بينما تدهورت عملات العديد من دول العالم منها دولة عربية كبرى مثل مصر جراء الأزمة الأوكرانية، فإن الروبل الروسي قد سجل مكاسب كبيرة خلال الآونة الأخيرة، لدرجة أنه ارتفع لمستوى ما قبل الحرب، فهل يعني ذلك أن الكرملين قد استطاعت التغلب أو امتصاص تأثيرات العقوبات الغربية على روسيا، أم أن هذه صحوة الموت للاقتصاد الروسي؟
رغم العقوبات الغربية على روسيا التي شملت تجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسي، وإخراج عدد كبير من المصارف الروسية من نظام سويفت العالمي للتداول المصرفي، وفرض قيود على تجارة الذهب الروسي وانسحاب العديد من الشركات الغربية من روسيا، إلا أن أسعار صرف الروبل الروسي تعافت وعادت إلى مستويات 2020.
وفي مؤشر على ثقة الحكومة الروسية في اقتصادها، قامت بخفض سعر الفائدة، ورفع بعض الإجراءات التقييدية في التعامل مع الدولار.
ولكن في الوقت ذاته، قررت روسيا لأول مرة أن تدفع ديونها بالروبل وليس الدولار، وهذا يعتبره الأمريكيون أول تخلف عن الدفع في تاريخ روسيا منذ الثورة البلشفية.
ولكن هذا القرار ليس بسبب نقص الدولارات لدى موسكو ولكن بسبب فرض واشنطن قيوداً على قدرة موسكو على استخدام الدولار لتسديد ديونها.
الناتج المحلي الروسي سيتراجع بشكل كبير ولكن ليس أكثر من جيرانه الأوروبيين
وبينما تفيد توقعات البنك الدولي بانخفاض الناتج المحلي لروسيا بنحو 11.2%، فإن هذه الخسارة لا تبدو كبيرة مقارنة بخسائر جيران روسيا في أوروبا الشرقية التي يفترض أنهم يعاقبون موسكو، إذ توقع البنك الدولي أن تشهد أوروبا الشرقية وحدها انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 30.7%.
ومن الواضح أن أداء اقتصاد روسيا تعثر خلال أول شهر كامل من اندلاع الحرب مع أوكرانيا، لكنه قد يتمتع بمركز مالي جيد إذا لم يتسبب بعض أكبر شركائه التجاريين بوقف صادرات الطاقة.
قفزة في إيرادات الطاقة بنسبة الثلث
ورغم كل الصعوبات التي يتعرض لها المستهلكون الروس في الداخل، والقيود المالية المفروضة على الحكومة من الخارج، تتوقع "بلومبرغ إيكونوميكس" أن تبلغ إيرادات روسيا من صادرات الطاقة خلال 2022، نحو 321 مليار دولار، أي بزيادة أكثر من الثلث مقارنة بعام 2021.
مع ذلك، قد يتغير الحساب تماماً في حالة فرض حظر على مبيعات الطاقة. حتى من دون ذلك، فإن صادرات وإنتاج النفط في روسيا، تنخفض بالفعل، مع توقع وكالة الطاقة الدولية أنها قد تفقد ما يقرب من ربع إنتاجها من الخام خلال شهر أبريل/نيسان 2022.
رغم العقوبات الغربية على روسيا، موسكو تبيع كل نفطها
كل شحنات النفط الخام الروسي لشهر مايو/أيار المقبل من درجة "سوكول"، والقادمة من منطقة الشرق الأقصى، جرى بيعها ونفدت من السوق، مما يشير إلى أنَّ الإمدادات الروسية ما زالت تجد مشترين لها، برغم مواجهة روسيا للمزيد من العقوبات بسبب حربها في أوكرانيا.
وقال المتداولون، ممن طلبوا عدم الكشف عن هويتهم بسبب خصوصية المعلومات، إنَّه من المزمع تسليم شحنات مايو/أيار المُحملة من حقل "سخالين- 1" لمشترين في اليابان، وكوريا الجنوبية، والصين والهند، على أساس فوري أو لاحق، علماً أنَّ "سوكول" ينتج الكثير من الديزل الذي يمكن شحنه إلى الدول في شمال شمال آسيا في غضون أسبوع.
يواصل النفط الروسي العثور على عملاء مستعدين لشرائه لسببين: إما لأنَّ تلك الدول لا تستطيع مقاومة إغراء الخام الأرخص سعراً، أو بسبب معاناتها في الحصول على براميل بديلة، مع سعي الكثير من الوجهات الأخرى لاستبدال إمدادات روسيا.
ووصلت شحنات من خام الأورال الروسي الرائد، الذي يُشحن من موانئ في بحر البلطيق والبحر الأسود، إلى الهند والصين. وأدى ذلك إلى تحذير إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للهند من انحيازها إلى الجانب الروسي.
موسكو توجه فوائض مالية لصندوق الاستقرار
وقالت موسكو أمس الأحد إنها ستوجه مبلغاً إضافياً قدره 273.4 مليار روبية (3.4 مليار دولار) إلى صندوقها الخاص بالحفاظ على الاستقرار، وتأتي معظم هذه الأموال من عائدات النفط والغاز التي حصلت عليها في الربع الأول من هذا العام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
وقالت الحكومة الروسية إن الأموال الإضافية "ستستخدم، من بين أمور أخرى، لتنفيذ إجراءات تهدف إلى ضمان الاستقرار الاقتصادي في سياق مواجهة العقوبات الخارجية".
وساعدت الأرباح من صادرات السلع والقيود الصارمة على رأس المال موسكو على استقرار عملتها ومنع الانهيار المالي في مواجهة العقوبات الاقتصادية الشديدة التي فرضتها الدول الغربية وشركاؤها.
فرض قيود على حركة الرأسمال ساهم في حماية الروبل
وبالإضافة إلى الدعم الناتج عن زيادة بعائدات النفط والغاز، فإن القيود الصارمة التي فرضتها روسيا على رأس المال، منعت معظم التجار الأجانب من الخروج من استثماراتهم داخل البلاد.
ومع ذلك، خفضت وكالة S&P Global Ratings التصنيف الائتماني لروسيا إلى "التخلف عن السداد الانتقائي" في نهاية هذا الأسبوع بعد أن أعلنت موسكو أنها ستسدد مدفوعات على الشريحة الأخيرة من سنداتها الأجنبية بالروبل، عندما تكون مستحقة بالدولار.
واصلت روسيا مدفوعات سنداتها الدولارية منذ بداية الغزو، مما أربك توقعات العديد من المستثمرين بأن العقوبات الغربية والقيود المفروضة على العملة الروسية ستدفع البلاد إلى أول تخلف عن سداد ديونها بالعملة الأجنبية منذ عام 1998.
لكن الأسبوع الماضي، كان من المقرر أن تسدد موسكو 84 مليون دولار على شكل قسيمة وسداد 552 مليون دولار لسند مستحق الدفع، عرضت مقابله الدفع بالروبل بدلاً من الدولار بعد أن منعت السلطات الأمريكية البنوك الأمريكية من معالجة السداد.
لدى موسكو فترة سماح مدتها 30 يوماً لتوصيل الأموال للمستثمرين قبل أن تتخلف عن السداد، لكن ستاندرد آند بورز قالت إن هذا من غير المرجح أن يحدث.
وقالت ستاندرد آند بورز في مذكرة: "لا نتوقع حالياً أن يتمكن المستثمرون من تحويل مدفوعات الروبل هذه إلى دولارات معادلة للمبالغ المستحقة في الأصل، أو أن الحكومة الروسية ستحول هذه المدفوعات في غضون فترة سماح مدتها 30 يوماً".
رغم عائدات النفط الكبيرة فإن التضخم يرتفع في روسيا
قال سكوت جونسون، المحلل في "بلومبرغ إيكونوميكس": "تمثل عائدات الهيدروكربونات شريان الحياة للاقتصاد الروسي، ما يساعد على تخفيف تأثير العقوبات القاسية، وتجنب حدوث أزمة بميزان المدفوعات. لكن حتى من دون فرض حظر على الطاقة، فإن التضخم يرتفع بشدة، فيما يلوح في الأفق ركود عميق".
فلقد أدى انهيار الروبل في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا إلى تغذية الضغوط التضخمية بجعل الواردات أكثر تكلفة، وحتى مع تعافي الروبل لم تتراجع هذه الضغوط التضخمية كثيراً.
وكشفت الأرقام الصادرة في 9 أبريل/نيسان أن الأسعار في روسيا أعلى بنسبة 16.7% مما كانت عليه قبل عام.
مع ذلك، فإن مزيج الانخفاض الحاد في قيمة الروبل وارتفاع سعر النفط بالدولار، سيحقق 8.5 تريليون روبل إضافية (103 مليارات دولار) في إيرادات الميزانية خلال 2022، وفقاً لـ"تي إس لومبارد" (TS Lombard).
ومع تعرض المستهلكين الروس بالفعل لوابل من الصدمات، بما في ذلك التضخم وتآكل قيمة الدخل، يتوقع الاقتصاديون في "غولدمان ساكس" حدوث انهيار بنسبة 20% في الواردات الروسية من الخارج خلال 2022، أي ضعف الانخفاض المتوقع في الصادرات.
وقالت مدينا خروستاليفا، المحللة في "تي إس لومبارد" في لندن: "ستستخدم وزارة المالية جزءاً من هذه الإيرادات الإضافية لتخفيف التأثير ولكن بحذر، وليس لرفع مزيد من التضخم.. يبدو أن كل هذه العقوبات ستدمر الجزء غير المتعلق بالطاقة من الاقتصاد. ستعتمد روسيا على الطاقة بشكل أكبر".
ويقول محللون إن المركز المالي السليم لن ينقذ روسيا من مواجهة ركود عميق، لكنه يساعد في الحفاظ على الإنفاق الحكومي، في وقت لا تتمتع فيه الحكومة بإمكانية الدخول إلى أسواق رأس المال الدولية.
وقال محللو "تي إس لومبارد"، إن سعر صرف الروبل مدعوم بشكل فعّال بالتدفقات الحالية، بعد أن جمَّدت العقوبات الكثير من الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي.
والصناعة تشهد انخفاضاً كبيراً
في مارس/آذار 2022، شهد قطاع التصنيع في روسيا أكبر انخفاض منذ بداية تفشي COVID-19 في عام 2020، وفقاً لشركة ستناندرد أند بورز العالمية (S&P Global).
وقالت الشركة في تقرير في الأول من أبريل/نيسان 2022: "كان الدافع وراء التراجع هو الانخفاض الحاد في الإنتاج والطلبيات الجديدة وسط توقف طلبات العملاء الأجانب والمحليين".
العمالة في قطاع التصنيع "تتراجع بأسرع وتيرة مشتركة منذ ما يقرب من عامين" بسبب قيام الشركات بإلغاء الوظائف، وفقاً للتقرير.
تم إرجاء الآلاف من عمال السيارات في مدينة كالوغا الروسية الصغيرة بعد أن ضربت العقوبات الغربية شركات صناعة السيارات الأجنبية الرائدة فيها.
وأدت العقوبات إلى تفاقم النقص المستمر في المكونات وأوقفت الإنتاج في مصنعين رئيسيين للسيارات في روسيا: فولكس فاجن الألمانية وفولفو السويدية. أوقف كلا المصنعين عملياتهما بسبب الحرب، مما أثر على 4200 و600 عامل على التوالي.
وقد تكون قدرة روسيا على بيع النفط والغاز في الخارج، بمثابة الأمر الوحيد الذي يمنع الاقتصاد من الانزلاق إلى أسوأ أزمة مالية.
السيناريو الأسوأ بالنسبة لروسيا ما زال غير مستبعد
وعلى الرغم من الارتفاع الحاد في التضخم، ارتفاعاً من 9.15% في فبراير/شباط، خفض البنك المركزي الروسي سعر الفائدة الرئيسي من 20% إلى 17%، وهي خطوة تنم عن ثقة البنك في الاقتصاد الروسي، وأنه قادر على الحفاظ على سعر العملة.
وقال الكرملين إن روسيا قادرة على سداد ديونها.
تبدو روسيا حتى الآن تتجنب سيناريو الانهيار الاقتصادي الذي كان يتوقعه البعض في الغرب، بل إن تضررها المالي من الأزمة أقل من العديد من دول أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، عبر استفادتها من زيادة عوائد النفط والغاز، وكذلك احتياطاتها المالية الكبيرة، وإجراءاتها التقييدية على رأسمال.
ولكن الأمر سيكون مختلفاً إذا فرضت الدول الغربية حظراً شاملاً على النفط والغاز الروسي، وهي مسألة تخشى بعض الدول الأوروبية لا سيما ألمانيا من أن تضرر اقتصاداتها بشدة.
وحظر استيراد الطاقة الروسية من قبل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، سيؤدي إلى انكماش بأكثر من 20% في الناتج المحلي الإجمالي الروسي، حسبما قال معهد التمويل الدولي، وهو اتحاد يضم أكبر المؤسسات المالية في العالم، وقد يكلف موسكو ما يصل إلى 300 مليار دولار من عائدات التصدير، حسب تقلبات الأسعار.