عاد الدولار الأمريكي مرة أخرى لواجهة الأحداث العالمية مشعلاً حرب العملات، على خلفية الهجوم على أوكرانيا وما تلاه من فرض عقوبات غربية كاسحة على روسيا ورفض الصين تلك العقوبات.
وكان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي يسميه الغرب غزواً وتصفه موسكو بالعملية العسكرية، قد بدأ يوم الخميس 24 فبراير/شباط الماضي، بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك منطقتين انفصاليتين في إقليم دونباس الأوكراني.
وبدأت الدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا، بدأت بالقطاع المالي وبعض الأثرياء الروس، ثم تطورت لتشمل جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والرياضية والثقافية، لتواجه موسكو ما يشبه العزلة، والحديث الآن يدور حول حظر النفط الروسي أوروبياً أيضاً، بعد أن قامت إدارة بايدن بالفعل بحظر واردات النفط والغاز الروسية قبل نحو أسبوعين.
ماذا لو أصبحت الصين الأقوى اقتصادياً؟
وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "كيف تغذي حرب روسيا الجدل العالمي حول العملات؟"، تناول إجابة السؤال في ظل معادلة بسيطة: الاقتصاد الصيني في طريقه ليتفوق على الاقتصاد الأمريكي ليصبح أكبر اقتصاد في العالم، فمن المؤكد إذاً أن عملة الصين ستنافس عملة خصمها في النظام المالي العالمي؟
ويقول روبرت مونديل الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، إن "القوى العظمى تمتلك عملات عظمى"، مضيفاً أن التأثير الدولي والتعامل التجاري الدولي مرتبطان بالضرورة، وفي هذا السياق يأتي دور الدولار المركزي في حسم الهيمنة الأمريكية على المسرح الدولي.
لكن خبراء مطلعين يرفضون هذه الفكرة، موضحين أن العملة إذا ترسخت، فقد يصبح استبدالها غاية في الصعوبة، وهي على الأرجح ستمر بصدمات متكررة بمرور الوقت.
وهذه الصدمات جاءت بالفعل. فحين ضربت أزمة الائتمان، التي نشأت من الرهون العقارية عالية المخاطر الأمريكية، بداية عام 2007، كانت الصين من بين من شككوا في قوة الدولار، حتى إنها اقترحت إنشاء عملة "فائقة السيادة" لاستخدامها في المعاملات الدولية. ومن حينها، أظهر سلوك المستثمرين والمقترضين على مستوى العالم زيادة ثقتهم بالعملة الأمريكية وليس تضاؤلها.
وحين تقترض الشركات دولياً، فغالباً ما تفعل بالدولار. فقد ارتفع حجم القروض بالدولار إلى 13.4 تريليون دولار في سبتمبر/أيلول عام 2021 من 7.6 تريليون دولار في العقد السابق. وبالمقارنة، ارتفع الاقتراض باليورو إلى 3.7 تريليون (4.1 تريليون دولار) من 2.2 تريليون يورو.
ورغم كل تصريحات الصين التي تعرب فيها عن قلقها، يبدو أنها قد استسلمت لاستخدام العملة الأمريكية دولياً، حيث عمدت وزارة المالية في السنوات الأخيرة إلى بيع السندات السيادية بالدولار؛ لمنح الشركات الصينية مرجعاً لتكاليف الاقتراض من الخارج.
هل استسلمت الصين للدولار؟
والبنوك الصينية تمتلك ودائع تقدر قيمتها بأكثر من تريليون دولار، وتمتلك الصين سندات خزانة أمريكية بأكثر من تريليون دولار، ولدى المقترضين الصينيين سندات مستحقة بقيمة 534 مليار دولار تقريباً، وفقاً للبيانات التي جمعتها وكالة Bloomberg.
لكن العقوبات المفروضة على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا قد تأخذ الأمور في اتجاه جديد. فقد نجحت واشنطن في تحييد نحو نصف احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية، المخزون الذي تحتفظ به العديد من البنوك المركزية، خاصة في الأسواق الناشئة، لحماية قيمة عملاتها وقابليتها للتبادل، وهذا حتى بعدما أزال البنك المركزي الروسي جزءاً كبيراً من العملة الخضراء من احتياطاته التي تزيد على 640 مليار دولار.
وقد عزلت الولايات المتحدة روسيا عن طريق منع المعاملات مع بنكها المركزي، والعمل على تقييد وصول المؤسسات المالية الروسية إلى نظام سويفت لتبادل الأموال عالمياً. أضف ذلك إلى مصادرة ممتلكات رجال الأعمال الروس، وستتغير الصورة فجأة في بكين وعواصم الأسواق الناشئة الأخرى.
فكثيراً ما يُنظر إلى الدولار على أنه محاط بهالة من قانون العقود. ورغم استثناء إيران وكوريا الشمالية، كان من المبادئ المقدسة في التعامل مع الدولار حرية تركه والعودة إليه عند الرغبة. وكان هذا من الأمور الأساسية التي جعلته العملة المهيمنة في العالم. لكن روسيا هي الاقتصاد رقم 11 في العالم، وقد تعرضت للعزل.
ستيفن جين، مدير صندوق التحوط وشركة الاستشارات Eurizon SLJ Capital، قال لـ"بلومبيرغ: "نظن أن الصين منزعجة من الإجراءات المتخذة بحق روسيا. فقد أفاقت الصين لتكتشف أن اعتمادها على الدولار يهددها".
وأشار جين إلى أن خلق عملة منافسة أمر صعب. ففضلاً عن احترام سيادة القانون، يتعين على الدولة المُصدِرة لهذه العملة أن تقبل تداول كميات كبيرة من عملتها في الخارج، وأن يكون للمستثمرين الأجانب تأثير كبير على مستوى أسعار الفائدة طويلة الأجل إلى جانب أسعار الصرف.
وفي الواقع، عملت الولايات المتحدة جاهدة للحفاظ على جاذبية الدولار. إذ أجاز بنك الاحتياطي الفيدرالي، العام الماضي، تسهيلاً دائماً يمكّن المؤسسات الرسمية الأجنبية من مبادلة سندات خزانتها بدولارات نقدية، وهي ميزة كبيرة في أي وقت تندلع فيه أزمة كبرى، مثلما حدث في مارس/آذار عام 2020، حين انتشرت جائحة كوفيد-19. وتعمل الهيئات التنظيمية المالية على إصلاحات لتقليل مخاطر عجز المستثمرين عن إجراء الصفقات التي يريدونها في سندات الخزانة.
ويدرك صانعو السياسة في بكين هذه المساوئ تمام الإدراك. فحتى خطوة بسيطة مثل التحول إلى تسعير معظم الصادرات باليوان قد تعني السماح للكيانات الأجنبية بتكديس حيازات كبيرة من اليوان سيتعين استثمارها بعد ذلك. والسماح للمستثمرين الأجانب بترك الأصول المقومة باليوان والرجوع إليها سيعني فقدان درجة كبيرة من السيطرة المالية، وربما تتعرض الصين لخطر هروب رأس المال. وهذه النقطة تحديداً خطيرة بالنظر إلى نقاط الضعف المالية في الصين، مثل تلك المرتبطة بقطاع العقارات.
يقول مايكل سبنسر، كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث، في آسيا والمحيط الهادئ، في "دويتشه بنك إيه جي": "حتى الآن، لم تتوصل الصين لرأي حاسم بشأن التدويل؛ خوفاً من فقدان استقلالية السياسة النقدية التي قد تنجم عن التجارة الخارجية باليوان والاستثمارات الأجنبية الكبيرة في سوق السندات المحلية. ولكن الآن، من المرجح أن يشجع التهديد المحتمل المتمثل في منعها من سداد أو تلقي مدفوعات بالدولار أو اليورو الصين على مضاعفة جهودها لإعادة تقييم المعاملات الدولية باليوان".
وقد أظهر الرئيس شي جين بينغ أنه لا يمانع اتخاذ قرارات سياسية تنطوي على تكاليف اقتصادية، إذ تضرر الإنفاق الاستهلاكي المحلي من نهج الصين القاسي مع الجائحة. لكن تعهدات المسؤولين الصينيين، الأسبوع الماضي، بدعم أسواق رأس المال بعد عمليات بيع ضخمة في الأسهم تشير أيضاً إلى أولوية الاستقرار.
فما توقعات ابتعاد الصين عن الدولار لصالح استخدام أكبر لليوان في الخارج؟
يقول بيكي ليو، رئيس استراتيجية الاقتصاد الكلي للصين في شركة Standard Chartered Plc، إنه من المرجح أن تنتهج الصين استراتيجية ذات شقين: مزيد من التكامل مع أنظمة التسوية القائمة بالدولار واليورو، وفي الوقت نفسه بناء شبكة احتياطية تمكّن الكيانات الصينية من مواصلة إجراء المعاملات بالخارج في حالة حدوث أزمة.
يقول ليو إن أهم ما يجب وضعه في الاعتبار أن "الهدف الأساسي للصين هو القدرة على الاستمرار في النمو والتطور، وانفصالها مالياً عن الولايات المتحدة والعالم يتعارض مع هذا الهدف".
الخلاصة هنا هي أن الدولار ليس فقط عملة تحتل عرش التعاملات التجارية في العالم بلا منازع، بل هو أهم رموز الهيمنة الأمريكية ربما أكثر من القوة العسكرية للقطب الأوحد على الساحة الدولية حالياً، منذ أن بدأت قصة صعوده مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن إسقاطه من على عرش العملات ليس مهمة يسيرة كما قد يتصور البعض.
وتتركز قوة الدولار بالأساس في القدرة على فرض النظام على الأسواق العالمية المضطربة، وهو ما يميز العملة الخضراء عن بقية العملات، فهو أكثر الأصول ثباتاً عندما تحدث هزات مالية أو اضطرابات سياسية.
وكما تؤدي القوة العسكرية الأمريكية دوراً حاسماً في فرض إرادتها بمناطق الصراع، تقوم الخزانة الأمريكية وهيئة الاحتياطي الفيدرالي بأداء دور محوري في استقرار الأسواق المالية من خلال القروض والأساليب المالية الأخرى.