناول الطعام (اللحم الحلال) وفق معتقداتهم، فذلك ليس من قيمنا".
وقال: "سأثبت لهم (المسلمين واليهود) في الأيام المقبلة أن مشروعنا سيلبي متطلباتهم أكثر من أي مشروع لدى التيار اليميني المتطرف".
كما طمأن ماكرون النساء المسلمات بأن "مسألة الحجاب ليست هاجسا"، رداً على تهديدات لوبان بمنع الحجاب في الأماكن العامة.
هل لجأ ماكرون للجزائر هذه المرة؟
في أقل من 48 ساعة من زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إلى الجزائر ولقائه بالرئيس عبد المجيد تبون، أعلن عميد مسجد باريس الكبير، الذي تسيره الجزائر، المسلمين إلى التصويت لصالح ماكرون.
فزيارة لودريان، المفاجئة وغير المبرمجة والتي لم يسبقها جدول أعمال، جاءت حمالة لعدة أوجه، خاصة وأن العلاقات بين البلدين عصفت بها أزمة حادة، تسببت في استدعاء الجزائر سفيرها من باريس، قبل أن تعيده بعد سعي الأخيرة للتهدئة.
فماكرون، يدرك جيداً ثقل الجالية الجزائرية في فرنسا، والتي تقدر بنحو 5.5 مليون نسمة، منهم نحو 1.2 مليون يحق لهم التصويت.
ويتجلى ذلك في ردة الفعل الفرنسية الغاضبة على تصريحات السفير الجزائري عنتر داوود، عندما صرح بأنه "من غير المقبول ألا تتمكن الجزائر، التي تتوفر على أكبر جالية أجنبية بفرنسا و18 قنصلية، من الأخذ بزمام الأمور من أجل التدخل ليس في السياسة الجزائرية فحسب، بل أيضاً على مستوى السياسة الفرنسية".
فماكرون نفسه زار الجزائر خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 2017، للحصول على دعمها، وأدلى بتصريحه الشهير: الاستعمار الفرنسي للجزائر "جريمة ضد الإنسانية".
وعندما يدعو عميد "مسجد باريس الكبير" المسلمين بالتصويت لماكرون، فهذا لا يكون إلا بإيعاز من الجزائر، وبالتالي فإنه ليس من المستبعد أن تكون هناك تفاهمات جزائرية مع ماكرون بشكل غير معلن لدعمه في الانتخابات، دون أن يتضح بعد ما هو المقابل.
لكن لودريان لم يشر إلى الانتخابات الفرنسية عقب لقائه بالرئيس تبون، واكتفى بالإشارة إلى أنه بحث معه عدة ملفات "أبرزها محاربة الإرهاب، والأمن في منطقتي المتوسط والساحل الإفريقي، ودعم الانتقال السياسي في ليبيا".
وعلى هذا الأساس فإن أصوات مسلمي فرنسا، من المتوقع أن تذهب في معظمها إلى ماكرون، اضطراراً، وجزء ليس بالقليل سيفضل مقاطعة الانتخابات، بينما ستصوت نسبة ضئيلة للوبان.