خاركيف ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا يبدوا أنها سقطت في يد الروس؛ حيث أفادت تقارير بأن علم روسيا رُفع على برلمانها المحلي، بينما أوديسا، أعرق مدن البلاد، تبدو في الطريق لمصير مماثل، في مؤشر على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينوي قضم أجزاء من أوكرانيا التي يسميها "روسيا الجديدة".
ويؤكد الكرملين أنه لا يريد احتلال أراضي أوكرانيا، ولكنه سبق أن نفى نيته غزو أوكرانيا، وبالتالي لا يمكن الجزم بأن العمليات العسكرية الروسية تستهدف الضغط على كييف للتفاوض حول موضوع الانضمام للناتو أم أن بوتين يريد إتمام حلم روسيا الجديدة.
وفي مؤشر على أن بوتين يحاول إتمام الهدف الذي لم يستكمل في عام 2014، أفادت قناة الجزيرة بأنه تم رفع العلم الروسي على خاركيف ثاني أكبر المدن الأوكرانية، التي يتحدث نحو نصف سكانها اللغة الروسية وتقع على بُعد نحو 50 كلم من الحدود الروسية.
ففي هجوم خاطف يبدو أنه لم يواجه بمقاومة كبيرة من الجيش الأوكراني، تقدمت قوات الجيش الروسي لمحاصرة خاركيف، وأفادت أنباء بدخول القوات لهذه المدينة، رغم الحديث الأوكراني السابق عن استعداد المدينة لمقاومة الغزو الروسي، وأنه لن يتكرر ما حدث في عام 2014 حينما كانت معقلاً للاحتجاجات الموالية لروسيا.
وكانت القوات الروسية قد شنت هجوماً واسع النطاق على أوكرانيا اليوم الخميس، وسط تحذيرات من قِبَل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدول الأخرى من أن أي محاولة للتدخل ستؤدي إلى "عواقب لم ترَها من قبل".
ثلاث مدن أوكرانية كبرى هدفٌ للغزو الروسي
التركيز الإعلامي على المعارك الدائرة في إقليم دونباس الشرقي؛ حيث يسعى المتمردون بنجاح مبدئي لتوسيع مناطق سيطرتهم التي تمثل 30% فقط من مساحتي إقليمي دونيتسك ولوغانسك لتشمل الإقليمَين برمتهما اللذين اعترفت بهما روسيا كجمهوريتين شعبيتين.
ولكن التطورات التي لا تقل خطورة تقع في ثلاث مدن أوكرانية أخرى، هي خاركيف في الشمال الشرقي وأوديسا (ثاني أكبر مدن سكانياً وتقع بالجنوب الغربي) وخيرسون في الجنوب (قرب شبه جزيرة القرم)، وهي مدن سبق أن حذر مسؤولون غربيون من أن سوف تتعرض لهجوم روسي.
ونشر حرس الحدود الأوكرانيون لقطات لما قالوا إنها مركبات عسكرية روسية تتحرك، وسمع دوي انفجارات كبيرة في العاصمة كييف وخاركيف في الشرق وأوديسا في الغرب. كما ادعى الجيش الروسي أنه قضى على الدفاعات الجوية الأوكرانية بالكامل في غضون ساعات، فرَّ الأوكرانيون من بعض المدن وأعلنت السلطات الأوروبية المجال الجوي الأوكراني منطقة نزاع نشطة.
وأفادت معلومات بتقدم القوات الروسية من شبه جزيرة القرم تجاه مدينة خريسون الميناء الرئيسي المتبقي لأوكرانيا في بحر أزوف المجاور للقرم، ويعتقد أن سيطرة الروس على هذه المدينة قد تؤدي إلى حل مشكلة المياه في شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو عام 2014.
كما دارت معارك على بُعد 5 كيلومترات من مدينة خاركيف، حسبما نقلت وكالة إنترفاكس الأوكرانية، ولكن قناة الجزيرة قالت إن العَلَم الروسي رُفع على البرلمان المحلي، وسط غياب للمعلومات عن الوضع بالمدينة.
أول عاصمة لأوكرانيا السوفييتية.. أهمية استراتيجية كبيرة لمدينة خاركيف
وخاركيف "Kharkiv" المعروفة أيضاً باسم خاركوف هي ثاني أكبر مدينة وبلدية في أوكرانيا من حيث السكان، وتقع في الشمال الشرقي من البلاد على بُعد 25 ميلاً من الحدود مع روسيا، وآخر تعداد سكاني لها 1433886 (تقديرات عام 2021).
وفقاً لإحصاءات 2001 كان 62.8% من سكان المدينة من الأوكرانيين ونحو 32% من الروس، (أوكرانيون من أصل روسي)، ولكن يعتقد أن نحو 48% من سكان المدينة يتحدثون اللغة الروسية بالنظر إلى أن كثيراً من الأوكرانيين يتحدثون الروسية.
إنها مدينة إستراتيجية، عند التقاء ثلاثة أنهار، وكانت ساحة لبعض أكثر المعارك المروعة في الحرب العالمية الثانية بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي.
وتلعب الصناعة دوراً مهماً في اقتصاد خاركيف، وهي متخصصة في المقام الأول في الآلات والإلكترونيات، حيث إن هناك المئات من المنشآت الصناعية في جميع أنحاء المدينة.
وهي معقل للصناعات العسكرية الأوكرانية، بما في ذلك الدبابات والعربات المدرعة، بما في ذلك Morozov Design Bureau وMalyshev Tank Factory (رواد إنتاج الدبابات في العالم من الثلاثينيات إلى الثمانينيات)، وشركة خرترون المتخصصة في صناعات (الفضاء، ومحطات الطاقة النووية، وإلكترونيات الأتمتة)، وشركة Turboatom (متخصصة في صناعة توربينات محطات الطاقة المائية والحرارية والنووية)، وأنتونوف (مصنع الطائرات العملاقة متعدد الأغراض).
وتأسست خاركيف في عام 1654 كحصن خاركيف، وبعد هذه البدايات المتواضعة، نمت لتصبح مركزاً رئيسياً للصناعة والتجارة والثقافة الأوكرانية في الإمبراطورية الروسية. في بداية القرن العشرين، كانت المدينة ذات غالبية روسية من حيث عدد السكان، ولكن بعد سياسة الحكومة السوفييتية المتمثلة في أوكرانيا، أصبحت المدينة مأهولة بشكل رئيسي من قِبَل الأوكرانيين مع عدد كبير من الروس.
وكانت خاركيف أول عاصمة للجمهورية الاشتراكية السوفييتية الأوكرانية، من ديسمبر/كانون الأول 1919 إلى يناير/كانون الثاني 1934، وبعد ذلك انتقلت العاصمة إلى كييف.
أحد معاقل الاحتجاجات الموالية لروسيا عام 2014
أثرت الاضطرابات الموالية لروسيا في أوكرانيا عام 2014 على مدينة خاركيف التي وقعت إثر عزل الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش من قِبَل المعارضة الموالية للغرب.
ولكن هذه الاحتجاجات جرت بدرجة أقل مما كانت عليه في إقليم دونباس المجاور؛ حيث أدت التوترات إلى نزاع مسلح انتهى بانفصال الإقليم.
في ربيع عام 2014، بدأ بوتين يتبنى مفهوم روسيا الجديدة (نوفوروسيا) وهي مناطق في شرق وجنوب أوكرانيا يراها القوميون الروس في روسيا وأوكرانيا مناطق روسية منحها الاتحاد السوفييتي لأوكرانيا، وهي أغلبها مناطق عاشت فيها القبائل التركية القديمة مثل البلغار والخزر ثم خضعت للمغول؛ حيث تواجد بها التتار المسلمون وخضعت لدرجات متفاوتة لسيطرتهم (ولكن خاركيف كانت تخضع في الأغلب لحكم فرسان القوزاق الأوكرانيين).
وقال بوتين آنذاك: "سوف أذكّركم: هذه نوفوروسيا (أي روسيا الجديدة)"، وأشار تحديداً إلى خاركيف، ومناطق أخرى غير الدونباس مثل أوديسا، واعتبر أن هذه المناطق لم تكن جزءاً من أوكرانيا خلال الحقبة القيصرية، بل منحت الحكومة السوفييتية هذه المناطق لأوكرانيا في عشرينيات القرن الماضي، ومؤخراً، جدد بوتين الإشارة لهذه المناطق باعتبارها "روسيا الجديدة".
تجدر الإشارة إلى أنه من الواضح أن الطموح الروسي في 2014، يبدو أنه كان يتخطى المناطق الانفصالية الحالية التي هي جزء من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيتين، ليشمل معظم المناطق ذات الأعداد الكبيرة من الناطقين بالروسية في أوكرانيا، بما فيها خاركيف وأوديسا.
لكن الحركة الانفصالية لم تحقق نتيجة قوية كما توقع صقور موسكو، حيث كان بعض السكان قلقين بالفعل بشأن الحكومة الجديدة في كييف التي عزلت يانوكفيتش، لكن دعم الأغلبية للانضمام إلى روسيا ببساطة لم يكن موجوداً.
ماذا فعلت خاركيف مع المحاولة الانفصالية؟ عمدة المدينة نموذجاً
وظهر هذا في خاركيف، ففي 6 أبريل/نيسان 2014، احتل المتظاهرون المؤيدون لروسيا المبنى وأعلنوا من جانب واحد الاستقلال عن أوكرانيا باسم "جمهورية خاركوف الشعبية".
واجه الانفصاليون معارضة، في خاركيف مثل مدن أخرى، عندما أعلن المتمردون الموالون لروسيا الاستقلال، في محاولة لم تنجح وحتى المعارضة للانفصال كانت موجودة في لوغانسك ودونيتسك اللتين انفصلت مناطق منهما.
وفي 7 أبريل/نيسان 2014، قمعت قوات وزارة الداخلية الأوكرانية التمرد في خاركيف، وأقنعوا رئيس البلدية بتغيير موقفه.
تم قمع الانتفاضة في أقل من يومين بسبب رد الفعل السريع لقوات الأمن الأوكرانية تحت قيادة وزير الداخلية الأوكراني آنذاك أرسين أفاكوف وستيبان بولتوراك القائم بأعمال قائد القوات الداخلية الأوكرانية.
تم إرسال وحدة من القوات الخاصة من فينيتسا إلى المدينة لسحق الانفصاليين. نشأت شكوك حول الأصل المحلي للمتظاهرين بعد أن اقتحموا في البداية أوبرا ومسرح باليه معتقدين أنه مبنى البلدية.
تبرز هنا شخصية لعبت دوراً مهماً في الأحداث، وهو رئيس بلدية المدينة، هينادي كيرنس.
فلقد بدأ بدعم الثورة البرتقالية، لكنه انضم لاحقاً إلى حزب المناطق الموالي لموسكو، حيث كان داعماً قوياً للرئيس السابق فيكتور يانكوفيتش، ثم عاد للوقوف إلى جانب الحكومة الأوكرانية بعد دخول قوات الجيش الأوكراني للمدينة.
فبعد أسبوعين فقط من فرار يانوكوفيتش من أوكرانيا وهروبه إلى روسيا، أعلن كيرنس في مارس/آذار 2014 أنه كان "سجين نظام يانوكوفيتش" وبدأ التعاون مع حكومة الميدان الأوروبي الجديدة. ساعد تغيير رأيه، أو على الأقل توجهه السياسي، في إحباط الجهود التي يدعمها الكرملين لإنشاء جمهورية انفصالية في خاركيف، حسبما ورد في تقرير للمجلس الأطلسي Atlantic Council.
عاد الهدوء النسبي إلى خاركيف بحلول 30 أبريل/نيسان، واستمرت المظاهرات السلمية نسبياً، مع تضاؤل المسيرات "الموالية لروسيا" بشكل تدريجي وتزايد أعداد المظاهرات المؤيدة لأوكرانيا.
في 28 سبتمبر/أيلول 2014، فك النشطاء أكبر نصب تذكاري للينين في أوكرانيا في مسيرة مؤيدة لأوكرانيا في الساحة المركزية.
يمثل كيرنس نموذجاً لتقلبات الرأي العام والقيادات المحلية في خاركيف بين موسكو وكييف، وبأن موقف سكان المدينة وغيرها من المناطق ذات الوجود الروسي الكثيف مرتبط بشكل كبير بمن له الغلبة أكثر منه موقفاً مبدئياً، بالنظر إلى الشعور المرتبك في هذه المناطق، للسكان بين هويتهم الأوكرانية، والمكون الثقافي والعرقي الروسي الذي لا يمكن إنكاره.
وقد يكون رهان بوتين الأساسي هو على هذا التقلب المحتمل وأن قطاعات من السكان، وبالأخص ذوي الأصول الروسية وبصورة الأقل الأوكرانيين المتحدثين بالروسية، قد يؤيدون موسكو إذا حسمت القتال واستولت على مدنهم.
"أوديسا" لؤلؤة البحر الأسود التي خضعت للمسلمين لقرون طويلة
قال مستشار وزير الداخلية الأوكراني، أنطون جيراشينكو، للصحفيين في مجموعة رسمية على تطبيق واتساب، اليوم الخميس، إن القوات الروسية هبطت في مدينة أوديسا أكبر موانئ أوكرانيا على البحر الأسود ، حسبما ورد في تقرير لشبكة "سي إن إن" الأمريكية.
لكن المعلومات بصفة عامة عن الوضع في المدينة أقل وضوحاً، خاصة أنها أبعد عن الحدود الروسية ولا تلاصق شبه جزيرة القرم؛ مما يجعل الغزو الروسي لها أكثر صعوبة ويعتمد بشكل كبير على الإنزال الجوي والبحري.
وأوديسا هي ثالث مدينة من حيث عدد السكان في أوكرانيا ومركز سياحي رئيسي وميناء بحري على البحر الأسود ومركز نقل يقع في الجنوب الغربي من البلاد.
وهي تعد أعرق مدن أوكرانيا؛ حيث كانت مستعمرة إغريقية، وأصبحت مركزاً ثقافياً متعدد الأعراق، بسبب مساعي إمبراطورة روسيا كاثرين لجعلها مدينة بوجه إغريقي في ظل مساعيها لجعل روسيا وريثة للإغريق والإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية.
ويُطلق على أوديسا أحياناً اسم "لؤلؤة البحر الأسود"، "عاصمة الجنوب" (في ظل الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي)، و"عاصمة المرح".
خلال معظم القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كان الروس أكبر مجموعة عرقية في أوديسا، وكان اليهود ثاني أكبر مجموعة عرقية.
وفقاً لتعداد عام 2001، يشكل الأوكرانيون أغلبية (62%) من سكان أوديسا، إلى جانب أقلية روسية عرقية (29%).
وجدت دراسة أجراها المعهد الجمهوري الدولي عام 2015 أن 68% من أوديسا كانوا من أصل أوكراني، و25% من أصل روسي.
على الرغم من الأغلبية الأوكرانية الإثنية في أوديسا، فإن الجزء الأكبر من سكان أوديسا يتحدثون اللغة الروسية في المنزل. ولكن اللغة الأوكرانية تكتسب شعبية، ففي عام 2021، زادت حصة اللغة الأوكرانية كلغة رئيسية يتم التحدث بها في المنزل تقريباً 5 مرات من 6% في عام 2015 إلى 29% في عام 2021.
وأوديسا جزء مما يعرف القوميون المتشددون الروس باسم روسيا الجديدة (المفهوم الذي بدأ بوتين يتبناه).
وخضعت أوديسا لقرون لحكم إمبراطورية القبيلة الذهبية الوريثة للمغول، ثم خانية القرم، وبعد ذلك خضعت لحكم العثمانيين لأقل قليلاً من ثلاثة قرون منذ عام 1529 إلى 1792 حينما استولى عليها الروس بعد أن هزموا العثمانيين في الحرب الروسية العثمانية التي وقعت بين عامَي 1787 و1792م.
ثم بدأت روسيا توطن بهذه المنطقة روساً وأوكرانيين وقوميات أخرى، مثل اليونانيين والألمان والصرب، وكان الوجود الروسي كثيفاً، وتحديداً في جنوب أوكرانيا؛ حيث توجد القرم وأوديسا، لأن موسكو تعاملت معها دوماً كمنطقة استراتيجية؛ لأنها تصل روسيا بالمياه الدافئة.
موقف أوديسا خلال الاحتجاجات
وشهدت أوديسا في عام 014، احتجاجات من قِبَل الموالين لروسيا، بسبب إقالة الرئيس فيكتور يانكوفيتش الحليف لموسكو، حيث كانت المدينة من ضمن المناطق المؤيدة له، وحاول بعض مؤيدي يانكوفيتش تقليد عملية الاستيلاء على السلطة التي نفذتها المعارضة الموالية للغرب في كييف.
وبلغت الاشتباكات بين الانفصاليين وأنصار كييف ذروتها في أوديسا في مواجهة في 2 مايو/أيار 2014، قتل خلالها أكثر من 40 شخصاً، معظمهم من الانفصاليين. ومات كثيرون محترقين في حريق اجتاح مبنى نقابة العمال الذين حاولوا الاستيلاء عليه، واكتسبت هذه الحادثة رمزية كبيرة لدى روسيا والموالين لها، واعتبرت أنها نموذج للربيع الروسي في أوكرانيا مقابل ما يعرف بالميدان الأوروبي في كييف.
ولكن أظهر فشل الانفصاليين في أوديسا عدم وجود دعم محلي قوي للانفصال، الأمر الذي جعل الكرملين يميل للتهدئة والاكتفاء بما سيطر عليه الانفصاليون في إقليم دونباس، وعدم إكمال ما يبدو أنه كان مخططاً يشمل السيطرة على أوديسا وخاركيف.