لعقود طويلة كان الجيش الباكستاني الحاكم الفعلي للبلاد، سواء كان ذلك بشكل صريح أو خفي، ولفهم المآلات المحتملة للأزمة الباكستانية بين رئيس الوزراء الحالي عمران خان والمعارضة التي أفضت لحل البرلمان يجب فهم تاريخ الجيش الباكستاني المركب.
وإضافة للسيطرة على مقاليد البلاد السياسية، فإن الجيش الباكستاني له مصالح مع تجارية واقتصادية كبيرة في البلاد، وقد أدى ذلك إلى وصفه بأنه يتصرف كدولة داخل الدولة، وكثيراً ما يسمى بـ"المؤسسة".
تاريخ الجيش الباكستاني.. بسالة في الخارج وانقلابات في الداخل
في معظم الفترة منذ الاستقلال في عام 1947، أدار الجيش الباكستاني البلاد إما بشكل مباشر، تحت حكم ديكتاتوريين عسكريين مباشرين، أو عبر إمساك خيوط اللعبة السياسية من وراء الكواليس.
السياسيون المدنيون، بدورهم، إما أنهم كانوا مؤيدين للجيش أو أطاحت بهم انقلابات المؤسسة العسكرية الصريحة وغير الصريحة.
ويؤكد السياسيون المعارضون أن الجيش هو الذي منح خان منصبه الحالي. في المقابل، كما يقولون، أدار خان حكومة خاضعة لا مثيل لها للجنرالات، رغم أن هناك مؤشرات على أن العلاقة بدأت تتوتر بشدة بين خان وقادة الجيش.
وينص الدستور الباكستاني على دور رئيس باكستان كقائد عام مدني للجيش الباكستاني، ورئيس أركان الجيش الحالي هو الجنرال قمر جاويد باجوا، الذي تم تعيينه في هذا المنصب في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
ويحظى الجيش الباكستاني بأهمية خاصة في البلاد منذ نشأتها، فهو مؤسسة وطنية عابرة للإثنيات في بلد متعدد الهويات واللغات، كما أنه حامي البلاد في مواجهة الهند التي تفوق باكستان نحو خمس مرات سكاناً واقتصاداً.
ورغم هزائمه عدة مرات أمام الجيش الهندي، ولكن يعترف للجيش الباكستاني بالكفاءة والقدرة على إدارة موارده القليلة لبناء جيش كفؤ، كما استطاع بالتعاون مع رؤساء الحكومات المدنيين وعلماء البلاد بناء ترسانة عسكرية محلية تشمل أسلحة نووية وصواريخ وتصنيعاً لطائرات ودبابات بالتعاون مع الصين، إضافة لإدارة المخابرات الباكستانية لملف أفغانستان وكشمير بطريقة تتسم بالدهاء في مواجهة دول أغنى وأكثر قوة مثل الولايات المتحدة وروسيا والهند وإيران.
لكن هذه الصورة الإيجابية التي يعترف بها الباكستانيون لجيش بلادهم يشوهها دوماً تاريخ مستمر من الانقلابات والتدخل في الشأن السياسي.
بدأت الانقلابات العسكرية في باكستان عام 1958 وكانت هناك ثلاث محاولات ناجحة، ولكن كان هناك أيضاً العديد من المحاولات الفاشلة منذ عام 1949، إضافة إلى النفوذ السياسي.
ومنذ استقلالها في عام 1947 (أمضت باكستان عدة عقود تحت الحكم العسكري وذلك خلال الفترات التالية (1958 – 1971، 1977 – 1988، 1999 – 2008) أي نحو نصف عمرها منذ الاستقلال.
البداية مع الانقلاب غير العسكري الذي مهَّد الطريق للجنرالات
في عام 1953، أقال الحاكم العام لباكستان غلام محمد (وهو منصب شبه شرفي كان يربط بين بريطانيا وباكستان في بداية عهد الاستقلال) حكومة رئيس الوزراء خواجة ناظم الدين على الرغم من تمتعها بدعم الجمعية التأسيسية لباكستان، ثم في عام 1954 أقال الجمعية التأسيسية نفسها لمنعها من تغيير الدستور لتقييد سلطات الحاكم العام.
وقدم فشل المحاكم في دعم المؤسسات التمثيلية في ذلك الوقت نمطاً أدى إلى مزيد من التدخل العسكري المفتوح ضد الحكومات المنتخبة لتبريره باستخدام مبدأ الضرورة.
ويعتبر المؤرخون هذا الإجراء بداية لسياسة في باكستان تقوم على أن للبيروقراطية العسكرية والمدنية، وليس المسؤولين المنتخبين، نفوذاً متزايداً على صنع القرار في البلاد.
الرئيس يطيح بالحكومة باستخدام الجيش، ولكن سرعان ما انقلبوا عليه
في عام 1958، قام أول رئيس باكستاني اللواء إسكندر ميرزا بإقالة الجمعية التأسيسية لباكستان وحكومة رئيس الوزراء فيروز خان نون، وعين القائد العام للجيش الجنرال أيوب خان كرئيس تنفيذي للأحكام العرفية.
بعد 13 يوماً، أطيح بالميرزا نفسه على يد أيوب خان، الذي عين نفسه رئيساً.
إعدام الرجل الذي أطلق مشروع القنبلة النووية الباكستانية في 1977
كانت عملية اللعب النظيف هي الاسم الرمزي للانقلاب الذي نُفذ في منتصف ليل 4 يوليو/تموز 1977 من قِبَل الجيش الباكستاني بقيادة قائد الجيش الجنرال ضياء الحق ضد حكومة رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك ذو الفقار علي بوتو الذي كان قد عينه قائداً للجيش، وهو رئيس وزراء تمتع بشعبية كبيرة وسيطرة على البرلمان.
بسبب الأزمة السياسية مع المعارضة، في منتصف ليل 4 يوليو/تموز 1977، أمر قائد الجيش الجنرال ضياء الحق باعتقال بوتو ووزرائه وغيرهم من قادة كل من حزب الشعب الباكستاني والتحالف الوطني الباكستاني.
وأعلن الجنرال ضياء الحق في خطاب متلفز على المستوى الوطني، عن حل الجمعية الوطنية الباكستانية وجميع مجالس المقاطعات، وتعليق الدستور الباكستاني.
كان الهدف من الاسم الرمزي للانقلاب اللعب النظيف (Fair Play) هو تصوير الانقلاب على أنه تدخل حميد يهدف لحكم محايد لدعم احترام القواعد وضمان انتخابات حرة ونزيهة بعد فشل حزب الشعب الباكستاني برئاسة بوتو في الاتفاق مع المعارضة على حل الأزمة السياسية في البلاد.
في عام 1977، أدانت المحكمة العليا أن بوتو بتهمة القتل العمد وحكمت عليه بالإعدام. على الرغم من طلبات الرأفة التي أرسلتها العديد من الدول، ولكن تم شنق بوتو في عام 1979.
اتهم الكثيرون الولايات المتحدة بأنه تم فرض الأحكام العرفية بإرادة وموافقة "ضمنية" منها.
في عام 1998، أعلنت رئيس بينظير بوتو ابنة ذو الفقار علي بوتو (التي تولت رئاسة الحكومة أيضاً) وحزب الشعب الباكستاني علناً إيمانهما بأن بوتو "أُرسل إلى المشنقة من قبل قوة عظمى ليكون أمثولة لسعيه إلى حيازة باكستان للقدرة النووية."
مشرف يطيح بنوار شريف بعدما حاول منع طائرته من الهبوط في 1999
برز رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف سلف الذي قضى أطول فترة في الخدمة باعتباره أحد رعايا الديكتاتور العسكري ضياء الحق، حسبما ورد في تقرير لموقع مجلة The Economist البريطانية.
في عام 1998، وقف قائد الجيش الباكستاني برفيز مشرف إلى جانب رئيس الوزراء آنذاك نواز شريف، حيث أشرف برويز مشرّف على تجربة نووية باكستانية ناجحة، في رد سريع على خطوة مماثلة من الهند، وكان ذلك كفيلاً بارتفاع أسهم الجنرال.
في أكتوبر/تشرين الأول 1999، اعتقل كبار الضباط الموالين لقائد الجيش الجنرال برويز مشرف رئيس الوزراء نواز شريف ووزرائه بعد تقارير عن إحباط محاولة نظام شريف إقالة مشرف من منصب قائد الجيش ومنع طائرته من الهبوط في باكستان أثناء عودته من زيارة إلى سريلانكا.
وتولى مشرف حكم البلاد، حيث هيمنت على السنوات الأولى من حكمه قضايا السياسة الخارجية، وخاصة النزاع مع الهند حول كشمير.
وقد أدى دعمه للرئيس الأمريكي جورج بوش في الحرب ضد أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011، الى تراجع شعبيته في بلاده.
وكانت الخطوة التي شكلت نقلة في سياساته إصداره تعليمات في شهر يوليو/تموز 2007 إلى قوات الأمن لمداهمة الجامع الأحمر والمدرسة الإسلامية المجاورة، مما أدى إلى مقتل أكثر من مئة شخص.
وقد اتهم رجال الدين وطلابهم في المسجد بشن حملة قوية لتطبيق الشريعة في العاصمة الباكستانية.
وعلى إثر اقتحام المسجد وقعت اشتباكات بين الجيش ومسلحين إسلاميين في منطقة القبائل شمالي البلاد، كما جرى تصعيد في العمليات الانتحارية التي لم تكن منتشرة في باكستان حتى ذلك الوقت.
وتميزت فترة رئاسته أيضاً بمواجهات مع جهاز القضاء بينها محاولة لعزل النائب العام، وبعد مذبحة المسجد دخلت باكستان في أزمة سياسية كبيرة، في وقت وصلت فيه شعبية مشرف إلى الحضيض.
في العام ذاته أيضاً، ضاق الجنرال برفيز مشرف بالقاضي افتخار تشودري كبير القضاة الذي أبطل عدة قرارات رئاسية لكونها تخالف الدستور، وأصر على أنه لا يحق لمشرف الجمع بين رئاسة الدولة وقيادة الجيش.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2007، أقال مشرف تشودري من منصب كبير القضاة، ولكن المحكمة العليا ألغت قرار الرئيس، فدخل القضاة في مواجهة طويلة مع الجنرال.
وبحلول 24 من الشهر ذاته، أكدت اللجنة الانتخابية الباكستانية انتخاب مشرف رئيسا للبلاد لولاية دستورية ثانية لمدة خمس سنوات.
لكنه لم يتعافَ من أزمتي تشودري والمسجد الأحمر، وما لبث أن تدهورت علاقته بالوسط السياسي، وارتفعت الأصوات المطالبة بعزله، وتزايد احتمال تقديم لائحة اتهام ضده.
وازداد موقفه ضعفاً، بعد عودة خصمه نواز شريف من المنفى إلى باكستان عام 2007، وهذه كانت بداية النهاية لعهده، فاضطر للاستقالة عبر التلفزيون في 18 أغسطس/آب 2008، ولم تكن هذه الاستقالة إلا مقدمة لملاحقة قضائية ضد جنرال ألقى بنياشينه في مستنقع السياسة؛ فانتهى به المطاف هارباً من العدالة، يتنقل بحذر بين دبي ولندن، حسبما وصف تقرير لموقع الجزيرة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، قضت محكمة خاصة في إسلام آباد بإعدام برويز مشرف (المقيم بالمنفى)، بعد إدانته بالخيانة العظمى لكونه عطّل الدستور، وفرض حالة الطوارئ في 2007.
هل نفذ الجيش انقلاباً ناعماً ضد نواز شريف؟
بعد توليه السلطة مرة أخرى في 2013، تشاجر رئيس الوزراء نواز شريف مع الجنرالات حول فشلهم في قمع الإرهاب.
وفي بعض الأحيان خلال فترة رئاسته للوزراء، كان الجيش متمرداً علنياً ضده، حيث رفض المساعدة في تفريق المتظاهرين الذين كانوا يشلّون العاصمة إسلام أباد.
وعلى سبيل المثال، اختفت شبكة التلفزيون التي دعمت السيد شريف بحماس في ظروف غامضة من موجات الأثير.
ويفترض الباكستانيون على نطاق واسع أن الجيش الباكستاني كان وراء منع السيد شريف من ممارسة السياسة على يد محكمة خاصة لمكافحة الفساد في عام 2018، ويقول منتقدو الجيش وعمران خان إن غياب مشرف ودعم الجيش لخان، مكن الأخير للوصول للسلطة عبر تحالف مستتر بينهما، ولكن الآن هناك حديث عن خلافات بين خان والجيش الباكستاني، الذي أكد حتى الآن على حياده تجاه الأزمة بين خان ومعارضيه.
المفارقة الآن حزب شريف يشيد بما يصفه بحياد الجيش في الأزمة بين خان والمعارضة.