فرض الغرب عقوبات غير مسبوقة على روسيا بسبب الهجوم على أوكرانيا، ويبدو الصف الغربي كجبهة واحدة، لكن هذه الوحدة يمكن وصفها بالشكلية، فالخلافات بين دول أوروبا أكثر عمقاً مما قد يتخيل البعض.
العقوبات الغربية على روسيا بدأت قبل أن يبدأ الهجوم على أوكرانيا، وتحديداً منذ إعلان الرئيس فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال منطقتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين ضمن إقليم دونباس الأوكراني، واستمرت حزم العقوبات، وكان آخرها هذا الأسبوع، على خلفية مزاعم ارتكاب القوات الروسية جرائم إبادة جماعية في مدينة بوتشا الأوكرانية، رغم نفي موسكو.
ومنذ أن بدأ الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه روسيا بأنه عملية عسكرية خاصة، ويصفه الغرب بأنه غزو غير مبرر، تتكرر الاجتماعات والقمم بين الحلفاء الغربيين لإظهار الوحدة والتماسك في مواجهة روسيا، لكن المؤشرات تؤكد أن ما تشهده الكواليس بعيداً عن عدسات المصورين أمر مختلف.
الخلافات بين أمريكا وأوروبا
منذ بدأت الأزمة الأوكرانية، التي هي بالأساس أزمة جيوسياسية، كان واضحاً أن بعض الزعماء العرب، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، يوظفونها لأغراض سياسية داخلية خاصة بهم، وهذا ليس تحليلاً أو تخميناً، بل جاء هذا الاتهام بشكل مباشر على لسان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه، قبل أقل من شهر من بدء الهجوم الروسي على بلاده.
زيلينسكي، خلال مؤتمر صحفي عقده في العاصمة كييف، يوم 28 يناير/كانون الثاني الماضي، واجه عاصفة من أسئلة الصحفيين حول "الغزو" الروسي المحتمل أو "الوشيك"، فانفعل زيلينسكي ودعا إلى التوقف عن "إثارة الفزع"، مضيفاً أنه في حالة اندلاع الحرب فعلاً فـ"لن يتدخل جيش أي دولة أخرى للدفاع عن أوكرانيا".
الرئيس الأوكراني اتهم الصحافة بإثارة الذعر، وقال إن بعض الدول الأوروبية تعمل على خلق أجواء الذعر، بسبب احتمال نشوب حرب بين أوكرانيا وروسيا، داعياً إياها إلى التصرف بحذر أكبر، عند الحديث عن التوتر بين بلاده وروسيا.
صحيح أن زيلينسكي لم يوجه الانتقادات إلى زعماء أو دول بعينها، إلا أنه رداً على أسئلة تتعلق بإجلاء سفارات غربية بعض موظفيها من كييف، أبدى انزعاجه بشكل علني: "الدبلوماسيون مثل قادة السفن"، وأضاف: "يجب أن يكونوا آخر من يغادر سفينة تغرق، وأوكرانيا ليست تيتانيك".
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أول دولتين تتخذان تلك الخطوة، أي إجلاء الدبلوماسيين من أوكرانيا، وكانت السفارة الأمريكية قد أصدرت بياناً قالت فيه: "تشاورنا مع الحكومة الأوكرانية بشأن هذه الخطوة، ونقوم بالتنسيق مع سفارات الحلفاء والشركاء في كييف مع تحديد مواقفهم"، لكن الواضح أن ذلك التصرف لم يشهد أي تنسيق مع الأوكرانيين، وإلا لما أظهر رئيسهم غضبه.
وعندما زار المستشار الألماني أولاف شولتز واشنطن قبيل بدء الهجوم الروسي لتنسيق الموقف الغربي مع الرئيس الأمريكي، كان واضحاً أن استعراض الوحدة بينهما خلال المقابلات الصحفية ليس متقناً ولا مقنعاً، بحسب أغلب المراقبين والمحللين.
هل انتهت الخلافات مع بدء الهجوم الروسي؟
لكن بعد أن بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا بالفعل بدا أن الغرب قد وحّد صفوفه، وقرر ألا يسمح للرئيس الروسي بوتين بشق صف التحالف بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وتم بالفعل فرض عقوبات غير مسبوقة على موسكو، سواء اقتصادياً أو سياسياً أو حتى ثقافياً ورياضياً وباقي مناحي الحياة.
لكن قطاعاً واحداً ظل يمثل محوراً للخلاف بين الولايات المتحدة من جهة وبين دول أوروبا بقيادة ألمانيا من جهة أخرى، وهو قطاع الطاقة الروسي. فأوروبا تعتمد بشكل رئيسي على الغاز الروسي، وكذلك النفط والفحم، ولن يكون التخلي عن واردات الغاز والنفط الروسية أمراً يسيراً بالنسبة لتلك الدول، وبخاصة ألمانيا، التي تستورد نحو 40% من احتياجاتها من روسيا.
استمرار الحرب في أوكرانيا، رغم ذلك، أعطى دفعة كبيرة للأصوات المطالبة بحرمان روسيا من تصدير النفط والغاز، فالطاقة تمثل العصب الرئيسي للاقتصاد الروسي، وبصفة خاصة في أروقة السياسة الأمريكية، وكان السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام قد قال إن أي عقوبات على روسيا لا تشمل النفط والغاز لن يكون لها تأثير حقيقي على بوتين.
وبالتالي اتّخذ جو بايدن قرار حظر واردات النفط والغاز الروسية، منذ 9 مارس/آذار. فمنذ البداية كان السعي إلى فرض حظر على النفط والغاز الروسي تقوده الولايات المتحدة وحلفاء غربيون من خارج الاتحاد الأوروبي، بينما تتردد الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا في تطبيق ذلك الحظر، كونها ستتأثر بنفس قدر روسيا وربما أكثر من هذه العقوبات.
لكن رغم مرور نحو 6 أسابيع على اندلاع الحرب في أوكرانيا، لا يبدو أن الخلافات بين الدول الأوروبية نفسها قد تلاشت، بل يمكن القول إنها تزداد حدة وتخرج إلى العلن شيئاً فشيئاً، والسبب الأزمات وملفات السياسة الداخلية للدول الأوروبية.
ففي حديث تلفزيوني، الأربعاء 7 أبريل/نيسان، ندّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافتسكي، على خلفية انتقادات وجَّهها الأخير لماكرون، بشأن المحادثات الهاتفية المتكررة التي يجريها الرئيس الفرنسي مع فلاديمير بوتين، لبحث الحرب في أوكرانيا.
ماكرون اعتبر تصريحات مورافتسكي "بلا أساس" و"فاضحة"، مضيفاً أنها ليست مفاجئة له، لأن مورافتسكي الذي "ينتمي إلى حزب يميني متطرف (…) يتدخل في الحملة السياسية الفرنسية"، بعد أن "استقبل مراراً (مارين) لوبان"، مرشحة "التجمع الوطني" الفرنسي، ومنافسته في الانتخابات الرئاسية، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
الأزمة الأوكرانية أو الحرب في أوكرانيا إذن أصبحت ملفاً رئيسياً في الانتخابات الفرنسية، التي يسعى فيها ماكرون إلى الفوز بفترة رئاسية ثانية، ويواجه منافسة قوية من لوبان، زعيمة اليمن المتطرف، ومعهما 10 مرشحين آخرين. الجولة الأولى من انتخابات فرنسا يوم الأحد 10 أبريل/نيسان، وسيتوجه الناخبون مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع يوم 24 أبريل/نيسان، لاختيار الفائز بين المتأهلين لجولة الإعادة، والمتوقع بحسب استطلاعات الرأي أن يكونا ماكرون ولوبان، في تكرار لانتخابات 2017.
ألمانيا وبولندا تتبادلان الاتهامات
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً عنوانه "انقسامات الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا تظهر بوضوح في رقم 10″، ورقم 10 إشارة لمقر مجلس الوزراء البريطاني، 10 دوانينغ ستريت، والمقصود اللقاء الذي يستضيف فيه جونسون مستشار ألمانيا شولتز ورئيس بولندا دودا.
ووصف تقرير الصحيفة البريطانية لقاء جونسون مع شولتز ودودا بأنه سيكون أقرب إلى السير على حبل مشدود، إذ ستكون الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي متجسدة بشكل لافت، فبولندا أكثر الدول الأوروبية تطرفاً في انتقاد روسيا وبوتين، بينما ألمانيا تتمسك بموقف أقل هدوءاً بكثير.
ورغم أن وزيرة الخارجية الألمانية ضمن الائتلاف الحكومي الجديد الذي يقوده شولتز كانت قد زارت بولندا، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في مؤشر على سعي برلين للتقارب أكثر مع وارسو، إلا أن تلك الزيارة تنتمي الآن إلى ما يمكن وصفه بالماضي السحيق، كناية عن التأثير الضخم الذي أحدثته الحرب في أوكرانيا.
بولندا، التي فتحت حدودها لاستقبال أكثر من 2.5 مليون لاجئ أوكراني، كانت قد عرضت إرسال ما تمتلكه من طائرات ميغ السوفييتية الصنع إلى أوكرانيا، لكن تلك القصة تسببت في خروج الخلافات داخل المعسكر الغربي إلى العلن، حيث رفضت الولايات المتحدة وألمانيا تلك الخطوة؛ تفادياً للصدام المباشر بين روسيا والناتو.
ويتصرف الرئيس البولندي دودا، ورئيس الوزراء وباقي مسؤولي الحكومة البولندية الحالية بطريقة عدائية، أقرب للتطرف تجاه الروس وفلاديمير بوتين، ويطالبون بمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، بينما يلتزم شولتز وماكرون بالمسار الدبلوماسي، ويسعيان إلى البحث عن اتفاق لوقف إطلاق النار.
وبحسب تقرير الغارديان، لا يبدو أن الخلافات الحالية بين المعسكر الذي تمثله ألمانيا، والآخر الذي تمثله بولندا، يمكن أن يتم احتواؤها، فالأمر ستكون له انعكاسات وتداعيات على الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وتوجهاته الاقتصادية في المستقبل، أي أن الشقاق بدأ يتجاوز كيفية التعامل مع الأزمة الأوكرانية إلى ما هو أكثر شمولاً.
وفي دليل آخر على مدى عمق الخلافات بين الدول الأوروبية، اتهمت الحكومة الأوكرانية المجر بمساعدة بوتين في حربه على أوكرانيا، بعدما قال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، إن بلاده مستعدة لدفع تكاليف الغاز الروسي بالروبل، الأمر الذي تطالب به موسكو لدعم عملتها الوطنية.
وهناك خلاف حول عدّة مسائل مستمرة بين بودابست وبروكسل، ويصف بعض المراقبين رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، بـ"رجل بوتين" داخل الاتحاد.
الخلاصة هنا هي أن الانقسامات بين الدول الأوروبية بشأن كيفية التعامل مع الهجوم الروسي على أوكرانيا أعلى صوتاً، وتطغى على اللقاءات الرسمية والتصريحات الدبلوماسية، وتمثل بولندا طرفاً والمجر طرف نقيض، وبينهما ألمانيا وفرنسا، التي يبدو أن الأزمة الأوكرانية أصبحت ملفاً رئيسياً في الانتخابات الرئاسية هناك.