الصين وأمريكا هما القوتان الأعظم على المسرح الدولي حالياً، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، فكيف جعل الهجوم الروسي على أوكرانيا حرباً فعلية بين واشنطن وبكين احتمالاً وارداً وبقوة؟
فقبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كان احتمال إقدام الصين على ضم تايوان بالقوة وارداً ويمثل هاجساً أمنياً للولايات المتحدة والغرب، وبالتالي فإن الحرب في أوكرانيا لها تأثير مباشر على قضية تايوان، والتحليلات بدأت تأخذ بالفعل مساراً أكثر خطورة منذ 24 فبراير/شباط الماضي.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن حرب كهذه، وإن لم تصبح حتمية بعد، إلا أنها أصبحت احتمالاً حقيقياً، مما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.
الحرب الكبرى لم تعُد احتمالاً مستبعداً
ينطلق التحليل الذي نشرته الغارديان، وهو تلخيص لدراسة أعدها كيفين رود رئيس وزراء أستراليا الأسبق لمعهد الشؤون العامة في بريطانيا وتنشر كاملة أواخر أبريل/نيسان 2022 بعنوان "الحرب التي يمكن تجنبها: مخاطر الصراع الكارثي بين الولايات المتحدة والصين بزعامة شي جين بينغ"، من التأثير الضخم للحرب الأوكرانية على المسرح الدولي وكيفية تفكير الجميع حاكمين ومحكومين.
صور الدمار الهائل وملايين اللاجئين والمدن المدمرة في أوكرانيا جعلت تركيز العالم منصباً على الرعب الذي كان يبدو غير محتمل حتى يوم 23 فبراير/شباط الماضي، أي اليوم السابق على بدء الهجوم الروسي بالفعل، فالحرب الكبرى، على غرار الحرب العالمية الثانية، كانت تبدو وكأنها أمر من الماضي ولا يمكن أن يحدث مرة ثالثة في أوروبا، لكنه حدث بالفعل.
هذا التحول الهائل جعل التفكير في البؤر الساخنة الأخرى حول العالم يأخذ منحى مختلفاً تماماً، وبصفة خاصة تلك البؤر التي تغلفها صراعات جيوسياسية على غرار الأزمة الأوكرانية، وخاصة قضية تايوان أو الصراع حول تايوان، والذي قد يؤدي إلى حرب بين بكين وواشنطن، وهو الاحتمال الذي كان يبدو مستحيلاً، لكنه الآن أصبح وارداً.
وكانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان، كدولة مستقلة، سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وتواجه إدارة الرئيس جو بايدن مأزقاً حقيقياً فيما يتعلق بتايوان، في ظل تكثيف الصين من خطواتها الهادفة إلى التأكيد على أن إعادة توحيد الجزيرة مع البر الرئيسي بات وشيكاً، لتتحول تايوان بالفعل إلى سؤال إجباري على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية.
وفي الفترة السابقة على بداية الهجوم على أوكرانيا، كانت المؤشرات جميعها تصب في اتجاه متى تقدم الصين على غزو تايوان، ومدى قدرة تايوان على التصدي للغزو، وكيف سيكون رد فعل واشنطن في تلك الحالة، لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا غير الأمور بشكل لافت، ونشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تحليلاً عنوانه "هل تكون تايوان الحرب التالية؟"، رصد كيف تضخمت المخاوف من أنَّ العالم قد يشهد مُجدَّداً حقبة شبيهة بالحرب الباردة؛ حيث تتنافس أقوى دول العالم على الهيمنة.
لماذا الحرب بين الصين وأمريكا احتمال وارد؟
ويرى كيفين رود أن العقد الحالي (2020 – 2030) أصبح الآن عقداً حاسماً في ظل تحول ميزان القوة بين الولايات المتحدة والصين، وهذا ما يدركه جيداً خبراء الاستراتيجية في البلدين. فبالنسبة لصانعي القرار السياسي في بكين وواشنطن، إضافة إلى العواصم الأخرى حول العالم، يعتبر هذا العقد هو سنوات الخطر. ففي حال وجد العملاقان (أمريكا والصين) وسيلة للتعايش معاً دون التخلي عن مصالحهما الجوهرية، سيكون العالم أفضل حالاً. أما في حالة الفشل في تحقيق ذلك التعايش السلمي، فالنتيجة هي احتمال اندلاع حرب أكثر خطورة وتدميراً بأضعاف ما نراه اليوم في أوكرانيا، بل أخطر من الحربين العالميتين السابقتين.
وبحسب رئيس وزراء أستراليا الأسبق، أصبح الصدام العسكري بين الصين وأمريكا خلال العقد الجاري احتمالاً فعلياً، رغم أنه لا يزال أمراً غير حتمي الحدوث. والسبب يرجع بشكل جزئي إلى التغير السريع في ميزان القوة بينهما، لصالح الصين، كما يرجع إلى قيام الرئيس الصيني شي جين بينغ منذ عام 2014 بتغيير الاستراتيجية الصينية من وضعية دفاعية بشكل أساسي إلى استراتيجية الذئب المحارب، والسعي بشكل هجومي واضح إلى تطوير المصالح الصينية حول العالم.
والسبب الثالث هو قيام الولايات المتحدة أيضاً باتباع استراتيجية مختلفة تماماً تجاه الصين منذ عام 2017، سمتها إدارة دونالد ترامب ثم إدارة جو بايدن بحقبة التنافس الاستراتيجي. ووضعت تلك العوامل مجتمعة كلاً من الصين وأمريكا على مسار تصادمي خلال السنوات الحالية، أو سنوات الرعب والخطر.
هذه العوامل مجتمعة، بحسب كيفين رود، أوصلت العلاقات الصينية-الأمريكية إلى نقطة ساخنة جعلت جميع المحللين والخبراء الجادين يفترضون بشكل متزايد أن أزمة ما أو صراعاً أو حتى حرب أصبحت أمراً محتوماً. وهذا التفكير في حد ذاته خطير جداً، فالتاريخ الدبلوماسي يشير إلى أن مخاطر الحديث المتكرر عن احتمال وقوع أزمة يؤدي في نهاية المطاف إلى وقوع تلك الأزمة بالفعل، حيث يتم تحضير الرأي العام بالفعل.
وبالعودة إلى ما حدث في الأزمة الأوكرانية، نجد أن ما رصده وزير أستراليا الأسبق قد تحقق بالفعل. فعلى الرغم من أن حالة الحرب بين روسيا وأوكرانيا كانت تعتبر قائمة منذ 2014، إلا أن اندلاع الحرب الحالية لم يكن أمراً محتوماً بل كان يمكن تجنبها بالفعل، لكن بعض الأطراف وجدت أن إشعال الأزمة يحقق لها مصالح معينة، وتتجه أصابع الاتهام بشكل أساسي لإدارة جو بايدن ولحكومة بوريس جونسون، بحسب أغلب التحليلات.
فالأزمة الأوكرانية بالأساس أزمة جيوسياسية كان يمكن تجنب تحولها إلى حرب في حالة أخذ المطالب الأمنية الروسية بمزيد من الجدية من جانب الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يحدث، وبالتالي اندلعت الحرب الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، والعيون الآن شاخصة باتجاه أزمة جيوسياسية أخرى وهي قضية تايوان.
هل يعني هذا أن الحرب باتت حتمية؟
يرى كيفين رود أنه لا يوجد أي سبب يجعل الحرب، أي حرب، أمراً محتوماً، وأن أفضل وسيلة الآن لتفادي ذلك السيناريو المرعب بين بكين وواشنطن هو أن يسعى كل طرف منهما إلى فهم الدوافع الاستراتيجية لدى الطرف الآخر. وأفضل ما يمكن أن يتحقق خلال سنوات الخطر هو أن تكون العلاقة بينهما علاقة تنافس محمومة تدعمها وجود أسلحة الردع لدى كل منهما.
ويعتبر وضع الحوار السياسي والدبلوماسي بين الصين والولايات المتحدة على مسار مستمر دون انقطاع والحديث المباشر بين المسؤولين السياسيين ضمانة رئيسية لعدم تحول التنافس المحموم إلى صراع مسلح يديره الجنرالات، فهنا يكمن الرعب الفعلي.
ويرى كيفين رود أن تغير ميزان القوة لصالح الصين مؤخراً هو جانب واحد من القصة، أما جانبها الآخر فهو تغير شخصية القيادة في الصين، التي لم تحظَ بزعيم في قوة شخصية ماو تسي تونغ حتى جاء الرئيس الحالي شي جين بينغ، الذي يتمتع بسيطرة مطلقة على كل مستويات الحزب الحاكم والدولة أيضاً.
وبحسب وجهة النظر الأمريكية، كما استعرضها رئيس وزراء أستراليا الأسبق في دراسته، يريد شي جين بينغ تصدير نموذج الحكم الصيني، القائم على الشمولية والحزب الأوحد والزعيم الأوحد والسيطرة المطلقة للدولة على مناحي الحياة، إلى دول العالم الأخرى، مستترة وراء الاستثمارات والاقتصاد في إطار مبادرة الحزام والطريق.
لكن بالطبع الصين لا ترى الأمور بتلك الطريقة، فالرئيس الصيني لا يرى خطأ أو عيوباً في النظام السياسي لبكين من جهة، كما يرى أن بلاده لا تسعى إلى فرض أي شيء على الدول الأخرى، عكس ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسبب سعيها لفرض نظام سياسي بعينه على دول العالم في تدمير دول وكثيرة وخلق نظام عالمي قائم على "فرض الهيمنة بالقوة"، وهو ما ترفضه الصين ولا تسعى لتكراره.
لكن رغم كل تلك العوامل التي تجعل من المسار التصادمي بين القوتين الأعظم خلال العقد الجاري احتمالاً وارداً، إلا أن كيفين رود يرى أن هناك عدداً من الخطوات الأساسية التي يمكنها أن تساعد بكين وواشنطن على التعايش معاً في مسار تنافسي محموم، دون الدخول في صراع مسلح.
وبداية هذا المسار تكون بتطوير مستوى جديد من الوعي الاستراتيجي المشترك، والذي لا بد أن يتبعه عمل شاق بغرض بناء إطار عمل استراتيجي صلب ومشترك بين بكين وواشنطن يكون الهدف منه تحقيق ثلاث مهام كبرى متداخلة، المهمة الأولى الاتفاق على مبادئ وإجراءات لاستكشاف الخطوط الحمراء الاستراتيجية لدى كل طرف (على سبيل المثال فيما يخص تايوان). والهدف هنا هو تحديد الخطوط الحمراء الاستراتيجية لدى بكين فيما يخص تايوان، والتي في حالة قيام أمريكا بتخطيها تندلع الحرب، والعكس بالعكس.
أما المهمة الثانية فهي تحديد مشترك للمناطق والمجالات التي يمكن للصين وأمريكا أن تتنافسا فيها بشكل محموم، وأن يسعى كل طرف لتحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر، مثل السياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية والتطور التكنولوجي وغيرها.
وتتركز المهمة الثالثة في تحديد المجالات التي يجب أن يستمر فيها التعاون الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة، مثل ملف التغير المناخي، حتى يتم تشجيع ذلك التعاون المفيد للطرفين وللعالم أجمع.
لكن بالطبع لا يمكن أن تتحقق مهمة من المهام الثلاث دون الأخرى، ويمثل غياب الثقة بين الجانبين، إضافة إلى معطيات السياسة الداخلية لدى كل منهما، وإن كان تأثير ذلك في السياسة الأمريكية أكبر بكثير، فالعقبة الرئيسية وراء تحقق تلك المهام وتفادي السيناريو المرعب خلال السنوات الحالية.