وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضربةً مفاجئة للدول الغربية التي لا تزال تستخدم كميات كبيرة من الغاز الروسي لتلبية احتياجاتها من الطاقة، بمطالبته بالدفع بالعملة الروسية مقابل الغاز.
وقال الرئيس الروسي إنَّ الإجراء سينطبق على ما مجموعه 48 دولة تعتبر "معادية" وتشمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، كما يقول موقع Deutsche Welle الألماني.
وأضاف بوتين، بحسب نص نُشِر على موقع الكرملين على الإنترنت، الأربعاء 23 مارس/آذار: "أريد التأكيد على أنَّ روسيا ستواصل بالتأكيد تزويد الغاز الطبيعي بما يتماشى مع الأحجام والأسعار وآليات التسعير المنصوص عليها في العقود الحالية".
وقال وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، إنَّ ألمانيا، أكبر مشترٍ للغاز الروسي، قالت إنَّ الإعلان عن مدفوعات الروبل يعد انتهاكاً للعقود، وإنَّ برلين ستتحدث إلى شركائها الأوروبيين بشأن كيفية الرد.
بوتين يختبر الغرب بشأن العقوبات
أمر بوتين حكومته والبنك المركزي في البلاد بتوضيح تفاصيل ومتطلبات مدفوعات الروبل. بالإضافة إلى ذلك، صدرت أوامر لعملاق الطاقة غازبروم بالبدء في العمل على التعديلات المطلوبة للعقود الحالية.
ويفترض ينس سودكوم، الأستاذ في معهد اقتصاديات المنافسة بجامعة دوسلدورف في ألمانيا، أنَّ تحرك بوتين جاء "رداً غير مباشر" على تصريحات المستشار الألماني أولاف شولتز الأخيرة بشأن إمدادات الطاقة الروسية.
وقال سودكوم لموقع Deutsche Welle: "لقد استبعد (المستشار شولتز) لمس شحنات الغاز الروسي؛ لأن ذلك سيكون باهظ الثمن بالنسبة لألمانيا". وأضاف سودكوم، وهو أيضاً عضو في لجنة من العلماء يقدمون المشورة للحكومة الألمانية، إنَّ رد بوتين على الأرجح هو: "هل تريد غازي؟ إذاً أنا من يحدد الشروط".
وحث سودكوم الحكومات الأوروبية على "قول لا لخطة بوتين"، مشدداً على أنَّ استسلام الغرب سيبعث "إشارة بضعفه الشديد".
وتأتي هذه الإجراءات، التي تؤثر فعلياً في جميع الدول التي فرضت عقوبات على موسكو، في الوقت الذي تزداد فيه عزلة روسيا عن التدفقات المالية الدولية. وهذا يجعل احتياطياتها الهائلة بالدولار واليورو عديمة القيمة.
قال كبير الاقتصاديين في بنك ING الألماني، كارستن برزيسكي، إنَّ أية محاولة لتجارة العملات مع الهند أو الصين لن تساعد أيضاً؛ لأنَّ روسيا ببساطة لا تستطيع تقديم أية مدفوعات للدول الغربية في ظل المقاطعة. وقال برزيسكي لموقع Deutsche Welle: "يحتاج بوتين إلى الروبل لتمويل عمليته العسكرية. وبهذا المعنى، فإنَّ (الطلب على الغاز مقابل الروبل) هو خطوة ذكية".
بنك روسيا يعود للعبة
على الرغم من أنَّ تفاصيل الترتيب الجديد لم تتضح بعد، فإنَّ طلب بوتين للمدفوعات بالروبل يجبر الشركات الأوروبية بالأساس على دعم العملة الروسية دعماً مباشراً بعد أن تعرضت للسقوط الحر بفعل العقوبات. وفي وقت سابق من هذا الشهر، اضطر بنك روسيا بالفعل إلى رفع أسعار الفائدة إلى 20% من أجل وقف انخفاض قيمة الروبل.
ستعيد خطة بوتين للغاز مقابل الروبل أيضاً البنك المركزي الروسي إلى النظام المالي العالمي بعد أن عزلته العقوبات عن الأسواق المالية. وقال سودكوم لموقع Deutsche Welle: "سيعيد بوتين تثبيت مكانة البنك المركزي باعتباره فاعلاً رئيسياً في السوق؛ لأنه ضروري لدفع فواتير الغاز بالروبل".
عادةً ما تكون مدفوعات مشتريات الغاز الروسي كبيرة جداً؛ بحيث لا يمكن حالياً تأمين كمية الروبل المطلوبة من أسواق العملات الأجنبية. وسيحتاج المشترون الغربيون على الأرجح إلى اللجوء لبنك روسيا لتسديد مدفوعاتهم؛ مما يقوض من العقوبات المفروضة على البنك المركزي الروسي.
أوروبا في مأزق
أعاد إعلان بوتين المخاوف في أوروبا بشأن استقرار إمدادات الطاقة الروسية. وارتفعت العقود الآجلة للغاز القياسي بنسبة 9.8% يوم الخميس 24 مارس/آذار، بعد أن أُغلِقَت أعلى بنسبة 18% في اليوم السابق.
توفر روسيا نحو 40% من الغاز الأوروبي، وقد أعلنت الحكومات في جميع أنحاء أوروبا عن مساعدات مالية ضخمة لمساعدة مواطنيها في تحمل عبء الارتفاع الحاد في أسعار الوقود والطاقة.
وفي غضون ذلك، حثت رابطة مرافق الكهرباء والمياه الألمانية BDEW، يوم الخميس، 24 مارس/آذار، حكومة برلين على وضع نظام إنذار مبكر في حالة توقف روسيا عن الإمدادات. وفي هذا الصدد، قالت رئيسة BDEW، كيرستين أندري: "هناك مؤشرات ملموسة وخطيرة على أنَّ وضع إمدادات الغاز على وشك التدهور".
وقالت رابطة BDEW إنَّ الجهات المنظمة للطاقة الوطنية تحتاج إلى وضع معايير تستمر من خلالها الصناعة وقطاعات الاقتصاد الأخرى في تلقي الإمدادات، وفي الوقت نفسه حماية المستهلكين المنزليين بموجب اللوائح الحالية.
هل الخطوة قابلة للتطبيق؟
من ناحية ثانية يرى عدد من المحللين الاقتصاديين في أسواق النفط صعوبات جمة أمام تطبيق قرار الرئيس الروسي، خاصة بالنظر إلى العقوبات الموسعة الموقعة على موسكو، بخلاف التزام معظم المستوردين بعقودهم الحالية طويلة الأجل التي لا تستند إلى الدفع بالروبل.
وقال الخبير المتخصص في قطاع النفط والغاز ومؤسس شركة "فيروسي" لإدارة الاستثمارات والاستشارات المالية سيريل ويدرسهوفن، في حديث خاص لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن تصريحات بوتن "لن تفعل على أرض الواقع، إذ سيلتزم معظم مستوردي الغاز الروسي الحاليين بعقودهم الحالية طويلة الأجل، والتي لا تعتمد على الدفع بالروبل أو تنص عليها".
وأضاف ويدرسهوفن أنه "إذا تمسكت موسكو بهذا القرار سيحدث خرق كبير في التعاقدات، مما يعني ضرورة بدء مفاوضات لتوقيع عقود جديدة في الواقع. وبالنظر إلى وجهة النظر الحالية التي تتبناها أوروبا فلن تكون هذه عملية سهلة، حتى لو أخذت في الاعتبار من قبل أي من الدول الأوروبية المستوردة".
وتابع: "في الوقت الحالي، رفض مستوردو الغاز الطبيعي البارزون بالفعل، مثل إيطاليا، صراحة حتى التفكير في هذا الخيار".
وأوضح ويدرسهوفن أنه "بشكل عام الدولار يعد العملة الحقيقية التي يتم استخدامها لتداول السلع بأكثر من 90 بالمئة من المعاملات الدولية، ويحتل اليورو المرتبة الثانية، في حين أن قوة الروبل في الأسواق المالية الدولية تكاد تكون غير موجودة".
وعن تأثير القرار الروسي، كشف ويدرسهوفن أنه "من جانب البلدان المستهلكة لا يمثل ذلك تهديدا في الوقت الحالي، حيث إن الربيع والصيف عادة الموسم الذي لا يوجد فيه طلب محلي حقيقي لشحنات إضافية. ومع ذلك، يمكن ربط تصريحات بوتن بضرورة أن الدول الأوروبية ستحتاج إلى إعادة ملء خزانات الغاز الحالية الخاصة بها لفصل الصيف".
وبالنظر إلى الأطراف التي قد تربح من هذا القرار، قال ويدرسهوفن إنه يمكن الاتجاه للاعتماد على الغاز من مصر أو الجزائر لملء الفراغ الذي سوف يسببه القرار الروسي.
واتفق مع هذا الرأي المحلل الاقتصادي رئيس معهد بنك فنلندا للاقتصاديات الناشئة إيكا كورهونين، إذ يرى صعوبة في تطبيق هذا القرار "حيث إن المستوردين عليهم أن يحلوا قيمة التعاقد بالدولار واليورو إلى روبل روسي، في حين أن الغرب يشدد عقوباته على موسكو حاليا".
ولفت كورهونين في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية" إلى أنه "لتطبيق هذا القرار يجب على المصدرين بالفعل إعادة 80 بالمئة من عائدات صادراتهم، في حين أنه من المفترض أنهم يستبدلون الدولار واليورو بالروبل الروسي في موسكو، وسيحتاج العملاء الآن إلى القيام بذلك".