لم تسبق أيةُ تحذيراتٍ استخباراتيةٍ إسرائيلية العمليات الفدائية الفلسطينية المتتالية داخل العمق الإسرائيلي خلال الأيام الماضية، والتي أحدثت صدمة على جميع المستويات الرسمية داخل دولة الاحتلال؛ إذ يبدو أن منفذي هذه العمليات كانوا يسبقون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بخطوة، والتي كانت بدورها تتلمس طريقها في الظلام، بعد أن وجّه شبان فلسطينيون غاضبون من استمرار انتهاكات الاحتلال، "صفعة قوية إلى شعور الإسرائيليين بالأمان داخل مدنهم الحصينة"، كما يصف ذلك الإعلام الإسرائيلي. فماذا تعني عودة عمليات المقاومة الفلسطينية داخل عمق إسرائيل؟
"أسوأ مخاوف إسرائيل تتحقق".. ماذا تعني عودة العمليات الفدائية الفلسطينية داخل عمق الكيان؟
خلال أسبوع واحد فقط، قتل نحو 11 إسرائيلياً وأصيب نحو 14 آخرين، حيث بدأت سلسلة هذه العمليات بهجوم دهس وإطلاق نار في مدينة بئر السبع (جنوباً) يوم الثلاثاء 23 مارس/آذار، مروراً بعملية إطلاق نار في الخضيرة بمدينة حيفا (شمالاً) يوم الأحد 27 مارس/ آذار، تلتها بعد يومين فقط عملية نوعية أخرى في نقاط مختلفة داخل تل أبيب (شمالاً)، إذ نفذ الأولى والثانية فلسطينيون من الداخل يحملون الجنسية الإسرائيلية، فيما نفذ الثالثة شاب من الضفة الغربية، نجح بالتسلل إلى تل أبيب بسلاحه الرشاش.
وكانت العملية الثالثة في تل أبيب هي الأقسى والأشد، بحسب وصف الإعلام الإسرائيلي، بعد أن أوقعت 5 قتلى بينهم أفراد شرطة ومستوطنون ونحو 6 جرحى، كما أنها تعتبر الأولى من نوعها منذ 16 عاماً، وهي تعيد إلى الأذهان عمليات المقاومة الفلسطينية إبان الانتفاضة الثانية داخل عمق إسرائيل.
ويقول تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية، إن أبرز المخاوف الرئيسية المنتشرة داخل المؤسسة الأمنية منذ هجوم بئر السبع، هو أن انتقال الهجمات إلى الداخل وتنفيذها بواسطة مواطنين عرب في إسرائيل، سيحفز هجمات على نفس الوتيرة من جانب فلسطينيي الضفة الغربية، وهو ما تحقق في عملية بني براك في تل أبيب يوم الثلاثاء بالفعل.
حيث نجح منفذ العملية الشهيد ضياء حمارشة (26 عاماً) من الدخول بطريقة ما إلى وسط إسرائيل قادماً من مدينة جنين، وربما حظي بمساعدة أحد من الداخل، وبجعبته بندقية إم 16 وذخيرة، حيث نفذ عمليته على مراحل وتنقل بين 3 مواقع في تل أبيب، وهو ما يعتبر فشلاً أمنياً واستخباراتياً خطيراً بالنسبة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
عمليات "الذئاب المنفردة"
لا يزال المحققون الإسرائيليون يحاولون تحديد ما إذا كان هناك رابط بين هذه العمليات المتتالية، أو أن علاقة سابقة بين منفذ عملية بئر السبع، ومنفذي عملية الخضيرة. وعلى مدى اليومين الماضيين، اعتُقل كثير من الأشخاص في منطقة بئر السبع ومنطقة المثلث في الداخل المحتل. بالإضافة إلى ذلك شنت قوات الجيش الإسرائيلي حملات اعتقالات بالجملة داخل مدن الضفة الغربية، وخصيصاً في جنين ومخيمها؛ حيث يتواجد العديد من الخلايا المسلحة الفلسطينية هناك.
ولم يتبنَّ أي فصيل فلسطيني العمليات الثلاث، وهو ما قد يعني أن هذه العمليات يمكن أن تُصنف تحت بند هجمات الذئاب المنفردة، التي تُنفَّذ عن طريق أشخاص غير منتمين إلى منظمات أو فصائل بعينها، مما يجعل الأمر أكثر تعقيداً وأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل؛ حيث تتالت العمليات الثلاث في مناطق مختلفة في الداخل المحتل دون أي تحذيرات استخباراتية سابقة، مما قد ينقل شعلة الهجمات إلى منفذين جدد في الداخل أو بالضفة الغربية، بنية الانتقام من الاحتلال.
لكن الجيش الإسرائيلي يزعم أن عمليتي بئر السبع والخضيرة، كان منفذوهما "مواطنين مؤيدين سابقاً لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)"، كما نشرت حسابات مؤيدة لـ(داعش) على وسائل التواصل الاجتماعي تزعم مسؤولية التنظيم عن هجوم الخضيرة، لكن المزاعم من هذه النوعية تتطلب تأكيدات أكبر لأن داعش والشبكات المرتبطة به عادةً ما يزعمون مسؤوليتهم عن هجمات لم يكن لهم دورٌ فيها بالأساس، أو كانوا مجرد مصدر إلهامٍ لها فقط، كما يقول تقرير لصحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية.
وتقول الصحيفة إن "حفنةً من عرب الداخل سافروا للانضمام إلى تنظيم داعش بعد عام 2014. لكن أعداد مجندي داعش من عرب الداخل وحتى الضفة الغربية وغزة ظلت منخفضةً نسبياً، رغم انضمام المئات أو الآلاف من الدول المجاورة إلى التنظيم".
في السياق ذاته، يقول محللون إسرائيليون لموقع MEE البريطاني، إنه نادراً ما أبدت "داعش" اهتماماً أو نية في شن هجمات داخل إسرائيل، محذرين من أن المبالغة في تقدير صلات المهاجمين الفلسطينيين بداعش قد تكون مضللةً بشكل خطير.
إذ يكمن الخطر في استخدام السلطات الإسرائيلية للتهديد المتصور لتنظيم الدولة الإسلامية لتبرير تكثيف الاقتحامات أو الاعتقالات قبل حلول شهر رمضان المبارك الذي يبدأ مطلع شهر نيسان/إبريل، محذرين من أن زيادة القيود المفروضة على المصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى وخطط السماح للمستوطنين الإسرائيليين باقتحام المسجد خلال رمضان قد تؤدي إلى أعمال عنف في القدس وخارجها، على غرار أحداث مايو/أيار من العام الماضي.
"كابوس يتكرر بعد 20 عاماً".. الحكومة الإسرائيلية أمام أشد اختبار لها
يقول الكاتب والصحفي الإسرائيلي عاموس هرئيل، إن هذه السلسلة الجديدة من الهجمات كانت تستلزم جهوداً استثنائية وانتباهاً من الحكومة الإسرائيلية والأجهزة الأمنية، سواء داخل الكيان أو في الأراضي الفلسطينية، مضيفاً أنه دون أدنى شك فإن "نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي يواجه اليوم أشد اختبار له منذ توليه المنصب في يونيو/حزيران 2021".
ويرى الكاتب الإسرائيلي في صحيفة هآرتس، أنه حتى يوم وقوع عملية تل أبيب، كان من الممكن الالتزام بالسياسة المتعلقة بتخفيف القيود على تحركات الفلسطينيين قبيل شهر رمضان والسماح لمزيد منهم بالحصول على تصاريح عمل في إسرائيل، نظراً إلى أن منفذي الهجمات كانوا جميعاً من داخل إسرائيل. ولكن في الوقت الحالي، لن يكون أمام الحكومة خيار آخر سوى تغيير هذه السياسة، بحسب هرئيل.
ووقع هجوم الخضيرة في الذكرى العشرين لعملية تفجير فندق بارك، التي نفذها الاستشهادي الفلسطيني عبد الباسط عودة وقتل فيها 30 إسرائيلياً وأصيب نحو 140 في "عيد الفصح اليهودي"، مما دفع الحكومة الإسرائيلية آنذاك بقيادة أرئيل شارون، إلى إطلاق عملية "الدرع الواقي" في الضفة الغربية، والتي انتهت بمحاصرة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله.
بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، تجسد تلك الأيام صدمة لا يودون عودتها اليوم عبر سلسلة من العمليات المشابهة، كما أن الجيل الصغير منهم لا يتذكر تفاصيل تلك الأيام الصعبة، كما يقول الكاتب هرئيل. لكن هناك وجه اختلاف الآن يتمثل في لقطات الفيديو المتاحة على الإنترنت وسرعة انتشارها على مواقع التواصل الاجتماعي وإلى وسائل الإعلام الرئيسية.
حيث أثارت لقطات العمليات الأخيرة وجرأة المنفذين الفلسطينيين فيها، المخاوف داخل المجتمع الإسرائيلي، وزادت الضغط على الحكومة للتصرف بـ"سرعة وحسم". وبكل تأكيد، ترى المعارضة كذلك فرصة لإحراج بينيت ورفاقه في مثل وزير الخارجية يائير لابيد، ووزير الدفاع بيني غانتس.
العمليات الفدائية الفلسطينية أصبحت أكثر دقة وتعقيداً
تقول وسائل الإعلام العبرية، إن هذه الهجمات تبدو "الأسوأ" منذ موجة من عمليات الطعن والدهس بدأت في خريف 2015 واستمرت لحوالي 6 أشهر. وُصفت هذه الموجة في الصحافة بأنها الانتفاضة الثالثة، أو ثورة السكاكين. وانحسرت تلك الهجمات بسبب زيادة التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، والتقنيات التي نشرها جهاز الشاباك والجيش الإسرائيلي واستخدموها لمعرفة هجمات "الذئاب المنفردة" المخططة قبل تنفيذها.
ولعل المسألة الآن تتعلق بأن منفذي العمليات صاروا أكثر حرصاً ودقة في تخطيط عملياتهم وتحركاتهم، وأصبحوا يتركون علامات تحذيرية على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أقل. ولكن حتى في ظل الوضع الراهن، يتضح أن "إعادة المارد إلى القمقم" سوف يتطلب جهداً كبيراً، ولا سيما عندما تنتشر فيديوهات الهجمات على شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية الخاصة بالفلسطينيين، مما سيشجع آخرين على أن يحذوا حذوهم، كما تقول الصحافة الإسرائيلية.
كذلك يبدو الموقف معقداً بسبب وقوع هذه العمليات في مواعيد هامة مثل شهر رمضان، الذي تزداد التوترات فيه بسبب القيود الإسرائيلية، وبسبب الاقتحامات من قبل المستوطنين المتطرفين. وفي عام 2021، كان دخول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى شبه محظور بسبب ما عُرف بعملية "حارس الجدران". وهذا العام، تتزايد الحساسية بسبب تزامن شهر رمضان، وعيد الفصح اليهودي وعيد القيامة.
في الوقت نفسه، تخشى السلطة الفلسطينية كذلك مما سيأتي؛ إذ تقول صحيفة هآرتس، إن القمة المنعقدة بين العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني وبين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في رام الله تعكس مخاوفهما المشتركة: إنهما مهتمان بالهدوء خلال شهر رمضان، ويخشيان من وجود خلافات واحتكاكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مما سيشكل تهديداً على حكمهما.
ويأمل الجيش الإسرائيلي أن يساعد الوجود الكبير للقوات في الضفة الغربية في ردع مزيد من الهجمات خلال رمضان. فجميع الكتائب الإضافية المتمركزة الآن في الضفة الغربية تعمل على منع تصعيد كبير. وفي الأشهر الأخيرة، كان هناك نشاط للتصدي لهذه العمليات في الضفة الغربية، في ظل اعتقال أكثر من 800 شخص عن طريق جهاز الشاباك والجيش الإسرائيلي، وذلك منذ بداية العام. والآن، يُتوقع أن يزيد هذا الرقم أكثر من ذلك بكثير، بحسب الإعلام العبري.