نقطة التحول التي نقلت ألمانيا من محاولة استرضاء روسيا إلى معاقبتها والتأهب لها عسكرياً

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2022/03/03 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/03 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش
المستشار الألماني أولاف شولتز

احتاج الأمر لهجومٍ على دولةٍ مجاورة ذات سيادة، وتهديدات بحرب نووية، وصور لمدنيين يُواجهون الدبابات الروسية، وسيل من توبيخات الحلفاء حتى تتخلى ألمانيا عن السياسة الخارجية التي تتجنب الخيارات العسكرية، والتي وُلِدَت كرد فعل على جرائم النازية.

إذ يمثل الانقلاب التاريخي الذي حدث في السياسة الألمانية جراء الأزمة الأوكرانية نموذجاً واضحاً  يظهر كيف عملت عدوانية الروسي فلاديمير بوتين على إعادة تشكيل العقلية الأوروبية، حسبما ورد في تقرير لموقع lowyinstitute الأسترالي.

شولتز كان مؤمناً بأن بوتين سيجنح للسلام

في 15 فبراير/شباط 2022، كان المستشار الألماني أولاف شولتز في موسكو لمتابعة الحوار مع الرئيس بوتين. خلص شولتز إلى أن الخيارات الدبلوماسية "لم تستنفد بعد"، بعد أن أخبره بوتين أنه لا يزال منفتحاً على المفاوضات، ورحب بالإعلان الروسي الزائف عن سحب القوات باعتباره "إشارة جيدة". 

وبعد طمأنة بوتين أن عضوية أوكرانيا في الناتو "ببساطة ليست على جدول الأعمال"، أفادت تقارير بأن شولتز أخبر الممثلين الأوروبيين أن روسيا لن تخوض حرباً بشأن هذه القضية.

في تلك المرحلة، كان المستشار الألماني الجديد قد تعرض بالفعل لانتقادات شديدة، في الداخل والخارج ، بسبب إحجامه عن التفكير في اتخاذ إجراءات صارمة ضد موسكو. تعرضت ألمانيا لسخرية شديدة في يناير/كانون الثاني، لأنها لم ترسل أكثر من 5000 خوذة إلى أوكرانيا. 

مع الوقت أصبح خطاب شولتز العلني يبدي استعداداً واضحاً لدعم رد غربي موحد، وقد تأكد ذلك بشكل كبير بحلول وقت زيارته لموسكو. لكن كان لا يزال هناك شعور في النهج الألماني بأن الحوار والتفكير بالتمني هما الوسيلتان الوحيدتان المقبولتان في التعامل مع روسيا. يمكن إرجاع أصول هذا الموقف إلى الوقت الذي كانت فيه ألمانيا نفسها في خط المواجهة بين روسيا والغرب.

بعد أيام قليلة فقط من عودة شولتز إلى برلين من موسكو أدرك الألمان أنهم قد تم التلاعب بهم، حسب تقرير موقع lowyinstitute الأسترالي.

متى بدأ التحول الألماني؟

بدأ التحول يوم الإثنين 21 فبراير/شباط، اليوم الذي اعترف فيه بوتين بمنطقة دونباس الأوكرانية وأعلن عن نشر القوات هناك. ردت ألمانيا في اليوم التالي بتعليق مشروع خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي دافع عنه منذ فترة طويلة الحزب الديمقراطي الاجتماعي بزعامة شولتز. 

ثم حدث الغزو الروسي لأوكرانيا ليؤدي إلى أكبر نقلة في تاريخ البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.

فبعد محادثات مكثفة بين شركاء التحالف في البلاد، أكدت ألمانيا يوم السبت أنها ستدعم فصل البنوك الروسية الرئيسية عن نظام الدفع العالمي SWIFT، وهو عنصر مركزي في نظام العقوبات الغربية.

ألمانيا تقرر بناء قوة عسكرية ضخمة وتُحدث خياراتها النووية

تغيّر سريعاً وجه البلد بمجرد أن قرر المستشار الألماني أولاف شولتز التحرك.

إذ قال في خطابٍ ألقاه خلال جلسةٍ برلمانية خاصة أُقيمت يوم الأحد 27 فبراير/شباط: "يُمثّل يوم الـ24 من فبراير/شباط عام 2022 لحظة تحوّلٍ تاريخية في تاريخ قارتنا" (بداية الغزو الروسي لأوكرانيا).

وأعلن شولتز أن ألمانيا ستزيد إنفاقها العسكري إلى أكثر من 2% من الناتج الاقتصادي للبلاد بواقع 113 مليار دولار ستُنفق فورياً، من أجل الاستثمار في قوات البلاد المسلحة التي تُعَدُّ ضعيفة التجهيز بدرجةٍ مؤسفة. وأضاف أنّ ألمانيا ستُسرّع عملية بناء محطتين لاستقبال الغاز الطبيعي المُسال، وذلك ضمن جهود البلاد لتخفيف اعتمادها على الطاقة الروسية.

كما أعلن عن نيته تعزيز الانتشار العسكري الألماني في أوروبا الشرقية، لتحديث الطائرات المستخدمة في "ترتيبات المشاركة النووية" مع الولايات المتحدة، والعمل مع فرنسا لبناء الجيل التالي من المقاتلات والدبابات، وشراء طائرات بدون طيار عسكرية.

كما أرسلت البحرية الألمانية المزيد من السفن إلى بحر البلطيق لتعزيز الجناح الشمالي لحلف شمال الأطلسي.

رئيس وزراء بولندا يخاطب ضمير ألمانيا لتزويد أوكرانيا بالسلاح

وفي يوم السبت، 26 فبراير/شباط، أسقطت ألمانيا معارضتها لاثنتين من التدابير الأخرى التي كان يسعى إليها الحلفاء في أوروبا والولايات المتحدة: فصل المصارف الروسية عن شبكة سويفت لتحويل الأموال، وإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.

وقد جاءت تلك الخطوات في أعقاب نصيحة رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراوسكي، الذي سافر إلى برلين شخصياً لـ"إيقاظ ضمير برلين" حول كيفية التعامل مع الهجوم الروسي على أوكرانيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.

وحتى ذلك اليوم، انتهجت ألمانيا سياسةً تعتمد على رفض إرسال الأسلحة إلى مناطق النزاع، رغم أنّها تبيع الأسلحة بانتظام لدول الشرق الأوسط. لكن الحكومة أعلنت عقب اجتماع موراوسكي -الذي تضمن الرئيس الليتواني غيتاناس ناوسيدا أيضاً- عن إرسال 1,000 صاروخ محمول على الكتف مضاد للدبابات و500 صاروخ ستينغر أرض-جو إلى أوكرانيا.

كما سحبت اعتراضاتها على السماح بإرسال الأسلحة ألمانية الصنع التي تملكها حكومات هولندا وإستونيا إلى أوكرانيا، مما سهّل عمليات نقل تلك الأسلحة التي ظلت محظورةً لشهور.

هكذا تخلت عن عقود من الشراكة مع الروس

وقد هزّت أحداث الأسبوع الماضي العديد من الدول الأوروبية ذات النزعات السلمية إلى جانب الدول التي كانت أكثر ارتباطاً بروسيا (مثل فنلندا والسويد). وكلتاهما وجدت أنه من المستحيل السكوت على هذا الغزو.

وفي ألمانيا تحديداً، جاء خطاب المستشار ليُتوِّج أسبوعاً شهد تخلّي بلاده عن محاولتها على مدار أكثر من 30 عاماً للموازنة بين تحالفاتها الغربية وبين علاقاتها الاقتصادية القوية مع روسيا؛ حيث استهلوا الأسبوع بقرارٍ صدر يوم الثلاثاء 22 فبراير/شباط لإلغاء مشروع خط أنابيب غاز طبيعي بتكلفة 11 مليار دولار. وقد جاءت خطوات الحكومة الألمانية منذ ذلك الحين مدفوعةً بالذعر من هجوم بوتين على مواطني دولةٍ أوروبية ديمقراطية ذات سيادة، لتُمثّل بذلك تحوّلاً جوهرياً في السياسات الخارجية والدفاعية للبلاد، إلى جانب علاقتها مع روسيا.

حيث قالت دانييلا شوارزر، المديرة التنفيذية لشؤون أوروبا وأوراسيا في مؤسسة Open Society Foundations، عن خطاب شولتز إنّه "قام للتو بتغيير موقع ألمانيا من الناحية الاستراتيجية".

ميركل واصلت التقارب مع روسيا بعد أزمة القرم/رويترز

إذ لطالما فضّلت ألمانيا، وحزب شولتز الديمقراطي الاشتراكي من يسار الوسط تحديداً، التعامل بنهجٍ شامل مع موسكو بحجة خطورة استبعاد روسيا من أوروبا. لكن صور الأوكرانيين وهم يفرون من الهجوم أعادت لأذهان كبار السن من الألمان ذكريات فرارهم من تقدم الجيش الأحمر أثناء الحرب العالمية الثانية. كما أثارت المشاهد غضب الأجيال الشابة التي تربّت على الوعود بأوروبا متحدة ويعمها السلام.

فإحدى مفارقات هذا القرار أنه اتخذه مستشار ينتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحزب الذي قاد على مدى نصف قرن استراتيجية التقارب الألمانية مع روسيا، التي بدأها مستشار الحزب الاشتراكي الديمقراطي ويلي برانت أثناء الحرب الباردة.

وراهن الأوروبيون وخاصة ألمانيا الغربية، خلال الحرب الباردة  وتحديداً منذ الستينيات، على أن الاعتماد المتبادل في مجال الطاقة من شأنه أن يخفف من النزعة العسكرية الروسية، لكن بدلاً من تحقق هذا الحلم، مولت أوروبا إعادة تسليح الكرملين، ومن ثم تم مد خطوط الأنابيب الحاملة للغاز السوفييتي ثم الروسي لألمانيا وبقية أوروبا، وزاد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي حتى بعد أزمة القرم 2014.

واستجابت برلين بحذر في العقود الأخيرة للدعوات الموجهة لها لتقديم مساهمة أقوى للأمن الجماعي. وقد شاركت في بعثات حفظ السلام في البلقان وأفغانستان وزادت نفقاتها الدفاعية قليلاً بعد أن تولى بوتين شبه جزيرة القرم في عام 2014. لكن خطاب شولتز يوم الأحد كان لحظة تغيير بالنسبة لبلد يتمتع فيه النفور من الصراع بجذور تاريخية ونفسية عميقة تعود إلى ما قبل التاريخ.. العصر النازي. 

وقد اختار شولتز مناشدة التزام الألمان بالوحدة الأوروبية والعلاقات الثقافية والاقتصادية العميقة التي تعود لقرون مضت، وحمّل بوتين وحده -وليس الشعب الروسي- المسؤولية الكاملة عن الهجوم الروسي. لكن لم يدع مجالاً للشك في أن ألمانيا لن تقف مكتوفة الأيدي بعد الآن أو تعتمد على دولٍ أخرى لتوفير الغاز الطبيعي أو الأمن العسكري.

وأردفت دانييلا قائلةً: "إنّ الرواية التي استخدمها شولتز اليوم ستظل هي السائدة لفترةٍ طويلة".

حيث إن نبذ ألمانيا الصارم لماضيها النازي المُروّع كان يعني أن عليها أن تتبنّى سياسةً خارجية قائمة على الدبلوماسية والردع لفترةٍ طويلة. لكن الهجوم الروسي دفع بالعديد من حلفاء ألمانيا إلى اتهامها بعدم اتخاذ خطواتٍ كافية لتحصين نفسها وحماية أوروبا.

ويُذكر أنّ ألمانيا تعهّدت في عام 2014 بزيادة إنفاقها العسكري إلى 2% من إجمالي ناتجها الاقتصادي -وهو الهدف المُحّدد لدول الناتو- في غضون عقد، لكن التوقعات أظهرت أن الحكومة لم تتخذ ما يكفي من الخطوات لتحقيق الهدف رغم اقتراب الموعد النهائي.

هل يتم إدراج التوسع بالإنفاق العسكري في دستور البلاد؟

وفي خطابه، اقترح شولتز إضافة اشتراطات الإنفاق العسكري إلى دستور البلاد؛ مما سيضمن على حد قوله ألا تجد ألمانيا نفسها مرةً أخرى بقواتٍ مسلحة تتألّف من جنودٍ بأسلحةٍ معطوبة، وطائرات عاجزة عن التحليق، وسفن لا يمكنها الإبحار. وقد أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أنّ التركيز على الدفاع سيصب في مصلحة ألمانيا أيضاً وليس الناتو فحسب.

وقالت سودها ديفيد-ويلب، زميلة العلاقات العابرة للأطلسي في مؤسسة German Marshall Fund البحثية ببرلين: "تساقطت المحظورات السياسية سواءً المتعلقة بإنفاق الجيش أو العلاقات مع روسيا في غضون أسبوع. وستنفق ألمانيا المزيد من الأموال على نفسها لتقوية قدراتها الدفاعية، كما تتهيّأ لعزل روسيا حتى وإن جاء ذلك على حساب اقتصادها".

كما قال شولتز إنّ ألمانيا ستضمن امتلاكها لاحتياطيات استراتيجية كافية من الفحم والغاز الطبيعي مستقبلاً، كما تفعل مع النفط حالياً؛ فضلاً عن رغبة ألمانيا في تحويل قطاع طاقتها بشكلٍ جذري على المدى البعيد لتخفيف اعتمادها على الوقود الأحفوري، لكن هذه العملية ستستغرق بعض الوقت. وبالتالي سيشعر الألمان بوطأة ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأخرى على المدى القريب.

وقد استمع السفير الأوكراني في برلين إلى خطاب  شولتز يوم الأحد من شرفة الزوار، بعد أن أرسل طلباتٍ متكررة للحصول على الأسلحة الألمانية طيلة شهور دون أن يلقى آذاناً صاغية. كما وقف المشرعون من جميع الأحزاب لتحيته بالتصفيق لمدة دقيقة، حتى نواب الحزب اليميني المتشدد، حزب البديل من أجل ألمانيا.

وأوضحت سودها: "تُدرك الأحزاب السياسية السائدة في ألمانيا أننا في لحظةٍ تُشبه عام 1939، وتبدو مستعدةً لدعم هذه الحكومة الجديدة في التغلب على التحدّي الراهن"

فحتى أكثر الأحزاب الألمانية تمسكاً بالتوجهات السلمية أو تلك الأكثر قلقاً من التوسع في الإنفاق، أيدت خطة شولتز. 

وكما عبرت وزيرة الخارجية الألمانية المنتمية لحزب الخضر الخضراء، أنالينا بربوك: "إذا كان عالمنا مختلفاً، فيجب أن تكون سياستنا أيضاً مختلفة". 

كما وافق الديمقراطيون الأحرار، الذين يتسمون بالحذر مالياً، وهم أصغر عضو في الائتلاف الحاكم، على السماح بمزيد من الديون لتمكين عملية تطوير الدفاع. 

بينما أخذت وزيرة الدفاع الديمقراطية المسيحية السابقة أنجريت كرامب كارينباور تندب على تويتر ما وصفته بالفشل التاريخي لحكومتها في فعل أي شيء من شأنه أن يوقف بوتين في أعقاب العدوان الروسي السابق في جورجيا وشبه جزيرة القرم ودونباس.

تحميل المزيد