بالأساس كل العقوبات التي تفرضها دولة ما على دولة أخرى هي من نوع "العقوبات الأولية"، التي تتعلق فقط بنطاق نفوذ قانون هذه الدول، والشخصيات الحقيقية -مثل الأفراد، والشخصيات المعنوية -مثل الشركات، الواقع ضمن نطاق القانون المحلي لهذه الدول.
وبالمجمل رغم الضرر الكبير الذي توقعه هذه العقوبات فإنها ليست أقصى حد يمكن الوصول إليه، فيمكن للدول أن تفرض عقوبات على أي شركة أو فرد يقيم علاقات اقتصادية مع الأطراف المعاقبة، حتى ولو لم تكن هذه الشركات خاضعة للقانون المحلي لهذه الدول.
مثل هذه العقوبات معروفة باسم "العقوبات الثانوية"، وهي ليست سلاحاً خطيراً في يد الدول الصغيرة، أو الدول التي لا تمتلك نظاماً مالياً ضخماً، تستطيع حرمان غير مواطنيها وشركاتها من الوصول إليه، في حال رغبتهم في استمرار التعامل مع الدول أو الجهات المعاقَبة.
لذلك فالولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول قدرة على تطبيق مثل هذه العقوبات، وهو نوع من العقوبات قد لا ينتج أثراً كبيراً في حال تطبيقه على دولة مثل إيران، لأن حجم اقتصادها صغير نسبياً، والعالم معتاد على كونها دولة محاصرة ومعزولة، وقد لا يكون تشابك اقتصادها عالمياً بحجم تشابك الاقتصاد الروسي مثلاً.
ما العقوبات الثانوية ولماذا يُبحث تطبيقها الآن؟
في حالة "العقوبات الأولية" هناك طرفان للموضوع، الجهة المعاقَبة، والجهة المعاقِبة، فالدولة التي تقرر فرض العقوبات تقوم بمنع مواطنيها وشركاتها، وكل جهة داخل نطاق نفوذها القانوني المحلي من العمل مع الجهة المعاقَبة، ويتضمن ذلك تجميد الأرصدة، وحجز احتياطات الدول، وغيرها من الإجراءات المتعلقة بالتعاملات في داخل البلد الفارض للعقوبات.
بالرغم من الأثر الكبير لمثل هذه العقوبات عند صدورها من اقتصادات ضخمة؛ مثل اقتصادات أمريكا والاتحاد الأوروبي واليابان، فإنها لا تستطيع وحدها تطبيق حصار كامل على الدولة المراد عقابها، وليست هذه العقوبات أقصى ما يمكن للدول فعله.
في المقابل تستطيع الدول تطبيق "العقوبات الثانوية"، والتي تعني فعلياً تخيير الشركات والبنوك والأفراد خارج البلاد، بين التعامل معها، واستمرار القدرة على الوصول إلى النظام المالي المحلي، أو التعامل مع الدولة المعاقَبة.
لن تستطيع الجهات الثالثة، والتي لا تتبع للنفوذ القانوني الأمريكي في هذه الحالة أن تستمر بالتعامل مع روسيا، إذا قررت أمريكا تطبيق العقوبات الثانوية.
كما أنها ستصبح ممنوعة من الوصول إلى النظام المالي الأمريكي، وبالتالي ستتأثر قدرتها على التعامل بالدولار الأمريكي، العملة الأساسية في العالم، وأحد أهم "مخازن القيمة" فيه، وبالتالي فإن دولاً وشركات كثيرة ترغب بحفظ علاقة متوازنة مع الطرفين، لن تستطيع ذلك في حال تطبيق العقوبات الثانوية.
وبالطبع سيضطر الكثيرون في العالم إلى أخذ جانب أمريكا والدولار، على إبقاء التعامل مع روسيا وشركاتها، لكن بعض الدول -مثل بيلاروسيا- لن تستطيع فعل ذلك؛ لأن التعامل التجاري لدولة مثل بيلاروسيا مع روسيا لا يمكن تعويضه مع دولة أخرى، وهو يمثل أكثر من نصف تبادلها التجاري مع العالم.
بسبب أن العقوبات المطبقة حتى الآن "عقوبات أولية"، فمن السهل على روسيا أن تجد منافذ لإبقاء تعاملاتها مع الاقتصاد العالمي، ولذلك يرغب البعض في إغلاق هذه الثغرات، عن طريق العقوبات الثانوية على روسيا.
يحصل ذلك في ظل استمرار العملية العسكرية، وظهور أن العقوبات وإن آذت الاقتصاد الروسي، إلا أنها لن تحقق هدفها في إيقاف الهجوم على أوكرانيا، أو تعدل موقف الرئيس الروسي من تحقيق أهدافه من "العملية العسكرية".
وحتى على مستوى الاقتصاد استطاع البنك المركزي الروسي إعادة قيمة الروبل إلى قيمة قريبة جداً من حالته قبل الحرب، ويرجع ذلك إلى عدة إجراءات من قبل المركزي الروسي، أحدها يعتمد على مبيعات الغاز والنفط إلى الخارج، والذي لم يفرض عليه حظر كامل حتى الآن.
يُقدر أن الاتحاد الأوروبي وحده اشترى طاقة من روسيا بقيمة 17 مليار دولار، منذ بدء الهجوم العسكري على أوكرانيا، وهو ما يجعل الدول الأوروبية ممولة للمجهود الحربي الروسي، ولو بشكل غير مباشر.
كيف تطبّق "العقوبات الثانوية"؟
في حالة العقوبات الأولية تستطيع الولايات المتحدة معاقبة أي شركة داخل حدودها إذا ثبت تعاملها مع روسيا، أو مع أي جهة مشمولة بالعقوبات الأمريكية، وتنفذ العقوبات بفرض غرامات أو بمصادرة أصول مالية للشركات التي تخرق العقوبات.
ولكن هذه الإجراءات غير ممكنة في حالة شركة هندية مثلاً، إلا لو كان لهذه الشركة فرع أو استثمارات في أمريكا، ولكن شركات كثيرة لن تكون في مثل هذه الحالة، أو ستكون استثماراتها داخل الولايات المتحدة مفصولة ضمن وحدة قانونية مختلفة مثلاً.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع أن تؤثر على مصالح هذه الشركات التي لا تعمل داخلها؛ بسبب مركزية الاقتصاد الأمريكي في العالم، وكون النظام المالي الأمريكي هو قلب النظام المالي العالمي.
الدولار -مثلاً- هو أكثر عملة متداولة في العالم، وكثير من الصفقات تتم في العالم باستخدامه، حتى لو لم تكن أمريكاً طرفاً في هذه الصفقات بأي شكل من الأشكال، فالدولار اليوم وسيلة نقل القيمة الأهم في العالم.
تحاول العقوبات الثانوية في حال تطبيقها تقييد وصول الشركات التي ترغب في التعامل مع روسيا للعملة الأمريكية، والتي تشكل 60% من الاحتياطات العالمية، وقد يتبع الاتحاد الأوروبي الخطوة الأمريكية، لتطبق نفس نوعية العقوبات على ثاني أكثر العملات استخداماً في العالم.
الغالبية الكبرى من العقوبات الثانوية الأمريكية مفروضة على إيران حالياً، والباقي مفروض على كوريا الشمالية، وهي عقوبات أصابت روسيا والصين سابقاً.
طُبقت هذه العقوبات الثانوية على إيران ضمن سياسة العقوبات القصوى، والتي تهدف إلى إضعاف إيران بأشد درجة ممكنة، ومنعها من تطوير أسلحة نووية.
رغم الأضرار الضخمة التي لحقت بالاقتصاد الإيراني فإن هذه العقوبات لم تُفلح في إسقاط النظام، أو زعزعة الاستقرار السياسي الداخلي بشكل ملحوظ، وكذلك ينطبق الأمر على كوريا الشمالية.
لكن بالطبع إذا ما فُرضت مثل هذه العقوبات على روسيا فسيرتفع الثمن الذي يدفعه الاقتصاد بسبب العقوبات، لكن روسيا لن تكون الطرف الوحيد المتضرر منها في حال تطبيقها.
أضرار "العقوبات الثانوية"
أولاً يرى الكثيرون أنه ليس من حق الولايات المتحدة تطبيق مثل هذه العقوبات، فهي فعلياً محاولة لتعميم القانون الأمريكي خارج حدودها، وهو أمر غير منطقي.
يتهم هؤلاء الولايات المتحدة بمحاولة تسليح النظام المالي العالمي، واستخدامه كأداة للتدخل في سياسة الدول المختلفة، لتصبح متماشية غصباً مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي بذلك تقوض استقلالية القرار الخارجي للدول.
لذلك تدعو الصين وروسيا منذ زمن لاستبدال الدولار كعملة عالمية، بنشر عملاتها المحلية، وتحديداً اليوان الصيني، ومحاولة التخلص من استخدام الدولار في التعاملات الخارجية.
ولأن دولاً كثيرة لا تزال تحتفظ بعلاقات تجارية مع روسيا، وقد لا تستطيع التخلي عن هذه العلاقات فإن تطبيق مثل هذه العقوبات قد يقوّض الوحدة الغربية ضد روسيا، ويزعزع صفّ التحالف الأوروبي-الأمريكي ضد الهجوم على أوكرانيا، وهو أمر يدعو الغرب للقلق منذ ما قبل بدء الهجوم.
لذلك تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه العقوبات ستكون الملاذ الأخير، ففي حال رأت ألا شيء آخر فعالاً لتقويض المجهود الحربي الروسي، وإنهاء الهجوم على أوكرانيا، أو على الأقل إجبار بوتين على دفع ثمن غالٍ على استمراره، ستلجأ أمريكا لمثل هذه الخطوات.
فعلى سبيل المثال إذا استمرت ألمانيا بشراء الغاز والنفط الروسي، رغم تطبيق هذه العقوبات، فذلك يعني أن الولايات المتحدة ستضطر لمعاقبة ألمانيا وشركاتها على ذلك.
في المقابل قد تضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفصيل عقوباتها الثانوية، لمنع الآثار السيئة على الغرب، ولكن حينها ستنخفض احتمالية فاعلية هذه العقوبات، وبالتالي لن تؤدي الدور المرجو منها.
وقد تشعر بعض الدول في العالم في حال تفصيل العقوبات على مقاس المصالح الغربية أن الغرب يريد إيذاء روسيا على حساب مصالحها، وذلك قد يخلق مشاكل وتحديات للولايات المتحدة الأمريكية، فقد يستطيع العالم التخلي عن العلاقة التجارية مع إيران مثلاً، ولكن هل ستفعل دولة مثل الهند وباكستان ودول أمريكا اللاتينية الأمر نفسه؟ حتى لو كان ذلك مضراً بمصالحها؟
صحيح أن هذه الدول تربطها علاقات اقتصادية كبيرة مع الغرب، لكنها تربطها أيضاً علاقات اقتصادية مع روسيا، قد تؤثر بشدة عليها في حال اضطرت لقطعها، وقد يدعو ذلك إلى ضغط سياسي من دول كثيرة حول العالم، لمنع أمريكا من تطبيق مثل هذه العقوبات.
والأهم في هذه المعادلة هي الصين، فهل تستطيع أمريكا أن تبدأ مثل هذه الخطوات حتى لو شملت عملاقاً اقتصادياً عالمياً بحجم الصين؟ ألا يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تُعزّز عزل جزء من العالم، قد تضطر دول كثيرة للدخول في مجاله الاقتصادي، لينقسم العالم إلى مجالين: غربي بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، وشرقي بقيادة الصين وروسيا.
حتى كثير من حلفاء أمريكا في آسيا سيتضررون من مثل هذه الإجراءات، فحتى خصوم الصين يملكون تجارة كبيرة معها، مثلما أن الغرب أيضاً يمتلك تجارة كبيرة مع الصين التي تعتبر "مصنع العالم"، وكذلك تمتلك هذه الدول مصالح اقتصادية مع روسيا أيضاً.
نهاية، حتى على مستوى الدول والشركات التي لن تمانع مثل هذه العقوبات لن تكون هناك قدرة على إيضاح هذه العقوبات بشكل تام، وبيان تفاصيلها كاملة للأطراف المختلفة، وذلك قد يؤدي إلى امتثال زائد مع العقوبات، بما يعني أن كثيراً من الشركات ستترك تعاملات مالية غير مشمولة بالعقوبات، خوفاً من آثار العقوبات الأمريكية، وطلباً للبقاء في الجانب الآمن من المعادلة.
كل هذه الأمور تهدد النظام المالي العالمي، الذي كان قائماً على التوسع دائماً، وشمول الجميع داخله، مع مركزية غربية وأمريكية تحديداً، أما اليوم فهذا المنطق المالي الشمولي والذي أفاد الغرب كثيراً، وسمح بتحصيل كل هذه القوة الاقتصادية الجبارة، بدأ بالانحسار على يد الغرب نفسه، وعلى يد الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً.
ورغم أن العقوبات تضرب الاقتصاد الروسي اليوم، فإنه لا يمكن لأحد التنبؤ بما سيحصل على المدى البعيد، فقد تجبر العقوبات الغربية روسيا على اجتراح نموذج اقتصادي جديد، قد تلحقه فيها دول أخرى، ضمن تحالف ضخم مع الصين أيضاً، وذلك قد يعني أن الدول المعادية للغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، قد تصبح بسبب العقوبات الغربية وشدتها أكثر قدرة على المواجهة في المدى البعيد، بدلاً من أنها كانت تمارس اللعبة الاقتصادية ضمن القواعد الغربية سابقاً.