إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تشكيل "فيلق دولي" للدفاع عن أوكرانيا في وجه الهجوم الروسي، أثار تساؤلات بشأن تجربة مشابهة لجأت إليها الدول الغربية لاستنزاف الاتحاد السوفييتي خلال غزو أفغانستان قبل أكثر من أربع عقود.
كان زيلينسكي قد قال الأحد 27 فبراير/شباط، إن أوكرانيا ستنشئ فيلقاً "دولياً" أجنبياً للمتطوعين من الخارج، معتبراً أنه "سيكون الدليلَ الرئيسي على دعمكم لبلدنا"، في حديث وجهه إلى مواطني دول العالم الحريصين على "القيم الديمقراطية"، بحسب تعبيره.
جاءت دعوة زيلينسكي في اليوم الرابع لبدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، فيما يصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه "عملية عسكرية هدفها منع عسكرة أوكرانيا"، بينما تصف أوكرانيا والغرب ذلك بأنه عدوان روسي هدفه الغزو الشامل للأراضي الأوكرانية وإسقاط الحكومة، وتنصيب حكومة مطيعة لموسكو.
ولم يكن الهجوم الروسي مفاجئاً لا لأوكرانيا ولا للغرب ولا للعالم، فالأزمة الأوكرانية مشتعلة منذ عام 2014، عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم ودعمت حركات انفصالية في دونيتسك ولوغانسك بإقليم دونباس شرق أوكرانيا، وكان اعتراف موسكو بتلك المناطق مقدمة للعملية العسكرية، التي أصبحت حرباً شاملة بالفعل.
والأزمة الأوكرانية هي بالأساس أزمة جيوسياسية تتعلق برغبة الحكومة الأوكرانية- المدعومة من الغرب- الانضمام لحلف الناتو، بينما تعتبر روسيا ذلك خطاً أحمر، لأنه يمثل تهديداً مباشراً لأمنها، بحسب وجهة النظر الروسية.
رد الفعل على دعوة أوكرانيا للمتطوعين
هذا السياق الذي تدور فيه رحى الهجوم الروسي على أوكرانيا يضفي بعداً تصعيدياً لافتاً على دعوة الرئيس زيلينسكي للمتطوعين الأجانب، إذ إن ذلك يعني، بحسب البعض، أن الجيش الأوكراني لن يتمكن من الصمود أمام القوات الروسية، بينما يعني، بحسب البعض الآخر، أن الحرب في أوكرانيا قد تطول وتتحول إلى حرب عصابات داخل المدن الأوكرانية وضواحيها وهنا يأتي دور هؤلاء المتطوعين الأجانب.
لكن تلك الدعوة التي أطلقها زيلينسكي، المتهم من جانب موسكو بأنه "دمية" في أيدي الغرب، جاءت في وقت تبدو فيه القوات الأوكرانية صامدة بشكل لم يتوقعه الكثيرون، وهذا ما قاله الرئيس الأوكراني نفسه، وتصدر وزارة الدفاع الأوكرانية بيانات عن قتل آلاف من الجنود الروس وأسر المئات وتدمير مئات الطائرات والمدرعات، مما يجعل تلك الدعوة للمتطوعين غريبة وغير إيجابية، بحسب خبراء عسكريين.
ولم يتأخر رد الفعل الغربي المرحب بدعوة زيلينسكي، إذ جاء مباشرة بعد صدورها عن الرئيس الأوكراني من خلال وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس، والتي قالت إنها تدعم الدعوات لتوجه الراغبين في القتال إلى أوكرانيا، بما في ذلك البريطانيون، لمواجهة الهجوم الروسي على كييف.
لكن اللافت هنا أن الحديث عن توجه "متطوعين" للقتال بجانب الأوكرانيين في مواجهة الروس كان قد بدأ قبل أن يطلب زيلينسكي ذلك رسمياً، فقد كشف تقرير بحثي أن الهجوم الروسي على أوكرانيا استنفر قادة ميليشيات أوروبية من اليمين المتطرف، حيث شهد الإنترنت، بمجرد بدء العملية العسكرية الروسية، موجة كبيرة لجمع الأموال وتجنيد المقاتلين العازمين على السفر إلى جبهات القتال في أوكرانيا، وذلك لمواجهة "الغزاة الروس"، بحسب تقرير صادر عن مجموعة "سايت إنتلجنس" SITE Intelligence Group الأمريكية المتخصصة في تعقب الجماعات المتطرفة، ونشرته صحيفة The New York Times .
واستدلت المنظمة البحثية في تقريرها، بمنشورات جمعتها من أوساط هذه الميليشيات وترجمتها، حيث رصدت إعلانات نشرها قادة ميليشيات يمينية في فرنسا وفنلندا وأوكرانيا، يحثون فيها أنصارهم على الانضمام إليهم للقتال دفاعاً عن أوكرانيا، في مواجهة الهجوم الروسي.
وركزت بعض دعوات الحشد اليمينية نشاطها على دعم "كتيبة آزوف"، وهي مجموعة تابعة للحرس الوطني الأوكراني، اجتذبت مقاتلين من اليمين المتطرف من جميع أنحاء العالم، وكانت قد تأسست في أعقاب غزو روسيا وضم إقليم شبه جزيرة القرم عام 2014، وشاركت في عمليات عسكرية ضد الانفصاليين الأوكرانيين المدعومين من روسيا.
هل تصبح أوكرانيا "أفغانستان بوتين"؟
لكن قبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كان الحديث في الدوائر الإعلامية والسياسية الأمريكية يقارن بين أوكرانيا إذا ما أقدمت روسيا على "غزوها" وبين ما حدث للاتحاد السوفييتي عندما أقدم على غزو أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي.
وكان الاتحاد السوفييتي السابق قد غزا أفغانستان عام 1979 واستمر الغزو نحو عقد كامل لم تستقر الأمور خلالها للسوفييت كثيراً وتكبّد الجيش السوفييتي وقتها خسائر فادحة على يد المقاتلين الأفغان بشكل أساسي، إذ تحمل الأفغان العبء الأكبر في مقاومة الغزو السوفييتي.
وخلال تلك الفترة دخلت الولايات المتحدة على خط المواجهات بشكل غير مباشر، ففي تلك الفترة كانت الحرب الباردة بين حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي وحلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة على أشدها. وشنت الولايات المتحدة حملة دعائية ضد الاتحاد السوفييتي "الكافر" في الدول العربية والإسلامية وانطلقت الدعوات "للجهاد" في أفغانستان لدعم المسلمين في مواجهة الغزاة.
وساعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في نقل "المجاهدين" من بلدانهم إلى أفغانستان، كما أمدت المقاومة للغزو السوفييتي بأسلحة نوعية كان أبرزها وأشهرها "صواريخ ستينغر" أمريكية الصنع والتي تسببت في أضرار فادحة للمدرعات وطائرات الهليكوبتر السوفييتية، ولعبت دوراً كبيراً في ترجيح كفة المقاومة الأفغانية على الجيش السوفييتي، رغم الفارق الهائل في الإمكانيات بين الطرفين.
انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان خلال عامي 1988 و1989 كان بمثابة المسمار الأخير في نعش حلف وارسو ومعه المعسكر الشرقي ككل، وبعد أقل من عامين تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً وانتهت حقبة الحرب الباردة لتنطلق حقبة جديدة من النظام العالمي تهيمن عليها الولايات المتحدة بشكل منفرد.
تلك كانت قصة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ويرى كثير من المحللين والمسؤولين السابقين في الولايات المتحدة أن "غزواً روسياً لأوكرانيا سيكون بمثابة نهاية حقبة الرئيس الروسي بوتين" ويتوقعون أن تتحول الأراضي الأوكرانية إلى مستنقع يستنزف الجيش والاقتصاد الروسيين، بحسب تقرير نشره موقع معهد بروكينجز في واشنطن.
ومن هؤلاء السياسيين الأمريكيين المقتنعين بأن ما حدث في أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفييتي يمكن أن يتكرر في أوكرانيا بالنسبة لروسيا بوتين، مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة.
وقبل أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف الناتو يرسلون شحنات أسلحة نوعية إلى أوكرانيا، تضم بالأساس صواريخ جافلين وستينغر المضادة للدروع والطائرات، وكثفت تلك الدول من مساعداتها بصورة لافتة منذ اعترف بوتين باستقلال دونيتسك ولوغانسك، أي قبل بداية الهجوم على أوكرانيا بنحو 5 أيام.
ودفع الهجوم الروسي على أوكرانيا ألمانيا إلى خرق سياستها التقليدية، المتمثلة في رفض تصدير الأسلحة الفتاكة إلى مناطق تشهد نزاعات، وأعلن مستشار البلاد أولاف سولتش، السبت 26 فبراير/شباط عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة، حيث أعلنت برلين أنها سترسل لأوكرانيا ألف صاروخ مضاد للدبابات، و400 قذيفة "آر بي جي"، إضافة إلى 500 صاروخ أرض جو من طراز "سيتنغر" المضاد للطائرات.
وأعلنت هولندا أيضاً عن إرسالها 200 من صواريخ "ستينغر" للجيش الأوكراني، كما أعلن وزير الدفاع السلوفاكي ياروسلاف ناد أن بلاده سترسل ذخائر مدفعية ووقوداً بقيمة إجمالية تبلغ 11 مليون يورو (12.39 مليون دولار) إلى أوكرانيا، موضحاً أن الشحنة تشمل 12 ألف طلقة من عيار 120 مليمتراً، و10 ملايين لتر من وقود الديزل و2.4 مليون لتر من وقود الطائرات. التشيك هي الأخرى أعلنت عن إرسالها أسلحة وذخيرة بقيمة (8.57 مليون دولار) لمساعدة أوكرانيا، وقالت وزارة الدفاع إن الشحنة تشمل أسلحة آلية وبنادق هجومية وأسلحة خفيفة أخرى.
وجهة النظر المضادة في سيناريو أفغانستان بأوكرانيا
وربما تبدو الأحداث على الأرض حتى اليوم الخامس من الهجوم الروسي على أوكرانيا مرشحة بالفعل لأن تتحول الأراضي الأوكرانية إلى مستنقع يواجه فيه الروس حرب شوارع يتحمل العبء الأكبر فيها المتطوعون والمدنيون، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي عنوانه "المقاومة الأوكرانية أساسها المتطوعون"، رصد استعدادات المواطنين وتدفق المتطوعين، خصوصاً من بريطانيا.
لكن هناك كثير من الحقائق المضادة التي تجعل من تكرار السيناريو الأفغاني على الأراضي الأوكرانية أمراً مستبعداً على الأرجح، أهمها اختلاف الطبيعة الجغرافية للبلدين، بين تضاريس أفغانستان الجبلية والوعرة الصعبة للغاية مقابل الطبيعة المنبسطة والزراعية لأوكرانيا. ففي حالة أفغانستان وفرت تلك الطبيعة المليئة بالكهوف والوديان مخابئ للمقاومين الأفغان سهلت عليهم الهرب بعد كل استهداف للقوات السوفييتية.
لكن تضاريس أوكرانيا تغلب عليها الطبيعة الزراعية والأراضي المنبسطة، كما يتركز سكانها البالغ عددهم 44 مليون نسمة في المدن الكبرى والتجمعات السكانية الكثيفة، عكس أفغانستان التي يوجد أكثر من 75% من سكانها في القرى المنتشرة بين الجبال والتلال والطرق الوعرة، وهذا اختلاف هام للغاية يجعل من حرب الشوارع أو العصابات في أوكرانيا مسألة صعبة للغاية من الناحية العملية، بحسب تقرير لمجلة Forbes الأمريكية عنوانه "لماذا قد لا تستطيع أوكرانيا تكرار سيناريو أفغانستان؟".
وهناك أيضاً عنصر هام يتعلق بكيفية إرسال "المتطوعين" إلى أوكرانيا في حالة نجاح الهجوم الروسي في "الغزو الشامل" للبلاد، وأي دولة أوروبية من دول الجوار سوف تلعب الدور الذي لعبته السعودية في فترة الغزو السوفييتي لأفغانستان؟ إذ كان "المتطوعون للجهاد في أفغانستان" يصلون إلى السعودية كنقطة ارتكاز رئيسية ومنها يتم إيصالهم إلى أفغانستان، وكانت العملية برمتها منسقة بشكل كامل بين الأمريكيين والسعوديين، بعيداً عن القنوات الرسمية.
بولندا ورومانيا حالياً هما من تنطبق عليهما مواصفات لعب دور نقطة الارتكاز لنقل المتطوعين إلى أوكرانيا، فكلتاهما مجاور لأوكرانيا وكلتاهما عضو في حلف الناتو وكلتاهما تستضيف قوات أمريكية، وبالتالي في حال تعرض أي منهما لاعتداء روسي ستكون الولايات المتحدة وباقي أعضاء الناتو مجبرين على الدفاع عنها. لكن السؤال هنا هو هل ستكون بولندا أو رومانيا أو أي دولة أخرى على استعداد لتحمل تبعات لعب هذا الدور حتى في حالة تحول الهجوم الروسي إلى "غزو شامل لأوكرانيا" وتحقق سيناريو "المستنقع"؟
هذه الأسئلة الصعبة وغيرها من العوامل المتعلقة ليس فقط بالجغرافيا ولكن أيضاً بتغير الظروف الدولية ونوعية الأسلحة والتطور الهائل في وسائل الاتصال والمراقبة يجعل من احتمال تحول أوكرانيا إلى "أفغانستان بوتين" سيناريو غير مرجح، بحسب كثير من المحللين.