تمثل الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة جديدة لإسرائيل لتوظيف أي صراع في أي مكان لتعزيز وحماية مصالحها وتحقيق مكاسب على حساب الطرفين المتصارعين حتى لو كان من بينهم يهود. وهنا يبرز سؤالان: كيف تستغل إسرائيل الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتحقيق مصالحها؟ ولماذا تقاتل إسرائيل من أجل وقف الحرب الروسية- الأوكرانية رغم معارضة أمريكا؟
وساطة تاجر قديم
العلاقة بين إسرائيل وكل من روسيا وأوكرانيا قديمة، فمن المعروف أن الاتحاد السوفييتي هو أول من اعترف بإسرائيل، والمعرفة بالعلاقة التاريخية بين أوكرانيا وإسرائيل أقل انتشاراً. يكفي أن نذكر بأن ثلاثة رؤساء إسرائيليين من أصل أوكراني وهم موسى شارييت وغولدا مائير وإسحاق رابين.
سعت إسرائيل للظهور بمظهر الوسيط بين روسيا وأوكرانيا لما تتمتع به من علاقات جيدة مع الطرفين، على الرغم من غضب روسيا لإدانة إسرائيل على لسان وزير الخارجية يائير لابيد الهجوم الروسي على أوكرانيا وتصويت إسرائيل لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا والمطالبة بالانسحاب الفوري من الأراضي الأوكرانية.
وصرَّح بيينت بعد لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمر بوتين بأن إسرائيل ستواصل محاولتها الوساطة بين روسيا وأوكرانيا حتى لو بدت فرص النجاح في ذلك ضئيلة.
وكانت أوكرانيا قد طلبت من إسرائيل القيام بدور الوسيط لما لها من علاقة جيدة بين موسكو وكييف، وأشار مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أنه هاتف الرئيس الأوكراني زيلينسكي ثلاث مرات في عطلة نهاية الأسبوع أوائل شهر مارس/آذار.
وعندما يتعلق الأمر بالشؤون الخارجية، يتجنب القادة الإسرائيليون عموماً "عدم احترام يوم السبت اليهودي"، بما في ذلك حظر السفر بالسيارات والطائرات وهي قاعدة غير مكتوبة مقدسة للغاية، فقد فقدَ رئيس وزراء (إسحاق رابين ولم يكن من اليهود الأرثوكس) انتهكها قبل نصف قرن تقريباً ( 1976) أغلبيته الحاكمة، لذلك عندما صعد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت- ليس فقط أي زعيم ولكن أول زعيم إسرائيلي أرثوذكسي- على متن طائرة متوجهة إلى موسكو يوم السبت، كان من الواضح أن شيئاً غير عادي كان على قدم وساق. فالاستثناءات لهذه القاعدة تمنح فقط عندما تكون الأرواح في خطر.
التقى بينيت بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمدة ثلاث ساعات في الكرملين ثم توجه إلى برلين لإجراء محادثات مع المستشار الألماني أولاف شولتس. يصور المسؤول الإسرائيلي الزيارة على أنها محاولة للتوسط لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهما دولتان تربطهما علاقات سياسية وثقافية طويلة الأمد مع إسرائيل. كما تحدث بينيت مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عدة مرات عبر الهاتف ومع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
لكنَّ الإسرائليين واضحون في أن دبلوماسية بينيت المكوكية تهدف أيضاً إلى الحفاظ على المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية في الشرق الأوسط مع اندلاع الصراع في أوكرانيا وكذلك ضمان سلامة الجالية اليهودية الكبيرة في أوكرانيا بحسب قولهم. ونعرض فيما يلي للمصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة.
– الحفاظ على آلية منع التصادم مع روسيا في سوريا
يتمثل أحد المخاوف الإسرائيلية الناشئة عن الأزمة الأوكرانية في قدرتها على الحفاظ على ما يسمى بآلية عدم التصادم مع روسيا في سوريا، منذ سبتمبر/أيلول 2015، عندما تدخلت القوات الروسية للحيلولة دون سقوط نظام بشار الأسد. وبموجب هذه الآلية يتواصل ضباط عسكريون إسرائيليون في تل أبيب مع نظرائهم الروس في قاعدة حميميم الجوية السورية قبل عمل سلاح الجو الإسرائيلي ضد المواقع الإيرانية والميليشيات المتحالفة معها وشحنات الأسلحة، وبحسب ما ورد وقعت المئات من هذه الضربات في السنوات الأخيرة.
قال مسؤولون إسرائيليون لمجلة فورين بوليسي إن هذه الضربات الجوية ضرورية لوقف تمدد إيران العسكري داخل سوريا؛ لذلك فإن عدم التضارب مع روسيا هو ضرورة استراتيجية، وأضاف مسؤول أمني لمجلة فورين بوليسي أن الآلية كانت "مفيدة للغاية خلال السنوات السبع الماضية لكل مننا والروس"، ولا تزال آلية منع التصادم تعمل على الرغم من القتال الدائر في أوكرانيا. فبعد يومين فقط من لقاء بينيت مع بوتين، قصفت الطائرات الإسرائيلية أهدافاً بالقرب من دمشق.
– عرقلة الاتفاق النووي الإيراني
كما ناقش بينيت مع بوتين وضع محادثات فيينا النووية بين إيران والقوى العالمية – وهي قضية أخرى مهمة لإسرائيل ستتأثر بالأزمة الأوكرانية. ووفقاً لمسؤول إسرائيلي ، أكد بينيت في لقائه مع بوتين أن إسرائيل تواصل معارضة مثل هذه الخطوة.
في غضون ذلك ، وجدت إسرائيل نفسها في موقف يحتاج لحسابات دقيقة وتوازن حساس يجيده كل تاجر متمرس قديم يحرص على علاقاته مع شركائه. ففي حين أن الإسرائليين غالباً ما ينحازون إلى أوروبا والولايات المتحدة، ولديهم علاقة طويلة جداً ومزدهرة معهم عبر المحيط الأطلسي، يبدو أن إسرائيل منخرطة في هذه المفاوضات حيث لا يوجد أي شخص آخر يمكنه ذلك على ما يذهبون. فقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إنه قرر "المشاركة عندما أدرك أنه لا يمكن لأي دولة أخرى التحدث بمصداقية إلى الجانبين".
ويلاحظ أن بينيت "يعمل كوسيط" بين زيلينسكي وبوتين بدلاً من محاولة تطوير مقترحات أو خطط. لا يزال هذا يتماشى مع سياسة إسرائيل الشاملة لمحاولة الحفاظ على اعتباراتها الأمنية والثقافية والاقتصادية والسياسية، مع كون روسيا حليفاً رئيسياً في القتال ضد الأهداف المدعومة من إيران في سوريا من جهة، والارتباط الديني الثقافي العميق بين إسرائيل أوكرانيا من جهة أخرى. بالنسبة لإسرائيل، يعد الإجراء الروسي في أوكرانيا مزعجاً ومقلقاً للغاية ، ومع ذلك فإن لديها أيضاً مخاوفها الجيوسياسية الخاصة بها للتعامل معها والتي سبق الإشارة إليها
ثانياً: حقائب محتلين جدد
ذكر قسم الاستيطان الإسرائيلي في المنظمة الصهيونية العالمية أنه قد تم بدء التحرك لإنشاء 1000 وحدة سكنية استيطانية جديدة لاستيعاب اليهود الفارين من أوكرانيا، حيث تتضمن الخطة إقامة وحدات سكنية يتم استخدامها كمبانٍ لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد، وستقام المباني في مناطق قرب الحدود الشمالية في النقب، وادي عربة، وادي الينابيع بالقرب من بيسان، وفي وادي الأردن.
ويستغل رئيس الوزراء الإسرائيلي الصراع لكسب تأييد داخلي يعزز من أسهم شعبيته بالإضافة إلى زيارته يوم السبت التي سبقت الإشارة إليها وهو من اليهود الأرثوذكس المعروفين بمراعاتهم للتعاليم التي تقضي بعدم مزاولة العمل أيام السبت، فقد حرص على أن تظهر صور استقباله للنساء والأطفال اليهود القادمين من أوكرانيا وهرولته لحمل الحقائب عنهم وهم على سلم الطائرة ولاستكمال المشهد قبل رأس طفل منهم معرفاً نفسه قائلاً: "أنا نفتالي رئيس وزراء إسرائيل" واصطحبه للنزول من الطائرة. وعلى تويتر كتب يقول إن هذه المجموعة من المستوطنين الأوكرانيين (المحتلين الجدد) ظلت تتحرك لمدة أسبوع في مناطق بها معارك للقصف.
وصرحت وزيرة الداخلية الإسرائيلية بأن بلادها مستعدة لتقديم الدعم لـ"موجة كبيرة جداً من المهاجرين" نتيجة هذا الصراع وهو ما قد يشمل 200 ألف أوكراني يهودي أو له قرابه عائلية يهودية وما يزيد عن 600 ألف روسي يهودي أو له قرابة عائلية يهودية بحسب ما نقلته عنها وكالة رويترز للأنباء والتي أشارت إلى أن مسؤولاً في وكالة الهجرة الإسرائيلية لديه توقع أكثر تواضعاً لعدد المهاجرين اليهود الأوكرانيين والروس، مؤكداً أنهم بعشرات الآلاف.
وقد انتقدت السفارة الأوكرانية في إسرائيل سياسة الحكومة العبرية في التمييز بين الفارين من الحرب الروسية الأوكرانية على أساس كونهم يهوداً أم لا وطالبتها بالتوقف عن وضع "عراقيل مصطنعة ضد أطفال ونساء فروا من أوكرانيا التي مزقتها الحرب".
هكذا ديدن إسرائيل في كل صراع لها فيه مصالح اقترب منها وابتعد جغرافياً، فهي تستغل علاقاتها وقدراتها السياسية والعسكرية والثقافية لتعزيز وصيانة مصالحها وعلى رأسها الاستيطان، ومن المرجح أنه إذا أصبحت الأمور أكثر اضطراباً مع الحرب الأوكرانية- الروسية، أن تقف إسرائيل إلى جانب أوكرانيا نظراً لأنَّ لديهم انتماءً ثقافياً عميقاً ولديهم حلفاء مشابهون في أوكرانيا أكثر من روسيا.
كما تستغل إسرائيل هذه الحرب لتقديم نفسها كوسيط دولي، معتقدة أن هذه السياسات تقدم صورة جديدة عن إسرائيل الوسيط وليس إسرائيل طرف الصراع كما هي دوماً، وعلى الرغم من أن هذا الهدف يعد أولوية فإنها لا تتخلي عن أي مكسب صغير أو كبير يمكن أن تحصل عليه من هذه الحرب.
وبالعودة للسؤال: لماذا تقاتل إسرائيل لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا رغم معارضة أمريكا؟ فقد يرجع السبب في ذلك إلى أن طول مدة الحرب ليس في صالح إسرائيل، فكلما طالت الحرب استلزم الأمر أن تمشي إسرائيل على الحبلين بتجنب غضب روسيا ومصالحها معها في سوريا واستمرار تفعيل آلية تجنب الصدام، ومن جهة أخرى الحفاظ على علاقاتها مع المعسكر الغربي الرافض للحرب وكذلك حماية علاقاتها الجيدة مع أوكرانيا.
إن تركيز إسرائيل على الحفاظ على أمنها وترتيب موقفها من العديد من القضايا واستغلال الأحداث الكبرى والدول الغربية في تحقيق مصالحها الخاصة من مثل الاتفاق النووي الإيراني، أو الحفاظ على أمنها من الجانب السوري/ الروسي، وكذلك مساعيها في زيادة عدد مواطنيها من خلال الاستيطان لا ينفصل عن السياسة الإسرائيلية الدائمة التي تسعى للحصول على المكاسب بشكل دائم، ومن المتوقع أن تطالب بعد انتهاء الحرب بحصة من المعونات للأوكرانيين الذين استقدمتهم كمستوطنين فيها، الأمر الذي يعني أنها استفادت من هذه الحرب سواء باشتعالها أو محاولات تهدئتها أو نهايتها، وهو أمر يدفع الدول العربية والإسلامية أن تحشد قواها وقدراتها لمواجهة السياسة الاستيطانية الإسرائيلية وانتقادها في المحافل الدولية، واعتبار أن مثل هذه السياسات الإجرامية تكون على حساب الشعب الفلسطيني وأرضه وموارده ومستقبل الأجيال الفلسطينية.