مناورات بين البرهان وحميدتي من جهة وبين العسكر والمدنيين من جهة أخرى، والحرب في أوكرانيا تزيد من حدة أزمة الغذاء فالجوع يتهدد الملايين. هذه هي أبرز ملامح انقلاب السودان حتى الآن.
وكان السودانيون والعالم قد استيقظوا، الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، على حملة اعتقالات شملت رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية بالبلاد، ثم ألقى البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
وقرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمّد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
لكن المظاهرات الحاشدة رفضاً للانقلاب لم تتوقف، ونجحت وساطة الأمم المتحدة على مدى الأسابيع التي أعقبت الانقلاب، في إعادة حمدوك إلى منصبه، لكن استقالة حمدوك بسبب رفض الشارع لاتفاقه السياسي مع البرهان، زادت الغموض المحيط بمستقبل السودان السياسي.
ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تحليلاً للأكاديمي والباحث السوداني مجدي الجزولي بعنوان "انقلاب السودان: لعبةٌ سياسية مريرة بدأت تتكشف بينما يضرب الجوع الملايين"، رصد تفاقم الأوضاع في السودان بشكل أسوأ مع اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي.
حميدتي والبرهان
فوسط الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة التي تضرب السودان من كل ناحية؛ جاء الهجوم الروسي على أوكرانيا ليفتح الباب أمام أزمة غذاءٍ جديدة تهدد بتجويع ثلثي سكان البلاد. وأصبح السودان على مشارف أشهرٍ عصيبة تنتظره، بحسب تحليل الجزولي لموقع Middle East Eye.
واستهل الجزولي تحليله بالإشارة إلى تصريحات الجنرال محمد حمدان دقلو، الرجل الثاني في السودان والحاكم الفعلي للبلاد، أمام وسائل الإعلام مؤخراً، حين قال إن سفارات السودان في الخارج لم تتلقَّ أي تمويلٍ منذ 18 شهراً.
وارتدى دقلو، الشهير بحميدتي، بدلةً فاخرة وقرأ خطابه من بيانٍ مُعَد مسبقاً، بحسب الجزولي. حيث أعرب عن سخطه بسبب الوضع الراهن السيئ للبلاد: "الناس متعَبون، والشعب يعاني، ووصل الناس إلى مرحلةٍ ميؤوس منها. نحن عارٌ على العالم، وطلابنا عالقون، بينما توقفت سفاراتنا عن العمل".
وذكر الجزولي أننا "أمضينا نحو خمسة أشهر منذ الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول، الذي اختصر المرحلة الانتقالية في السودان بعد أن أشاد بها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، ذات مرة، باعتبارها شراكةً مدنية-عسكرية فريدة.
ولكن حمدوك وُضِع تحت الإقامة الجبرية في البداية عقب الإطاحة به في الانقلاب، ثم أعيد تنصيبه كرئيس وزراء بموجب صفقةٍ لم تدُم طويلاً مع قادة الجيش، قبل أن يستقيل في يناير/كانون الثاني. ويُعتقد أنه موجودٌ في دبي حالياً"، بحسب المقال.
ويرى الجزولي أن مستقبل السودان أصبح يقع الآن في أيدي مجموعةٍ متنوعة من ضباط الجيش، وقوات الأمن، والثوار السابقين. دون أن يكون هناك هيكلٌ موحد يجمعهم، أو آلية صنع قرار واضحة ومعلنة للوساطة بين تضارب مصالحهم.
وحين غادر حميدتي الخرطوم لزيارة موسكو في الشهر الماضي، أفادت تقارير بأن الرئيس الرسمي للسودان، الجنرال عبد الفتاح البرهان، قد اشتكى للمسؤولين المصريين من مناورات نائبه. كما أعرب عن مخاوفه من أن حميدتي ربما يتآمر للإطاحة به بمساعدة أطرافٍ أجنبية. وذكر الجزولي أنه قبلها بعدة أيام، كان زعيم الميليشيا قد حظي باستقبالٍ دافئ من جانب ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد.
وفي نفس يوم سفر نائبه إلى موسكو، ذهب البرهان في جولةٍ لزيارة معسكرٍ للجيش جنوب الخرطوم، وأكّد من هناك أن الجيش سيسلم السلطة إلى حكومةٍ مُشكّلة، من خلال "توافقٍ وطني" أو انتخابات شفافة فقط، وفقاً للجزولي.
تَولّي دور جديد
ذكر الجزولي في تحليله المنشور على الموقع البريطاني، أن مهمة الوصول إلى توافق مهمةٌ تتضمن فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس). إذ تأسست هذه البعثة في يونيو/حزيران عام 2020، بمهمةٍ خاصة كانت تنطوي في البداية على تقديم الدعم للسودان خلال مرحلة الانتقال السياسي إلى الحكم الديمقراطي، وهذا يشمل ترويج حقوق الإنسان وتعبئة المساعدات الاقتصادية.
وكانت البعثة تعمل وراء الكواليس أغلب الوقت على مدار فترة الحياة القصيرة لـ"نموذج" الشراكة المدنية-العسكرية، رغم أنها ربما تحدثت علناً عن الحاجة إلى تسريع وتيرة الإصلاحات. لكن الجزولي يرى أن انقلاب أكتوبر/تشرين الأول الماضي أفقد "يونيتامس" أسباب وجودها على الأرض فعلياً.
إذ تولَّى بيرتس منذ ذلك الحين دور الوسيط العام، ليصبح سريعاً أحد أعلى الأصوات السياسية في البلاد. وبعد عقد سلسلةٍ من المشاورات حول العملية السياسية في السودان، أصدر بيرتس ورقةً مُلخَّصة، العام الماضي، قال إنها نتاج أكثر من 110 اجتماعات حضرها 800 شخص، إلى جانب أكثر من 80 بياناً كتابياً.
ومن مآخذ الجزولي الفورية على هذه الاجتماعات، أنها كانت ضيقة النطاق في رأيه، بالنظر إلى إجمالي عدد سكان السودان الذي يتجاوز 45 مليون نسمة.
ولا يرى الجزولي عجباً في أن تقريرها يبدو أشبه بقائمة الأمنيات في نهاية المطاف. إذ إن نتائج جلسات التشاور حسبما ورد في النص، ترقى إلى مستوى المطالب الإجرائية، مثل: وقف قتل المتظاهرين، ورفع حالة الطوارئ، وضمان المساءلة على انتهاكات حقوق الإنسان، وتعديل وثيقة دستور 2019 البائدة فعلياً، والتشكيل العاجل لمجلسٍ تشريعي انتقالي وجيشٍ موحد وغير حزبي.
وبناءً على ما سبق، يقترح التقرير أن تتضمن الخطوات التالية: "إعطاء الأولوية للخطوات الحاسمة، الشمولية والملكية الوطنية، حلول شاملة، والتيسير والمرافقة الفعالة". وقد علّق الجزولي قائلاً إنه لا أحد يعلم معنى هذه النقاط الواردة في التقرير على وجه التحديد، لكنها تبدو أشبه بالنتائج السريرية وليس السياسية في وجهة نظره، كأنها مقتبسةٌ للتو عن أحد كتيبات الإدارة.
أشهرٌ عصيبة مُقبلة
يؤمن الجزولي بأن تقرير "يونيتامس" فشل في الاعتراف بالحقائق الوحشية على الأرض. إذ قُتِلَ أكثر من 80 متظاهراً سودانياً منذ الانقلاب، كما أُلقي القبض على العشرات وسط التظاهرات المنتظمة ضد الحكم العسكري.
وفي الوقت ذاته، ذكر الكاتب أنه من المتوقع أن يواجه نحو ثلثي الشعب السوداني (أكثر من 18 مليون شخص) مستويات حادة من الجوع بحلول سبتمبر/أيلول، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي. إذ أشار تقريرٌ صدر مؤخراً عن البرنامج إلى أن سبب هذه التوقعات يرجع إلى الصراع المسلح، والأزمة الاقتصادية، وضعف المحاصيل.
كما أوضح التقرير: "يُعاني 13.6% من الأطفال الأقل من خمس سنوات، من سوء التغذية بجميع أنحاء البلاد في المتوسط. ويصل انتشار حالات سوء التغذية الحاد إلى 30% أو أكثر في بعض المناطق، وهي معدلات كارثية".
بينما أورد تحليل الجزولي أيضاً أن أسعار الغذاء ترتفع في الوقت نفسه، بينما لجأت الحكومة -العاجزة حتى عن تمويل سفاراتها- إلى رفع الضرائب وخفض الدعم على الوقود والكهرباء والخبز. وتهدف ميزانية 2022، بحسب التقارير، إلى زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة 145%، وزيادة إيرادات السلع والخدمات بنسبة 140%.
ويعتقد الجزولي أن ما يفاقم الأمور أكثر هو اعتماد السودان الكبير على القمح الروسي لتغذية شعبه. إذ تلقى السودان مع مصر وإيران، في يناير/كانون الثاني الماضي، نحو ثلثي صادرات القمح الروسية. لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا يهدد بقطع الإمدادات، ورفع أسعار القمح، وزيادة معدلات الجوع في أكواخ الخرطوم، حيث تمثل الدولتان معاً 29% من إجمالي صادرات القمح العالمية.
واختتم الجزولي مقاله واصفاً حميدتي بـ"التاجر" الذي يعتقد أن بإمكانه تحمُّل الأشهر العصيبة المقبلة، عن طريق بيع سواحل السودان بالمزاد لمضيفيه الروس، مقابل أعلى سعر. وربما يبحث بيرتس الآن عن ترقية، بفضل التقرير الذي انتهى العمل فيه.