رغم التوتر المتزايد في العلاقات الثنائية بين تركيا واليونان، وخصوصاً حول الجزر الموجودة في بحر إيجة، حيث يتجلى نزاع السيطرة على المجال البحري والجوي بين الطرفين، فإنه خلال السنوات الأخيرة لم يتضرر حجم التبادل التجاري بينهما، بل إنه في ارتفاع مستمر. فكيف نجت العلاقات التجارية بين أنقرة وأثينا من أزماتهما السياسية؟
كيف ينمو التبادل التجاري بين تركيا واليونان رغم التوترات، وما حجمه؟
زاد حجم التبادل التجاري بين تركيا واليونان بشكل كبير خلال 2021 مقارنة بالعام السابق له، ما وفر فوائد كبيرة لكلا الجانبين. فيما تساهم التطورات التي يشهدها قطاع التجارة الثنائية في تهدئة التوترات السياسية بين البلدين.
وقبل زيارته الرسمية لليونان في مايو/أيار 2021، قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إن زيارته إلى أثينا تهدف إلى توفير أجواء إيجابية بين البلدين.
وخلال اجتماع عقده تشاووش أوغلو مع نظيره اليوناني نيكوس ديندياس، تم الاتفاق على قائمة من 25 بنداً لزيادة التعاون الاقتصادي بين البلدين.
وساهمت البنود المذكورة في تعزيز الأجواء الإيجابية بين البلدين، وتوطيد أواصر التعاون الذي بدأت نتائجه الإيجابية تبرز في قطاع التجارة الثنائية خلال 2021.
واكتسبت العلاقات التجارية بين تركيا واليونان، زخماً ملحوظاً خلال 2021، لا سيما أنها جاءت بعد تخفيف القيود المفروضة عالمياً لمنع تفشي وباء كورونا.
وبحسب تقرير لوكالة الأناضول، ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا واليونان 69.2% العام الماضي (2021)، مقارنة بـ 2020، وبلغ 5.2 مليار دولار، فيما زادت صادرات تركيا إلى اليونان 73.3% العام الماضي، ما أدى إلى نشوء فائض تجاري لدى تركيا بما يقارب مليار دولار.
فائض تجاري مرتفع لدى تركيا مع اليونان وهذه النسب السياحية
تشير بيانات غرفتي التجارة التركية واليونانية إلى أن واردات أثينا من أنقرة زادت 46% في 2021، إلى 2.3 مليار يورو (2.62 مليار دولار). وبهذه الزيادة، صعدت تركيا إلى المرتبة الثامنة ضمن قائمة الدول المصدرة إلى اليونان.
ورغم أن الميزان التجاري للبلدين سجل عجزاً خلال جائحة كورونا، حققت اليونان استفادة ملحوظة أيضاً من زيادة حجم التبادل التجاري مع تركيا.
ووصلت قيمة الصادرات اليونانية إلى تركيا 1.8 مليار يورو (2.05 مليار دولار) في 2021، بزيادة قدرها 39%.
وتسببت جائحة كورونا بتراجع حركة السياحة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي تعطيل الأنشطة السياحية في تركيا واليونان وبينهما. وفي إطار قيود التنقل المفروضة للحد من انتشار كورونا، لا تزال حركة العبارات البحرية بين الجزر اليونانية وتركيا متوقفة منذ عامين.
وبسبب الإجراءات المتخذة للحد من الوباء، تم فرض قيود على حركة النقل الجوي والبري بين البلدين، خاصة خلال العام الأول للجائحة.
بحسب بيانات وزارة السياحة اليونانية، فإن عدد الزائرين منها إلى تركيا خلال 2018 بلغ 686 ألفاً و891 شخصاً. وبينما ارتفع هذا الرقم إلى 836 ألفاً و882 في 2019، انخفض إلى 136 ألفاً و305 في 2020 بسبب التأثيرات السلبية للوباء.
وتقول بيانات الجمعية اليونانية للمؤسسات السياحية، إن عدد الزوار من تركيا بلغ 930 ألفاً خلال 2018، وارتفع إلى مليون و93 ألفاً في 2019، فيما انخفض عام 2020 إلى 232 ألف زائر.
أهم الملفات الخلافية بين تركيا واليونان
1- الخلاف في بحر إيجة
تعتبر الجزر الموجودة في بحر إيجة أبرز الملفات الخلافية حساسية في العلاقة بين تركيا واليونان، حيث يتجلى نزاع السيطرة على المجال البحري والجوي في بحر إيجة.
وبسبب عدم التفاهم، تتكرر المناوشات والمضايقات بين القوات الجوية والبحرية للجانبين، تطورت في بعض الأحيان إلى اشتباك عسكري، وسط تحذيرات دولية من إمكان أن تؤدي إحدى هذه المناوشات إلى اشتباك عسكري أوسع بين البلدين، خصوصاً أن حدة التوتر في تصاعد منذ مطلع التسعينيات، وسط سباق تسلح بين البلدين.
في عام 1995، أعلنت تركيا أن توسيع اليونان مجالها البحري والجوي سيعتبر سبباً للحرب، لا سيما أن المطالب اليونانية لم تقتصر على المجال البحري، بل تعدته إلى المجال الجوي أيضاً، وذلك حين أعلنت اليونان مد مجالها في بحر إيجة من 6 إلى 10 أميال.
2- الخلاف حول جزيرة قبرص
دخل العثمانيون جزيرة قبرص عام 1571، بعد جلاء البنادقة الإيطاليين عنها، وحل محلهم السكان الأتراك. ومنذ ذلك التاريخ، ظلت قبرص تابعةً للدولة العثمانية طوال ثلاثة قرون.
شهدت الجزيرة، الواقعة في أقصى شرق البحر المتوسط، فترات من الاستقرار والازدهار، وفترات أخرى من الاضطراب السياسي والاجتماعي. وفي 1878 تنازلت الدولة العثمانية عن قبرص لصالح بريطانيا، بموجب معاهدة سرية تعهدت فيها بريطانيا بأن تساعد تركيا في دفع الخطر الروسي عنها. لكن بريطانيا ألغت هذه المعاهدة خلال الحرب العالمية الأولى، وأعلنت في 1925 أن قبرص "مستعمرة ملكية".
ظلت قبرص تحت الوصاية البريطانية حتى نالت استقلالها عام 1960، بعدما اتفقت الدول الثلاث: بريطانيا، وتركيا، واليونان، على طريقة الحكم في الجزيرة.
وتم الاتفاق على أن يكون هناك التزام في الدستور القبرصي بمشاركة الأقلية التركية في الحكم. لكن الغالبية اليونانية التي تشكل نحو ثلثي سكان الجزيرة، لم تنفذ ما عليها من التزامات، فنشب خلاف بين الطرفين تطور حتى أصبح يعرف بـ "المشكلة القبرصية".
في عام 1974 تحرك الحرس الوطني القبرصي، المكون من ضباط موالين للحكم العسكري في اليونان واحتلوا القصر الجمهوري، وحاولوا قتل الرئيس مكاريوس الثالث. لكنه، بعدما نجا وحضر الجمعية العامة للأمم المتحدة في واشنطن، أعلن أن بلاده محتلة من جانب اليونانيين.
على الفور، تحرك الجيش التركي لحماية الأقلية التركية الموجودة في الجزيرة، وإعادة الوضع السياسي لقبرص إلى طبيعته. ومن ثم أعلنت تركيا الجزء الشمالي من الجزيرة فيدرالية تركية في عام 1983.
أدى قبول قبرص الجنوبية عضواً في الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من التعقيد للأزمة، وبات الأمر يشكل عائقاً أمام تركيا في حدودها البحرية. وربما كان ذلك هو المقصود أساساً من قبول عضوية بلد يعاني من أزمة على مستوى دولي، وهو ما يتعارض مع قوانين الاتحاد الأوروبي ذاته.
وبينما تؤكد تركيا ضرورة التفاوض على أساس حل الدولتين في قبرص، بعد فشل مفاوضات الحل الفيدرالي، طوال نصف قرن، تصر اليونان على فرض الحل الفيدرالي في الجزيرة. ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد الجزيرة التي جرت برعاية الأمم المتحدة في سويسرا في يوليو/تموز 2017، لم تُجرَ أي مفاوضات رسمية بوساطة أممية لتسوية النزاع في قبرص.
3- الخلاف حول الجرف القاري
تعتمد اليونان على الجرف القاري في رسم الحدود مع تركيا، ضمن الجزر والمناطق المتنازع عليها في بحر إيجة. ويُعرف الجرف القاري بأنه الامتداد الطبيعي لليابسة داخل البحار والمحيطات. وهو بالنسبة لأية دولة ساحلية، قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد ما وراء البحر الإقليمي. وللدولة الساحلية حقوق سيادية على جرفها القاري.
وبحسب قانون البحار الدولي الأول، الصادر في جنيف عام 1958، وقانون البحار الدولي الثاني في 1960، فإن منطقة شرق المتوسط هي منطقة اقتصادية خالصة لمصر وتركيا. إلا أنه بعد قانون البحار الدولي الثالث في 1982، أعلنت اليونان جرفاً قارياً لها بعمق 12 ميلاً بحرياً، الأمر الذي أثار حفيظة تركيا.
وتعمل اليونان، في السنوات الأخيرة، على محاولة توسيع جرفها القاري، على الرغم من أن الجزر التي تسيطر عليها أكثر قرباً إلى تركيا منها إلى اليونان.
وتبذل اليونان جهوداً استثنائية لحبس تركيا في حدود اليابسة، والحيلولة دون استفادتها من شواطئها ومياهها الإقليمية، وخصوصاً في شرق المتوسط، متسلحة بالدعم الأوروبي، والفرنسي منه على وجه الخصوص. في مقابل ذلك، تبدو تركيا أكثر تصميماً من أي وقت مضى على عدم التفريط بحقوقها البحرية في ما باتت تسمّيه "الوطن الأزرق".
4- الأقلية التركية في اليونان
بموجب اتفاقية التبادل السكاني الموقعة بين اليونان وتركيا في 30 يناير/كانون الثاني 1923، جرى استثناء المسلمين الأتراك الذين يسكنون ما بين نهر مريج (إيفروس) الذي يفصل بين حدود البلدين، حتى مدينة "قوله" ونهر "قره صو" في اليونان من التبادل، ليكتسبوا صفة "أقلية" بموجب اتفاقية لوزان (1923).
ويبلغ عدد أبناء الأقلية التركية في منطقة تراقيا الغربية في اليونان نحو 150 ألف نسمة، ترفض السلطات اليونانية منحهم صفة أقلية تركية، وتقتصر على الاعتراف بهم كأقلية مسلمة فقط. وهم يعانون من مشكلات اجتماعية وحقوقية ودينية، إذ لا يُسمح لهم بانتخاب أئمتهم وممثليهم، ما يحرمهم من حقوقهم المنصوص عليها في معاهدة لوزان. في مقابل ذلك، تتمتع أقلية الروم الأرثوذكس بكامل الحريات كأقلية رومية معترف بها في تركيا.