توقفت الدبلوماسية وانطلقت أصوات المدافع بالفعل، وقال الرئيس الأمريكي بايدن إن نظيره الروسي بوتين "قرر غزو أوكرانيا"، متوقعاً أن يحدث ذلك خلال الأسبوع المقبل، فهل باتت الحرب أمراً واقعاً؟
كان بايدن قد قال الأسبوع الماضي، إن روسيا ستغزو أوكرانيا يوم الأربعاء 16 فبراير/شباط، وهو ما لم يحدث وقابله الروس بالسخرية، وغردت ماريا زاخاروفا،، المتحدثة باسم الخارجية الروسية،، مطالبةًً الأمريكيين بنشر "جدول الغزوات الروسية طوال العام"؛؛ حتى تتمكن زاخاروفا من "تحديد يوم إجازتها".
لكن التطورات على الأرض في شرق أوكرانيا منذ مساء الخميس 17 فبراير/شباط، تشير إلى أن الحرب ربما تكون قد بدأت بالفعل وربما بسيناريو حذّرت منه الإدارة الأمريكية من قبل وتنفيه روسيا.
وبعد أن ظلت أزمة أوكرانيا الملفَ الأبرز على الساحة السياسية الدولية على مدى شهور طويلة، يبدو أن ما توقعته أغلب التحليلات قد أوشك على أن يتحول لواقع مفزع، في ظل فشل الجهود الدبلوماسية المكثفة. إذ كانت مجلة Foreign Policy الأمريكية قد تناولت أسباب فشل جهود الوساطة بشأن أوكرانيا، وخلصت إلى أن الجمهورية السوفييتية السابقة تسدد فاتورة الصراع بين روسيا والغرب.
ومنذ أن بدأت علاقة أوكرانيا مع الغرب ومع حلف شمال الأطلسي (الناتو) تتوسع في السنوات الأخيرة، قرر بوتين أنه لم يعد هناك وقت يضيعه ويحاول الآن إعادة تعريف البنية الأمنية لأوروبا.
صحيح أنَّ أوكرانيا مهمة، لكنها مجرد جزء واحد من عملية التفاوض الحقيقية التي تحاول روسيا دفعها، وهو ما يفسر المطالب الأمنية الشاملة التي قدمتها موسكو إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2021، وهي المطالب التي يرى فريق من المراقبين أن الغرب كان بإمكانه أن يوافق على جزء منها على الأقل، لكن الاعتبارات الداخلية للرئيس الأمريكي وبعض القادة الغربيين الآخرين جعلتهم يفضّلون التصعيد في أوكرانيا.
هل انطلق قطار الحرب في شرق أوكرانيا؟
منذ مساء الخميس 17 فبراير/شباط، اتخذت الأوضاع في الأزمة الأوكرانية منحنىً حاداً سِماته التفجيرات وصفارات الإنذار وإجلاء المدنيين. إذ كدّس الانفصاليون المدعومون من روسيا المدنيين في الحافلات؛ لإجلائهم من المنطقتين المتمردتين في شرق أوكرانيا صباح الجمعة، وهو تحرك مثير للدهشة يعتقد الغرب أن موسكو قد تستخدمه ذريعة لتبرير غزو شامل لأوكرانيا.
وانطلقت صفارات الإنذار في دونيتسك بعد أن أعلنت هي والمنطقة الأخرى لوغانسك عن إجلاء المدنيين إلى روسيا، على أن يتم نقل النساء والأطفال والمسنين أولاً.
وبعد ساعات، انفجرت سيارة جيب روسية من طراز "يو.إيه.زد" أمام مقر حكومة المتمردين في مدينة دونيتسك عاصمة المنطقة التي تحمل الاسم نفسه. وشاهد صحفيون من رويترز السيارة وقد تناثرت حولها الشظايا فيما طارت إحدى عجلاتها جراء الانفجار.
ويُقدر السكان المدنيون الذين يعيشون في المنطقتين اللتين يسيطر عليهما المتمردون بشرق أوكرانيا، بعدة ملايين، معظمهم ناطقون بالروسية وكثير منهم حاصلون بالفعل على الجنسية الروسية.
وفي غضون ساعات من الإعلان المفاجئ، تجمعت الأسر عند نقطة إجلاء في دونيتسك لركوب الحافلات المتجهة إلى روسيا. كانت امرأة تبكي وتحتضن أبناءها في عمر المراهقة. وقالت إيرينا ليسانوفا، البالغة من العمر 22 عاماً، والتي كانت قد عادت لتوّها من رحلة إلى روسيا، إنها تحزم أمتعتها للعودة مع والدتها المتقاعدة. أوضحت: "أمي خائفة.. وأبي يرسلنا بعيداً".
ولم يرحل معهما والدها قسطنطين البالغ من العمر 62 عاماً. وقال لـ"رويترز": "هذا وطني وهذه أرضنا. سأبقى هنا وأطفئ النيران".
جاء الإجلاء بعد أن شهدت منطقة الصراع بشرق أوكرانيا، الجمعة، ما وصفته بعض المصادر بأنه أعنف قصف مدفعي منذ سنوات، وتبادلت الحكومة في كييف والانفصاليون الاتهامات بالمسؤولية.
ونقلت وكالات الأنباء الروسية، في وقت لاحق، عن مراسلين على الأرض قولهم إن انفجارين وقعا في مدينة لوهانسك الرئيسية في جمهورية لوهانسك الشعبية الانفصالية في أوكرانيا، وإن حريقاً شب في جزء من خط أنابيب الغاز بالمنطقة.
وفي وقت سابق اتهم دينيس بوشلين، الزعيم الانفصالي في دونيتسك، أوكرانيا بالاستعداد لمهاجمة المنطقتين قريباً، وهو اتهام وصفته كييف بأنه باطل. ولم يقدم بوشلين أي أدلة تدعم ما قاله.
بوتين يتأكد من جهوزية ترسانته "النووية"
في الوقت الذي تستعرض فيه روسيا قوتها العسكرية على عدة جبهات، من المقرر أن يشرف بوتين شخصياً على مناورات لقوات الصواريخ النووية الاستراتيجية السبت، كما تجري قواتٌ قوامها عشرات الألوف مناورات في روسيا البيضاء شمالي أوكرانيا، ومن المقرر أن تنتهي المناورات الأحد 20 فبراير/شباط.
واجتمع ألكسندر لوكاشينكو، رئيس روسيا البيضاء المدعوم من موسكو، مع بوتين الجمعة، مما يعطي إشارة مقدماً على احتمال بقاء الجنود، ونقلت وكالة أنباء بلتا الحكومية في روسيا البيضاء عنه قوله أن "القوات المسلحة ستبقى طالما دعت الحاجة لذلك".
كما أصدر بوتين أوامر لوزير الطوارئ في منطقة روستوف قرب الحدود الأوكرانية بالبدء في توفير المأوى لمن يتم إجلاؤهم من المنطقتين الانفصاليتين بأوكرانيا. وقالت شركة الصور الأمريكية "ماكسار"، الجمعة، إن صور الأقمار الصناعية تُظهر نشاطاً عسكرياً في مواقع متعددة عبر روسيا البيضاء وشبه جزيرة القرم وغرب روسيا بالقرب من الحدود الأوكرانية.
وقالت "ماكسار" إن الصور تُظهر انتشاراً ضخماً جديداً لطائرات هليكوبتر في شمال غربي روسيا البيضاء ونشر مجموعة قتالية للدبابات وناقلات جنود ومعدات دعم في مطار ميليروفو الواقع على بُعد 16 ميلاً من الحدود الأوكرانية.
مسؤول دفاعي أمريكي قال لـ"رويترز"، الجمعة، إن ما بين 40 و50% من القوات الروسية الموجودة قرب الحدود مع أوكرانيا اتخذت "مواقع هجومية". وأضاف المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، أنه يوجد ما يقرب من 150 ألف جندي روسي على الحدود، من بينهم نحو 125 كتيبة تكتيكية.
وقال إن نسبة القوات الموجودة في مواقع هجومية أعلى مما كان معروفاً من قبل وتشير إلى أن تلك الوحدات الروسية يمكن أن تهاجم أوكرانيا دون سابق إنذار.
هذه المعطيات وغيرها كثير في صورة سيل من الأخبار العسكرية والتحركات في شرق أوكرانيا، توحي بأن إرهاصات الحرب قد بدأت بالفعل، خصوصاً أن كثيراً من المحللين كانوا قد رصدوا أحداثاً متزامنة تقع الأحد 20 فبراير/شباط، أبرزها نهاية التدريبات العسكرية في بيلاروسيا واختتام أولمبياد بكين الشتوي، إضافة إلى الذكرى السنوية لاحتلال شبه جزيرة القرم الأوكرانية وضمّها من جانب روسيا.
بايدن يؤكد أن بوتين قرر "الغزو"
لكن ما أضاف بُعداً آخر إلى تلك المعطيات هو قول الرئيس الأمريكي بايدن، الجمعة، إن بوتين قد قرر غزو أوكرانيا "خلال أيام"، وقال بايدن للصحفيين في البيت الأبيض: "لدينا ما يدعونا إلى اعتقاد أن القوات الروسية تخطط وتنوي مهاجمة أوكرانيا في الأسبوع المقبل، في الأيام المقبلة". وأضاف: "إنني مقتنع في هذه اللحظة بأنه اتخذ هذا القرار".
بايدن أشار إلى أن القوات المدعومة من روسيا (الانفصاليين شرقي أوكرانيا) قامت بخروقات جسيمة لوقف إطلاق النار في الأيام الأخيرة، ولفت إلى أن تلك القوات تعمد إلى إلقاء اللوم على أوكرانيا في ما يتعلق بالهجمات في دونباس، مكرراً الاتهامات لروسيا بأنها تمارس حملة تضليل كبيرة، لاختلاق الذرائع لمهاجمة أوكرانيا.
"لدينا أسبابنا التي تدفعنا إلى اعتقاد أن روسيا ستهاجم أوكرانيا خلال الأيام المقبلة. كما نعتقد أنه سيتم استهداف العاصمة الأوكرانية كييف أيضاً، التي يعيش فيها 2.8 مليون شخص بريء".
ورداً على سؤال عما إذا كان يعتقد أن بوتين قد اتخذ قراراً بغزو روسيا؟ أجاب بايدن قائلاً: "نعم، في الوقت الحالي أعتقد أن بوتين اتخذ قراراً بذلك".
وفي ساعة متأخرة من مساء الجمعة، قالت المخابرات العسكرية الأوكرانية إن القوات الخاصة الروسية زرعت متفجرات بمنشآت البنية التحتية الاجتماعية في دونيتسك وحثت السكان على البقاء في منازلهم.
ورداً على سؤال حول الإجلاء، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، إنه "مثال جيد" لما تخشاه واشنطن. وقالت للصحفيين: "توقعنا… منذ فترة طويلة أن يشارك الروس في ذرائع أو خطوات من شأنها أن تضع أساساً لأي حرب أو لإثارة الارتباك أو نشر معلومات مضللة على الأرض".
ساكي تتحدث عن أحد السيناريوهات المحتملة للتحرك الروسي العسكري ضد أوكرانيا، وهو السيناريو الذي تسميه أجهزة الاستخبارات الأمريكية "حروب العلم الزائفة"، والمقصود بها قيام قوات روسية خاصة بفبركة هجوم على مواطنين روس في أوكرانيا وتصوير الهجوم وبثه في وسائل الإعلام ومن ثم اتخاذه ذريعة لغزو أوكرانيا دفاعاً عن "مواطنين روس".
لكن وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، قالت إنها لا تعتقد أن قيام روسيا بغزو كامل لأوكرانيا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً، ولكنها أوضحت أن روسيا قد تدبر انقلاباً هناك. وقالت أمام مؤتمر ميونيخ للأمن: "سيناريو الغزو الكامل ربما يكون ممكناً، لكنني لست متأكدة من أنه السيناريو الأكثر ترجيحاً".
وأضافت: "ما يثير مخاوفي أكثر هو أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو (عملية) مستترة أو انقلاب" أو أشياء من قبيل هجوم إلكتروني أو هجوم على البنية التحتية لأوكرانيا. كما قالت كييف أيضاً إن حدوث غزو كامل أمر غير مرجح.
الخلاصة هنا هي أن أغلب المؤشرات تقول إن الحرب في أوكرانيا أصبحت أمراً واقعاً، وقد تكون أوروبا والعالم على مقربة من أخطر مواجهة عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن طبيعة تلك الحرب وما إذا كانت مشاركة روسيا فيها ستكون "من خلف الستار" وتنحصر المواجهات في أقاليم شرق أوكرانيا، أم ستكون غزواً روسيّاً شاملاً، تظل عرضة للتكهنات.
لكن تظل نافذة الحلول الدبلوماسية مفتوحة، وإن كانت ضيقة للغاية، فالرئيس الأمريكي نفسه ترك باب الدبلوماسية مفتوحاً أمام موسكو، قائلاً: أود أن أكرر مرة أخرى: إنه لا يزال بإمكان روسيا اختيار الدبلوماسية، فلم يفُت الأوان بعد". أما بوتين فلا أحد يمكنه الجزم بما يدور في رأسه، خصوصاً أنه قد يحقق ولو جزءاً مما يريده دون شن الحرب. كما أن هناك اجتماعات ماراثونية مقررة، السبت والأحد والإثنين، وتهدف إلى تهدئة الأوضاع قبل أن تنفجر تماماً.