على الرغم من ابتعاد الحرب بين روسيا وأوكرانيا عن المنطقة العربية إلا أن صداها وصل إلينا في ارتفاع للأسعار أو في تراجع للتصدير، ثم أخيراً وصل إلينا في خلاف سياسي بين النخب العربية بسبب مواقف البعض المتباينة في دعم روسيا أو الدفاع عن أوكرانيا!.
ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي تباينت المواقف العربية من الأزمة بعيداً عن شقها الرسمي وفي شقها النخبوي، إذ خرجت بيانات وتظاهرات تدعم الموقف الروسي من الحرب، فيما تفاعل آخرون وعبّروا عن موقف مناهض لبوتين وداعم لأوكرانيا باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة شن عليها "عدو" خارجي عملية عسكرية.
ولفهم أبعاد هذا الموقف والتعرف على مفرداته وسياقاته وتأثيراته نتابع فيما يلي:
أولاً: البيانات المؤيدة للعملية الروسية
مظاهرات وبيانات سورية مؤيدة لبوتين
انتشرت في شوارع دمشق لافتات وصور مؤيدة لروسيا في حربها على أوكرانيا؛ وتنوعت هذه الصور ما بين تلك التي تجمع بين رئيس النظام السوري بشار الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو فقط لبوتين وسط جنوده، وقد أرفقت بها تعليقات من مثل "النصر لروسيا" "نحن ندعم روسيا"، وفي تصرف تقليدي للنظم الاستبدادية نسبت هذه اللافتات لجهات مدنية وكأن النظام لا يعلم عنها شيئاً، وقد كان لافتاً توقيع مثل تلك اللافتات بـ"صانعو دمشق وريفها" وهم أعضاء (غرفة صناعة دمشق وريفها)، ناهيك عن العلاقات الرسمية التي وصلت إلى ترتيبات لتعاون عسكري، مثلما أفادت بعض التقارير الصحفية، حيث رصدت إعلان "الكرملين قبل أيام أنه سيفتح الباب للسوريين للقتال إلى جانب الجيش الروسي الذي بدأ في 24 شباط/فبراير غزو أوكرانيا.
وأُنشئت مراكز تجنيد في سوريا، وفق المرصد السوري وناشطين، بالتعاون بين عسكريين روس وسوريين ومجموعات موالية للنظام في محافظات عدة أبرزها دمشق وريفها وفي حمص (وسط) وصولاً إلى دير الزور (شرق)، وقال مدير المرصد رامي عبد الرحمن لوكالة فرانس برس: "سجل أكثر من 40 ألف سوري أسماءهم للقتال في أوكرانيا حتى الآن" بناء على دعوة موسكو.
كما صرحت المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية السورية الدكتورة بثينة شعبان في حوار خاص مع العديد من وسائل الإعلام السورية أن الحرب في أوكرانيا لها علاقة بتراكمات العلاقة الروسية الغربية والتي تعود لنصف قرن، وأن الغرب لم يلتزم بتعهداته حول توسع الناتو شرقاً ولم يكن لدى روسيا خيار آخر، وأن خسارة روسيا ستكون أكبر بكثير لو لم تتخذ هذه الخطوة، وأن الغرب يستخدم مصطلحات لتشويه صورة روسيا وتحقيق أهدافه.
مثقفون مصريون أيضاً يدخلون على الخط
أصدر عدد من المثقفين والأكاديميين المصريين بياناً لإدانة ما سموه "الحملة الغربية على روسيا" على خلفية العملية العسكرية التي تقوم بها القوات الروسية في أوكرانيا، وللمفارقة فإن البيان يعتبر أن تلك الحملة جزء من الخطوات الأمريكية لتحجيم النمو الروسي والصيني الذي يهدد عرش الولايات المتحدة الأمريكية كقطب عالمي أوحد.
الجدير بالذكر أن البيان اقترحه الدكتور نور ندا نائب رئيس حزب العربي الناصري وأحد خريجي الجامعات الروسية، ووقع عليه أكثر من 80 شخصية مصرية وعربية، يرون أن المطالب الروسية المتعلقة بحماية الجمهوريات "الانفصالية" وإبقائها على الحياد دون الانضمام لتحالفات غربية هي مطالب عادلة، وتبين قائمة الموقعين وجود أساتذة جامعيين وأطباء وصحفيين ومحامين وموظفين وسينمائيين ومهندسين وموظفين على المعاش ومزارعين وتجار وتربويين.
الجدير بالملاحظة أيضاً أن المحامي الشهير والحقوقي المرموق نجاد البرعي قد ورد اسمه ضمن الموقعين على البيان، الأمر الذي اضطره إلى إصدار بيان نفى فيه توقيعه على هذا البيان بشكل قاطع، وأعلن أنه سيقاضي من قام بذلك وحذر من تنامي ظاهرة استغلال أسماء الشخصيات العامة في إلصاقهم ببيانات لم يروها من الأساس.
وفد تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين
أوفدت تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين المصرية وفداً التقى مع سفير روسيا لدى القاهرة والمستشار السياسي للسفارة؛ حيث استمع الوفد لشرح السفير للمواجهة الدائرة مع الجانب الأوكراني متناولاً مسببات وأبعاد الأزمة، كما أعرب الوفد عن تقديرهم للعلاقات المصرية الروسية على المستويات كافة، وأكدوا أن وفد التنسيقية داعم للموقف المصري في التعامل مع هذه الأزمة والذي عبر عنه البيان الذي دعت فيه مصر إلى ضرورة تغليب الحوار مع رفض أية عقوبات أحادية الجانب، وقد كان من بين أعضاء الوفد نواب من مجلسي الشيوخ والنواب.
وتعد هذه التنسيقة بشكل غير رسمي ـ الإطار السياسي أو الحزبي للنظام المصري في الوقت الراهن، ويتم تمثيلها في الانتخابات البرلمانية (الغرفتين) بصورة لافتة، ومن ثم يمكن فهم هذه الزيارة في أنها جاءت للتخفيف من الموقف المصري في الأمم المتحدة الذي أدان الحرب الروسية على أوكرانيا، وتبع ذلك ببيان حاول أن يكون له صدى عند الجانب الروسي ويخفف من وقع ذلك التصرف في محفل أممي، كما حرص وفد التنسيقية على توجيه رسائل رسمية مصرية كما سنوضح ذلك لاحقاً.
البيانات المعارضة للحرب
– مذكرة المعارضة السورية إلى الأمم المتحدة
وضعت المعارضة السورية مذكرة قانونية وسياسية تحت عنوان "إلى موقف موحد" وأكدت أنه سيتم إرسالها إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن ولأكبر عدد من ممثليات الجمعية العمومية والممثل السامي للاتحاد الأوروبي والسيد الأمين العام لجامعة الدول العربية، والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي ولكل الجهات المعنية التي سيتسنى لنا إرسالها إليها، ودعوا إلى التوقيع على البيان الذي وصف الغزو الروسي لأوكرانيا بالسافر، وأن بوتين لا يقيم أي اعتبار للقانون الدولي، وتسقط حججه بشرعية تدخله في سوريا، ويؤكد أنه طرف مباشر في النزاع.
وقد جمع البيان بين القضيتين السورية والأوكرانية وأكد أن تعاطف المعارضة السورية مع الشعب الأوكراني له طعم خاص وفظيع في مرارته، فالأسلحة التي تستخدم في أوكرانيا هي ذاتها التي استخدمها بوتين من قبل ذلك على الشعب السوري بوحشية لا يمكن تصورها، وقد تجاوز عدد الموقعين على البيان 500 شخصية ورمز من رموز المعارضة السورية من بينهم رياض الترك، وهيثم المالح، وأسامة الرفاعي، ورياض حجاب، ورياض سيف، وعبد الباسط سيدا، وجورج صبرا، سمير النشار، وجبر الشوفي، ميشيل سطوف وغيرهم الكثير.
بيان لسياسيين ومثقفين سوريين
وقع عدد من السياسيين والمثقفين السوريين على البيان الذي ينتقد بوتين وأكدوا أن ما يتعرض له الشعب الأوكراني سبق أن تعرض له الشعب السوري، وأشاروا في بيانهم إلى أن المعركة التي تدور الآن في أراضي أوكرانيا ليست مجرد نزاع بين دولتين، بل هي معركة بين الحرية والاستبداد، بين الأمن والفوضى، بين احترام قيم الإنسانية وإهدارها، وأن جميع أحرار العالم ملزمون أخلاقياً بالوقوف ومساندة نضال الشعب الأوكراني من أجل حريته في معركته من أجل استقلال وطنه.
– من سوريا إلى مقتدى الصدر
أصدر مكتب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بياناً أكد فيه أنه يطالب بالسلام في ربوع العالم أجمع وكفى حرباً ودماء، وأشار إلى أوكرانيا باعتبارها (نظرائنا في الخلق) ووصفها بأنها ترزخ تحت السلاح الروسي الفتاك، مؤكداً أن ما يحدث في أوكرانيا من معاناة للشعب والمدنيين يندى له الجبين، ودعا القوات الروسية إلى الحوار ومراجعة قرارها بالحرب.
ثالثاً انتقاد الطرفين
– الحزب الشيوعي العمالي العراقي
أصدر الحزب العراقي بياناً بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، مؤكداً أنها أزمة مفتعلة من قبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أشار إلى أن هذه الحرب ليست لها أية علاقة بالحفاظ على الأمن القومي الروسي، وإنما القضية الأساسية هي أوكرانيا التي تحولت إلى ساحة حرب لاستعراض العضلات الإمبريالية العالمية، ووصف البيان العملية العسكرية الروسية بأنها بلطجة عسكرية بنفس منطق البلطجة الأمريكية وحلفائها الغربيين لفرض الهيمنة بالقوة على المنطقة، وأنها بمثابة حرب لإعادة تقسيم العالم.
مواقف مصلحية تعززها الأيديولوجيا إلا قليلاً
تنطلق مجمل المواقف العربية التي عبرت عنها البيانات المشار إليها عن مصالح كل فريق، وهو أمر منطقي وطبيعي، إلا أن المدقق في بعض هذه البيانات وخلفيات مصدريها يجد أنها تعكس مصالح خاصة، كما في البيان الذي صدر عمن وصفوا أنفسهم بأنهم مثقفون وأكاديميون مصريون وهم في معظمهم ناصريون وشيوعيون؛ فقد صيغ البيان وعين مقترحه والمروجين له ومعظم الموقعين عليه ترنو إلى ما يتوقعه كل منهم من مكافأة ورد للجميل من الجانب الروسي، من دعوات لزيارة روسيا أو منح دراسية للأبناء والأحفاد في الجامعات الروسية أو فرصة عمل في جهات ثقافية أو وسائل إعلام روسية بعد أن تضع الحرب أوزارها أو حتى قبل ذلك.
كما تعبر زيارة وفد تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين- وهي كيان صاغته الأجهزة الأمنية في مصر على عينها من بين أشخاص في سن الشباب لتشكيل نخبة موالية تحتل مواقع قيادية في العديد من مؤسساتها ومن بينها البرلمان- للسفارة الروسية في القاهرة عن سعي دؤوب لتصدر المشهد السياسي وتسجيل المواقف في كل حدث ساخن وتأييد سياسات النظام من الحرب الروسية الأوكرانية، وفيما يشبه الرد غير الرسمي على تصريحات السفير الأوكراني في القاهرة والذي طالبها بموقف إدانة واضح لما قامت به روسيا، وفي تماهٍ تام مع موقف رسمي سبقت به الخارجية المصرية في تحذيرها للقائم بالأعمال الأوكراني في القاهرة مما اعتبرته تصريحات غير لائقة بحسب تقارير صحفية.
من ناحية أخرى لا يخفى على أحد فهم ملابسات موقف المعارضة السورية الرافض للحرب الروسية على أوكرانيا؛ فروسيا شريكة رئيسية في وأد الثورة السورية ومساعدة النظام السوري في عمليات قمعه وإبادته لسوريا والسوريين، ومن ثم فإن هذا الموقف والانشغال الكبير الذي تحظى به هذه الحرب أمر منطقي، إضافة لما أضفته بعض المعالجات الإعلامية الغربية من المقارنة بين اللاجئين السوريين والأوكرانيين من جانب، والموقف السياسي والإعلامي الغربي في التعاطي مع الحرب الروسية على كل من أوكرانيا الآن وسوريا من قبل.
ومن المعروف أن هذه الحرب مثلت فرصة لانتقاد ازدواجية المعايير في المنظومة الغربية مع قضايانا العربية الإسلامية سواء في سوريا أو فلسطين أو غيرهما، كما أن نموذج بوتين يؤكد أن دعم الاستبداد والمستبدين لن يكون في صالح أحد لا اليوم ولا مستقبلاً، سواء من أوقعهم حظهم العاثر تحت سلطته أو من ينظر إليه من بعيد ولا يكترث.