ارتفعت أسعار الطاقة ارتفاعاً لم نشهده منذ عقد كامل، وكان من المنطقي أن ينصبَّ اهتمام وسائل الإعلام العالمية على الأسعار التي يدفعها المستهلكون للحصول على الغاز، لكن قليلة هي وسائل الإعلام الغربية التي سلطت الضوء على أسعار السلع الأخرى، مثل القمح والذرة وزيت عباد الشمس، والتي سجلت جميعها ارتفاعاً غير مسبوق في سعرها منذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا. هذه السلع لا غنى عنها لاستهلاك البشر الغذائي، فهي تشمل الخبز الذي نأكله كل يوم وحتى الطعام الذي تستهلكه الحيوانات مثل الأبقار والدجاج، كما أنها مصادر البروتين لكثير من الناس في جميع أنحاء العالم.
العالم أمام "دورة ارتفاع فائقة لأسعار السلع"
اشتدت معاناة المستهلكين بالفعل في الفترة الماضية، من آثار التعثر في سلاسل التوريد العالمية بفعل جائحة كورونا والتضخم الجامح الذي أعقب ذلك، لكنهم الآن على وشك مواجهة "دورة ارتفاع فائقة لأسعار السلع" ستشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار العناصر الأساسية التي يضعها الناس كل يوم على "طاولة الطعام"، مثل الحبوب والخبز، كما يقول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي. والسبب في ذلك أن البلدين المتورطين في صراع عسكري حالياً، روسيا وأوكرانيا، يُمكن وصفهما بأنهما "سلة خبز" عالمية، فروسيا التي تُفرض عليها عقوبات مختلفة، أكبر مصدّر للقمح في جميع أنحاء العالم، ويكوِّن معروضها نحو 20% من العرض العالمي.
وفي الوقت نفسه، فإن أوكرانيا تحتل المركز السادس بين أكبر مصدري القمح في العالم، إذ تنتج نحو 8% من إمدادات العالم من القمح. وتنعم أوكرانيا بمساحات كبيرة من تربة "شيرنوزيم" chernozem السوداء الخصبة، كما أنها أكبر مصدّر في العالم لزيت عباد الشمس، وهي ضمن أكبر 10 مصدِّرين للذرة وبذور اللفت والشعير. وأبرز وجهات السلع الغذائية لروسيا وأوكرانيا هي أوروبا والشرق الأوسط والصين.
لهذه الأسباب، فإن أسعار السلع تأثرت تأثراً كبيراً بهذا الصراع، وتذهب التوقعات إلى ارتفاع غير مسبوق لأسعار السلع الضرورية للاستهلاك العالمي. وقد سجل مؤشر الأمم المتحدة القياسي لأسعار الغذاء رقماً غير مسبوق في ارتفاعه بنسبة 40% منذ أن بدأ الوباء. وفي غضون ذلك، أغلقت أسعار القمح عند درجات ارتفاع غير مسبوقة في مجلس شيكاغو للتجارة الأسبوع الماضي، وكذلك فول الصويا وعباد الشمس.
ما هي أكثر الدول تضرراً من دورة ارتفاع الأسعار الفائقة؟
أما عن السكان الذين سيعانون وطأة ارتفاع الأسعار أكثر من غيرهم، فهم سكان البلدان الفقيرة مثل باكستان وبنغلاديش ومصر ولبنان والمغرب، فهذه الدول تحصل على أكثر من 40% من إمدادات الذرة والقمح من بلدان منطقة البحر الأسود.
وأشار تقرير للأمم المتحدة إلى أن "هذه الدول تكافح بالفعل لتجاوز أزمات الجوع، ومن ثم فإن زيادة نقص الغذاء وارتفاع الأسعار قد يؤديان إلى تأجيج اضطرابات اجتماعية". أما عواقب ذلك، فيكفي المرء أن ينظر إلى تأثير ارتفاع الأسعار الغذائية في الفترة من 2007 إلى 2010 في تأجيج الانتفاضات العربية.
علاوة على ذلك، فإنه مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، واستمرار الولايات المتحدة وأوروبا في مراكمة العقوبات على روسيا، فإن الأقرب أن يستخدم الكرملين سلاح السلع الغذائية للضغط على خصومه وتذكيرهم بنفوذ موسكو في سوق السلع.
روسيا تتحول نحو الحمائية التجارية
ومع أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم يفرضا عقوبات على صادرات السلع الغذائية الروسية، فإن الغرب أغلق وصول روسيا إلى الخدمات المصرفية والتكنولوجيا اللازمة، ومن ثم يتوقع أن يصبح الكرملين أكثر حمائية وأن يتعسر على القطاع الخاص تصدير سلع، مثل القمح والذرة والأسمدة. وقد أعلنت موسكو بالفعل حظراً على تصدير القمح لجيرانها الفقراء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفرضت حظراً على تصدير البوتاس والفوسفات -المكونات الأساسية في الأسمدة- إلى العالم الخارجي.
قد تشعر الولايات المتحدة وحلفاؤها بالراحة لتدابير "فك ارتباط" روسيا بالاقتصاد العالمي بعد العدوان على أوكرانيا، إلا أن الركود وأزمة الغذاء والاضطرابات الاجتماعية كلها مخاطر آخذة في الارتفاع، وقد شهد العالم فرض هذا النوع من العقوبات على دولٍ مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، لكنها دول صغيرة في ميزان الاقتصاد العالمي.
الغرب لم يحسب حساباً لعواقب غياب روسيا عن سلسلة توريد الغذاء العالمية
يقول موقع Responsible Statecraft، إن العالم يستطيع أن يتجاوز بسرعةٍ تداعيات غياب النفط الإيراني أو الفنزويلي، لكن الأمر يختلف مع روسيا واقتصادها الذي يفوق اقتصاد هاتين الدولتين حجماً وقيمة، وينتج كثيراً من السلع التي نستخدمها في حياتنا اليومية.
ولما كانت أوروبا تفتقر إلى مصادر الطاقة البديلة، فإن العقوبات الغربية تركت حتى الآن شريان حياة للاقتصاد الروسي كما هو، ألا وهو قدرته على تصدير النفط والغاز إلى أوروبا، والسماح بتعامل البنوك الروسية مع المدفوعات الناجمة عن ذلك. ومع ذلك، فلا يبدو أن الغرب حسب حساباً مماثلاً لعواقب غياب روسيا عن سلسلة توريد الغذاء العالمية وتداعيات ذلك.
لم يعتد الأمريكيون والأوروبيون مكابدة الآثار اللاحقة للعقوبات ضد الدول الأخرى، لأنهم يعيشون في أراضٍ بعيدة عنهم وليس لهم تأثير مباشر في معايشهم اليومية. لكن في حين أن العقوبات على إيران وكوريا الشمالية لا تعدو تأثيراتها أن تكون مصدر إزعاج، فإن العقوبات على روسيا وردّ الكرملين عليها سرعان ما ستشعر بتأثيرها الأسر والعائلات في الولايات المتحدة وأوروبا وستبدأ قريباً مناقشاتهم القلقة عن ارتفاع أسعار الذرة والخبز واللحوم.
وخفضت وزارة الزراعة الأمريكية، الأسبوع الماضي، توقعاتها لصادرات القمح الروسي والأوكراني خلال العام التسويقي الحالي، الذي بدأ في يونيو/حزيران، بنسبة 12%. وقالت وزارة الزراعة الأمريكية في تقريرها، إنّ بعض الإمدادات المفقودة سوف يُستعاض عنها بصادرات من أستراليا والهند، التي تزيد حجم شحنات القمح المصدرة إلى الخارج مع تحقيقها فائضاً كبيراً في المحصول.
وتتوقع وزارة الزراعة الأمريكية تزايداً طفيفاً في مساحات الأفدنة المزروعة بالقمح في الولايات المتحدة عن العام الماضي عندما تناقص عدد الأفدنة المزروعة بالقمح إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من قرن. ولكن يُتوقع أيضاً انخفاض إنتاجية المحاصيل، بسبب استمرار الجفاف في السهول الشمالية والغربية.
يقول محللون وتجار إنَّه بينما يمكن للمستهلكين الأمريكيين توقع مزيد من الصدمات عند زيارة متاجر البقالة، فإنَّ فقدان صادرات البحر الأسود يهدد بترك بعض الدول المعتمدة على الواردات غير قادرة على تلبية احتياجاتها من الحبوب.