ظلت مصر لآلاف السنوات تمثل سلة غذاء العالم من القمح تفيض على من حولها مثلما تشير إليه قصة نبي الله يوسف وإخوته حينما قدموا إلى مصر للتزود بالميرة والحبوب، وكذلك اعتمدت عليها الإمبراطورية الرومانية في توفير القمح.
ولكن تغير الوضع بشكل متسارع خلال العقود الأخيرة لتشغل مصر المركز الأول عالمياً في استيراد القمح، وهو ما أثقل كاهل الموازنة بالمزيد من متطلبات توفير العملة الأجنبية، وكذلك أصبحت مصر في وضع أكثر هشاشة مع تأثرها بالتطورات في الدول المصدرة للقمح مثلما حدث في ظل الحرب في أوكرانيا مؤخراً، فكيف حدث ذلك؟ وأين المشكلة؟
الأزمة بداية عهد عبد الناصر وتطورها
بحسب نقيب الزراعيين السابق الشهير بـ"أبو القمح" د. عبدالسلام جمعة، فقد حدثت طفرة في الطلب على القمح في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر إثر قراره استخدام القمح في إنتاج الخبز بدلاً من الذرة، وذلك عقب حديث بعض المواطنين معه عن أن الأغنياء يأكلون خبزاً مصنوعاً من القمح بينما بقية المواطنين يأكلون خبزاً مصنوعاً من الذرة، فقرر استخدام القمح في صناعة الخبز لجميع المواطنين، وتزامن ذلك مع توريد الفلاح نحو 3 أردب قمح عن كل فدان للحكومة مقابل ما يحصل عليه من أسمدة، فأصبح الفلاح يدعم الحكومة وليس العكس، ما أدى إلى عزوف الفلاحين عن التوسع في زراعته مقارنة بحجم الطلب المرتفع عليه.
ونظراً لأن نبات القمح يتأثر بدرجات حرارة الجو حيث تتراوح درجة الحرارة المثلى لزراعته من 20 إلى 22 درجة مئوية في حين يُصاب بمرض الصدأ في حال تجاوز درجة الحرارة 34 درجة مئوية، فتجري زراعته في فصل الشتاء فقط، وبالتحديد في شهري أكتوبر ونوفمبر من السنة ثم يبدأ موسم حصاده في شهر أبريل من العام التالي، ولذا لا تمكن زراعته سوى مرة واحدة في العام بخلاف بعض المحاصيل التي يمكن زراعتها في الشتاء والصيف، وهو ما يحجم نسبياً من حجم الأرض المتاحة لزراعته.
وبالرجوع إلى تقارير "المساحة المحصولية والمساحات المنزرعة في مصر" التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء نجد أن مساحة الأرض المخصصة لزراعة القمح في عام 1960 بلغت 1.456 مليون فدان من بين 4.812 مليون فدان تُزرع في الشتاء، مع العلم أن عدد سكان مصر بلغ آنذاك 26.1 مليون نسمة.
وفي تلك الآونة اتصفت أساليب الزراعة بالبدائية، كما جرى تفتيت الملكيات الزراعية عقب صدور قانون الإصلاح الزراعي في عام 1961 والقاضي بوضع حد أقصى للملكية 100 فدان، ما عرقل التوسع في استخدام أساليب الري الأكثر حداثة التي تجدي مع الأراضي الزراعية الواسعة، في حين تتطلب الأراضي المفتتة اتفاقاً بين ملاك الأراضي في نوعية المزروعات، وفي تلك الآونة اقتصرت إنتاجية الفدان الواحد على 7 أردب قمح فقط (الأردب يساوي 150 كغم).
بمرور الوقت تضاعف عدد السكان دون زيادة مماثلة في حجم الأرض المزروعة بالقمح، فنجد أنه في عام 1990 وصل عدد السكان إلى 51 مليون نسمة في حين بلغ حجم المساحة المزروعة بالقمح 1.964 مليون فدان، وبرز عدم التماثل بين نسبة الزيادة في مساحة الأرض المزروعة بالقمح والزيادة السكانية في ظل استراتيجية زراعية تبناها وزير الزراعة يوسف والي الذي ظل في مقعد الوزارة من عام 1982 إلى 2004، وقامت تلك الاستراتيجية على زراعة محاصيل أكثر ربحية من القمح مثل الفراولة والكانتالوب وتصديرها للخارج، واستخدام عائد التصدير في شراء القمح بدلاً من التوسع في زراعته.
وهي استراتيجية تجاهلت التغيرات السياسية في الدول المصدرة للقمح، وجعلت مصر عرضة للتذبذب في سعر القمح. ومع رحيل يوسف والي عن الوزارة بدأ التوسع النسبي في زراعة القمح، فارتفعت مساحة الأرض المخصصة لزراعته من 2.7 مليون فدان في عام 2006-2007 لتصل إلى 3.1 مليون فدان في 2088-2009، لكن وقتها بلغ عدد السكان 75 مليون نسمة.
ومع تردي أوضاع المواطنين الاقتصادية ظهرت مشكلة أخرى تمثلت في زيادة اعتماد المصريين على الخبز في توفير البروتين، حتى تراوح استهلاك المواطن للقمح من 150 إلى 180 كغم، مع العلم أن المتوسط العالمي يتراوح من 70 إلى 80 كغم للفرد بحسب دراسة نشرتها جامعة أكسفورد في عام 2015. ولكن مع صدور قرارات حكومية قلصت تسرب الدقيق المدعم إلى السوق السوداء عبر تخصيص 5 أرغفة من الخبز للمواطن يومياً ضمن الدعم التمويني.
التخلي عن برنامج الاكتفاء الذاتي من القمح بعد الإطاحة بمرسي
عقب ثورة يناير 2011، وتقلد د. محمد مرسي في عام 2012 مقعد الرئاسة تبنى برنامجاً زراعياً ركز على سد العجز في إنتاج القمح، ومن ثم بلغ متوسط الاكتفاء الذاتي من القمح 56,7% في عام 2012/2013، وانخفض حجم الاستيراد من 9800 طن في عام 2011 ليصل إلى 6471 طناً في عام 2012. ولكن مع عزل مرسي والتخلي عن مشروع الاكتفاء الذاتي من القمح عاد حجم الاستيراد مجدداً في عام 2014 ليصل إلى 8105 أطنان قمح، وانخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح لتصل إلى 34.5% في عام 2017.
وفي آخر تقرير نشره الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2021 عن إحصائيات القمح الخاصة بعام 2019 نجد أن من بين 9.3 مليون فدان مخصصة للزراعة فقد زُرع 3.1 مليون فدان قمح حصدت 8.6 مليون طن، لكن ظلت تلك الكمية دون حجم الاستهلاك البالغ حالياً 18 مليون طن سنوياً، وهو ما يعني أن مصر تستورد قرابة 9 ملايين طن سنوياً.
وسنلاحظ عند التدقيق في البيانات الحكومية الرسمية انخفاض حجم محصول القمح مع تراجع حجم الأراضي المخصصة لزراعته خلال الفترة من 2014 إلى 2019.
وفي مواجهة الطلب المتزايد على القمح وتزايد التكلفة المالية المطلوبة، لجأت الحكومة إلى تقليل استيراد القمح الأمريكي ذات الجودة المرتفعة، وبدأت تعتمد على القمح الروسي الأرخص سعراً بنسبة 10% عن نظيره الأمريكي، رغم أن القمح الروسي عادةً ما يكون مصاباً بفطر الإرجوت المُضر صحياً.
ولذ نجد أن القمح الأمريكي الذي تربع على صدارة القمح الذي تستورده مصر خلال حقبة التسعينيات، إذ بلغ حجمه 3201 طن في عام 1998 انخفض لاحقاً إلى 218 طناً فقط في عام 2014، في حين ارتفع استيراد القمح الروسي خلال نفس الفترة من صفر عام 1998 إلى 3009 أطنان في عام 2014، بحسب قاعدة بيانات التجارة الخارجية التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ونفس الأمر مع القمح الأوكراني الذي ارتفع حجم استيراده من صفر في عام 1998 ليصل إلى 2033 طناً في عام 2014، وعندما نصل إلى الوقت الحالي نجد أن مصر أصبحت تشتري 80% من وارداتها للقمح من روسيا وأوكرانيا ما وضعها في صدارة المتأثرين من الحرب في أوكرانيا، وذلك فضلاً عن الارتهان لقرارات موسكو التي تسارع لحظر استيراد الفواكه والخضراوات المصرية عندما تعترض القاهرة على احتواء شحنات القمح الروسي على نسبة أعلى من المسموح بها عالمياً من فطر الأرجوت.
غبن الفلاح
من المفارقات أن الحكومة تشتري القمح من الفلاحين المصريين على أساس سعر يرتبط بمتوسط السعر العالمي، لكنها تتخذ سعر القمح الروسي منخفض الجودة كأساس للتسعير، بينما القمح المصري يتميز بجودته المرتفعة مثل القمح الأمريكي، وبه نسبة بروتين مرتفعة، ويخلو عادة من فطر الأرجوت السام.
وعند النظر إلى موسم الحصاد الحالي نجد أن الحكومة حددت سعراً لشراء القمح من الفلاحين يبلغ 5800 جنيه للطن، في حين أن سعر الطن عالمياً يبلغ 8300 جنيه، وبالتالي سيخسر الفلاح في حال بيع محصوله للحكومة في ظل ارتفاع أسعار الأسمدة وأجور العمال وتكاليف الري، فضلاً عن تضخم الأسعار عموماً، وهو ما يجعل الحد الأدنى للسعر العادل لتوريد أردب القمح للحكومة ينبغي ألا يقل عن 1000 جنيه.
وبالتالي يتوقع أن يلجأ الفلاحون إلى خيارات أخرى مثل استخدام المحصول في الاستهلاك الذاتي وكعلف للحيوانات؛ نظراً لارتفاع أسعار الدقيق والعلف الحيواني، وبيع الفائض بعيداً عن الدولة، وهو ما سيؤدي إلى عجز الحكومة عن جمع الكمية التي تود جمعها من الفلاحين، والمستهدف أن تبلغ 6 ملايين طن بدلاً من 3 ملايين طن في الأعوام السابقة.
ولحل مشكلة توفير القمح المرتبطة بتداعيات الحرب في أوكرانيا أصدرت وزارة التموين مؤخراً قراراً يلزم جميع مزارعي القمح بتوريد ما لا يقل عن 12 أردباً عالي الجودة لكل فدان، مع العلم أن متوسط إنتاجية الفدان تتراوح من 18 إلى 22 أردباً، فضلاً عن منع الفلاحين من بيع الجزء المتبقي من المحصول لمشترين آخرين دون ترخيص من الوزارة، ومعاقبة كل من يخالف ذلك بالسجن فترة تتراوح من سنة إلى خمس سنوات وغرامة تصل إلى 1000 جنيه مع مصادرة القمح المتداول بطريقة غير مشروعة والمعدات المستخدمة في نقله. فيما تعهدت الحكومة بصرف السماد المدعم لموسم الزراعة الصيفي لمن يورد لها 90% على الأقل من محصول القمح الذي يجمعه.
ولكن تبرز مشكلة تتمثل في أن السعة التخزينية للقمح بمصر تبلغ 3.4 مليون طن فقط، ما يطرح تساؤلات حول كيفية تخزين الكمية التي أعلنت الحكومة نيتها شراءها من الفلاحين، والبالغة 6 ملايين طن.
أما الإغراء بتقديم سماد مدعم فلن يجذب الفلاحين لأن دعم السماد يقتصر على ما يعادل 100 جنيه للفدان، وهو مبلغ لا يُذكر عند مقارنته بالفارق بين السعر الحكومي للقمح والسعر العالمي. فضلاً عن أن بعض الأراضي ذات الجودة المنخفضة تنتج 6 أردب للفدان، وهو ما يعني أن أصحابها لن يكونوا قادرين على تلبية قرار الحكومة بإلزامية توريد 12 أردباً. وبالتالي يرجح أن تفشل الحكومة في جمع الكمية المطلوبة، كما سيقلع الفلاحون عن زراعة القمح في الموسم القادم في حال تطبيق العقوبات والغرامات المقررة على عدم توريد الحصة الحكومية المقررة، وهو ما يعني المزيد من انهيار زراعة القمح في مصر.
الحلول المقترحة
يطرح خبراء زراعة القمح عدة حلول من أبرزها:
· زيادة ميزانية البحث العلمي الخاصة بمركز البحوث الزراعية لإنتاج سلالات قمح مرتفعة الإنتاجية ومقاومة للأمراض والتغيرات المناخية وأقل استهلاكاً للمياه، فقد سبق زيادة حجم إنتاج الفدان من 7 أردب في ستينيات القرن الماضي إلى متوسط يتراوح من 18 إلى 22 أردباً في الوقت الحالي عبر استحداث أنواع قمح جديدة.
· إحياء مشروع العالم الزراعي د. أحمد مستجير الخاص باستنبات أنواع قمح في الساحل الشمالي تروى بالمياه المالحة، وهو ما يتعارض مع سياسة الحكومة بتحويل الساحل الشمالي إلى قرى سياحية ومدن سكنية جديدة.
· شراء الحكومة للقمح من الفلاحين بأسعار عادلة مع تحديد السعر قبل موسم الزراعة لتشجيع الفلاحين على زراعة القمح بدلاً من الأسلوب الحالي الذي تعلن فيه الحكومة سعر التوريد قبيل موسم الحصاد، ما يجعل الفلاحين يحجمون عن زراعته عقب السنوات التي ينخفض فيها السعر، حيث يتوقعون سعر العام القادم بناءً على سعر العام الماضي.
· اللجوء إلى زراعة القمح خارج البلاد، وبالأخص في الأراضي الزراعية الخصبة بالسودان بدلاً من البقاء رهينة لتقلبات الأسعار العالمية التي تثقل كاهل الموازنة المالية، وهو نمط لجأت إليه بعض دول الخليج مثل السعودية التي تملك حالياً 4 ملايين فدان خارج أراضيها إثر إطلاقها مبادرة في عام 2009 لتحقيق الأمن الغذائي تعتمد على الاستثمار الزراعي بالخارج وتقديم مساعدات للمستثمرين السعوديين بنسب تصل إلى 60% من تكاليف الإنشاءات ومستلزمات الإنتاج، مقابل تصدير 50% على الأقل من إنتاجهم إلى المملكة.
وفي الختام فإن ملف زراعة القمح يتطلب إرادة سياسية أولاً؛ لأن توفير السلع الاستراتيجية محلياً يرتبط بتوازنات دولية وسياسية، ويحتاج إلى تحديد أولويات الإنفاق الحكومي، والاعتماد على دراسات الجدوى وآراء الخبراء بدلاً من السياسات الاعتباطية التي تدمر القطاع الزراعي في مصر.