"واحدة من أروع مقابر العالم".. هكذا وصفت صحيفة The Times البريطانية، مقابر القاهرة الشهيرة المعروفة باسم "القرافة"، والتي توصف بأنها مدينة موتى ولكنها مسكونة في الوقت ذاته، وهي تحوي قبوراً لشخصيات مهمة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ولكنها الآن مهددة بالإزالة.
فالحياة كانت دوماً تدب في مدينة الموتى بالقاهرة، سواء عبر الزوار أو سكان المقابر الفقراء، ولكن هذا الأمر قد ينتهي قريباً.
تمتد هذه المدينة (مقابر القاهرة)، التي تُعَد واحدة من عجائب العالم الحضرية وبالتأكيد من أروع المقابر في العالم، على مساحة أربعة أميال مربعة (10.4 كم مربع)، وتتراوح مدافنها ما بين المتواضع والفخم، إنَّها آثار وقصور لأولئك الذين عاشوا في منازل أكبر خلال حياتهم.
"رائعةٌ وفسيحة جداً، هي تلك المقبرة التي اختار مئات الآلاف من السكان المحليين العيش فيها، فأقاموا مقابر عائلية وبنوا منازل لأنفسهم في الفجوات الفاصلة بينها"، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Time.
لكن لن ينجو لا الأحياء ولا الأموات في ظل مواصلة الرئيس السيسي لخططه الطموحة لإعادة بناء القاهرة على الشاكلة التي يرغب. فمن المقرر أن يمر محور (طريق سريع علوي) عبر منطقة "القرافة"، وهو ما يضع خط نهاية للمقبرة التي يعود تاريخها إلى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، حسب الصحيفة البريطانية.
ومدينة الموتى مُسجَّلة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، والتي قالت إنَّها لم تتلقَّ اتصالات من السلطات المصرية بشأن خططها.
وسبق أن أصرت الحكومة على هدم مقابر المماليك أو قرافة المماليك لبناء محور مروري"، وهي مقابر تحوي مجموعات جنائزية فريدة لسلاطين وأمراء المماليك وأسرهم، من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي، تجاورها قباب منفصلة متناغمة معها، بجانب مقابر العائلات الأرستقراطية المصرية الحديثة والتي لا تقل روعة في عمارتها وحسن بنائها وتفردها عن مقابر المماليك.
سليل الباشوات ورؤساء وزراء مصر الراحلون يبكي على قبور أجداده
قال محمد يكن (58 عاماً)، وهو سليل أسرة من الباشاوات والوزراء السابقين، في حوش مقابر العائلة، وهو مجمع مزين بالقباب وأكثر من 100 مقبرة منحوتة بشكل مُزخرَف: "إنَّكم تقفون أمام ذكرى عصر شهير في التاريخ المصري". وتعود إحدى هذه المقابر إلى عمه الأكبر، عدلي باشا يكن، الذي تولى رئاسة الوزراء لثلاث ولايات في عشرينيات القرن الماضي.
وأضاف: "كانت هذه المنطقة هي المدفن الرئيسي للطبقة الحاكمة والنخبة في النصف الأول من القرن العشرين. إذا محوت تاريخ من جاءوا قبلك، فستفقد أيضاً تاريخ ما سيأتي".
ولكن الآن تعمل الجرافات على قدم وساق، مثلما هو الحال في العديد من مناطق القاهرة، فتهدم المباني السكنية والمقابر والحدائق من أجل إنشاء الطرق السريعة الجديدة التي تربط المدينة بالعاصمة الإدارية الجديدة التي يبنيها السيسي في الصحراء الواقعة جهة الشرق.
كل ذلك لأجل عاصمة جديدة على الطراز العسكري
قال السيسي (67 عاماً)، بعد أن أطاح بالرئيس المنتخب محمد مرسي في 2013، إنَّه يريد فرض النظام في فوضى مصر. وبعكس القاهرة، التي تمثل خليطاً من الشوارع المتعرجة والتي تعكس كل منطقة فيها أذواق السلالات الحاكمة والغزاة الإمبراطوريين المتعاقبين، ستكون العاصمة الجديدة مُنظَّمة هندسياً وخاضعة لضبط شُرَطي مُحكَم وستضم مقرات مسؤولي الإدارة وضباط الجيش وقصراً رئاسياً.
ويفترض أن تضم العاصمة الإدارية، التي تقع على بُعد 30 ميلاً (48.3 كم) إلى الشرق من العاصمة الحالية، في نهاية المطاف 6.5 مليون نسمة في منطقة صحراوية بحجم سنغافورة. ويتوقف حدوث ذلك من عدمه على نجاح المرحلة الأولى الأصغر بكثير، لكنَّها لم تكتمل بعد، وإنشاء شبكة من الطرق السريعة التي تربطها بمركز العاصمة القديمة والأهرامات غرباً والحي الإسلامي التاريخي.
وتقول الحكومة إنَّه سيتم إنفاق (67.63 مليار دولار) على البنية التحتية للنقل وحدها بنهاية العقد الجاري.
منطقة ضريح الإمام الشافعي التي تضم قبور أمراء وكتاب مهددة
وفي القرافة، تتمثل الخطة في بناء جسر علوي يمر عبر قلب المنطقة، وهو ما سيؤدي إلى تشريد مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعيشون هناك. ويشمل ذلك المنطقة الأكبر، منطقة ضريح الإمام الشافعي.
وسيجري هدم مئات المقابر، بما في ذلك مقابر أمراء وكتاب وفنانين، فضلاً عن وزراء مثل عدلي باشا يكن.
كان موقع مقابر القاهرة في القرن السابع الميلادي يقع في الصحراء بعيداً عن النيل. لكن في القرون التالية، أصبحت القاهرة واحدة من أكبر المدن في العالم، ويعيش سكانها البالغ عددهم 20 مليوناً الآن في منطقة ذات امتداد عملاق، نصفهم على الأقل في مبانٍ سكنية رديئة شبه قانونية ظهرت في فوضى التاريخ المصري الحديث.
لا أحد يختلف على ضرورة تطوير العاصمة
قليلون هم مَن يعترضون على أنَّ البنية التحتية للمدينة بحاجة ماسّة إلى استثمارات.
ومع ذلك، يقول الجغرافيون والمخططون العمرانيون إنَّ حجم الهدم الذي يستهدف مقابر القاهرة غير ضروري لتحقيق الهدف المُعلَن المتمثل في إزالة الاختناقات المرورية.
وقالت جليلة القاضي، مديرة الأبحاث المتفرغة في مركز البحوث من أجل التنمية الفرنسي: "هنالك بدائل يمكن أن تحافظ على التراث. لكنَّ الهدف الحقيقي ليس إنشاء محاور مرورية، بل إزالة مقابر القاهرة بالكامل".
أراضي مقابر القاهرة قيمتها السوقية عالية جداً
وأضافت جليلة القاضي: "القيمة السوقية لأرض المقابر عالية جداً. ويتحدث الناس عن إزالة المقابر واستخدام الأرض للعقارات منذ التسعينيات. لكن هنالك مفارقة. فمن المفترض أن يبنوا عاصمة إدارية جديدة لتخفيف الضغط عن القاهرة التاريخية. لماذا إذاً تحتاج لتخريب العاصمة القديمة؟ ما هو المغزى من العاصمة الإدارية إن لم يكن تخفيف الضغط عن القاهرة؟".
بدأت عملية الإزالة بـ1177 قبراً، تعود حتى الآن بشكل أساسي لمنتمين للطبقة العاملة كانت عائلاتهم أقل احتمالاً لتنظيم معارضة.
قال محمد عبد العزيز (61 عاماً)، وهو حفَّار قبور في منطقة الإمام الشافعي: "المدافن هناك مختلفة عن مدافننا. فالمدافن هنا للباشوات والبهوات، حيث توجد أبنية رخامية من الدرجة الأولى. وفي ما يتعلَّق بالمنطقة التي أُزيلَت، فإنَّ مدافن الناس العاديين ليس لها قيمة فنية".
لكنَّ لجنة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، التي تشرف على العمل، بدأت مسح منطقة الإمام الشافعي. وقد تغيَّر مسار الجسر في هذه المنطقة مرتين بالفعل، إذ تقدم جماعات حملات الحفاظ على التراث في المنطقة حججها بخصوص هذه المنطقة أو تلك.
ضريح زوجة آخر ملوك مصر، وملكة إيران، والبعض يفضل أن تحرق جثته
ويُعَد ضريح الملكة فريدة، زوجة آخر ملوك مصر، عُرضة للخطر. كما أنَّ شقيقة زوجها السابقة الأميرة فوزية، التي أصبحت ملكة لإيران وتوفيت عن عمر يناهز 91 عاماً في عام 2013، مدفونة هناك.
وأصدرت مجموعة تُسمَّى "إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية" عريضة وقَّع عليها 3 آلاف شخص وتقترح إقامة نفق كبديل عن الجسر. لكنَّ هاني عيسى الفقي، المهندس المسؤول عن المشروع، صرَّح لصحيفة The Times البريطانية بأنَّ ذلك مستحيل.
وقال: "المشروع ليس جسراً فقط، إنَّه طريق لمحور مروري كامل. ويجري إعداد الرسومات والمسار المُفصَّل للمحور والجسور حالياً".
وأضاف أنَّه سيتم الحفاظ على الأضرحة التي تُعتبَر من التراث الوطني. لكنَّ ذلك لم يُهدِّئ المنتقدين، الذين قالوا إنَّ مستقبلهم وماضي البلاد هو المُعرَّض للخطر. وقالت الأستاذة جليلة القاضي إنَّها غيَّرت وصيتها لتطالب بإحراق جثتها بعد الموت، مع أنَّ ذلك مخالف للتقاليد الإسلامية.
وأضافت: "لا أريد أن تتعرَّض رفاتي للإهانة. يكفي أن تكون رفات أجدادي مُهدَّدة".