رغم إعلان أمريكا قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، إلا أن القضاء على التنظيم يبدو مهمة صعبة، خصوصاً في العراق، حيث تواجه القوات هناك معطيات محيرة في الهجمات التي تتعرض لها.
كانت الأسابيع القليلة الماضية قد شهدت هجمات لداعش في سوريا والعراق وليبيا والجزائر ودول أخرى، وهو ما يثير تساؤلات بشأن احتمالات عودة التنظيم لتهديد الأمن في المنطقة بعد 3 سنوات من إعلان هزيمته نهائياً.
ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً عنوانه "القوات العراقية تطارد الظلال في ملاحقة تنظيم الدولة الإسلامية"، رصد ما يحدث داخل العراق تحديداً وما تعنيه تلك الأحداث بالنسبة للحرب ضد داعش.
وبالتزامن مع الهجوم الضخم والمعقد على سجن غويران في الحسكة بسوريا، والذي قام به مئات وربما أكثر من مقاتلي داعش لتحرير الآلاف من زملائهم المسجونين، شهدت عدة دول أخرى منها العراق ودول شمال إفريقيا وأفغانستان هجمات متنوعة للتنظيم، في مؤشر خطير على تصاعد عمليات داعش وتنوعها.
هجوم معقد شمال بغداد
غُمِرَت ضواحي بلدة العظيم، الواقعة على بعد 120 كيلومتراً شمال بغداد، بظلامٍ دامسٍ تقريباً. كانت الساعة تقترب من الثالثة صباحاً يوم 21 يناير/كانون الثاني، وكانت درجات الحرارة تقترب من التجمُّد. وفي سواد الليل تسلَّل عددٌ من المسلحين إلى مقر لواء للجيش العراقي في قرية أم الكرامي غربي بلدة العظيم. أطلقوا النار وقتلوا 11 جندياً.
وقال القادة العسكريون الذين وصلوا إلى مكان الواقعة لموقع Middle East Eye البريطاني إن الهجوم كان "سريعاً ومُخطَّطاً له بشكلٍ جيد"، إذ تسلَّل اثنان من المسلَّحين من البوابة الرئيسية وأسقطوا أربعة جنود. اقترب الباقون من الخلف وأسروا الجنود الباقين وأطلقوا الرصاص على رؤوسهم واحداً تلو الآخر.
وقال ضابطٌ عسكري ميداني كبير لموقع Middle East Eye: "هذه العملية لم تكن لتنجح لولا تعاون شخص من الداخل. لقد سُلِّمَ هؤلاء الجنود لكي يُقتَلوا. من الواضح أن المهاجمين كانوا يعرفون عدد الجنود داخل المقر، وأين كانوا، ومتى قاموا بتبديل مهامهم، وحتى عاداتهم اليومية".
كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد أعلن خلال عام 2019 هزيمة داعش بشكل نهائي في سوريا والعراق وانتهاء أمر التنظيم بلا رجعة، لكن تقارير الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2021، أشارت إلى وجود ما لا يقل عن 10 آلاف مقاتل من "داعش" ينشطون في سوريا والعراق، إلى جانب أعداد أخرى تنتشر في إفريقيا وأفغانستان وليبيا والصومال وجنوب شرق آسيا.
تناقضات في الهجوم لا تشير إلى داعش
قبل بدء أي تحقيقات جادة، عزا القادة العسكريون والسياسيون في العراق الهجوم إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لكن بالفعل، كانت هناك بعض التناقضات المحيِّرة. فبشكل غير عادي، ترك المهاجمون وراءهم ترسانةً من الأسلحة التي يسيل لها اللعاب، وعلى ما يبدو، لم يكونوا مهتمين بالأسلحة والمعدَّات الموجودة حول القاعدة.
وبالمثل، لم يقوموا بأي محاولة لإشعال النار في المركبات المتبقية، والتي كان من الممكن استخدامها لاحقاً لمطاردتهم. مثل هذا السلوك غير مألوف بالنسبة لمقاتلي داعش المدربين تدريباً جيداً، كما يُزعَم.
ومع ذلك، سرعان ما أثار هجوم أم الكرامي مخاوف متزايدة من عودة تنظيم الدولة الإسلامية للانتقام، حيث كان يُنظَر إليه على أنه الأحدث في سلسلةٍ طويلةٍ من الهجمات الدموية بشكلٍ متزايد في محافظة ديالى. لكن على بعد 600 كيلومتر، في اليوم نفسه، كانت الجماعة المسلَّحة تنفِّذ عملية اقتحام دموية في سجن الحسكة السوري.
والآن أصبح العراقيون يتساءلون: هل يستطيع تنظيم الدولة الإسلامية شن هجمات أكبر، ومن الذي يسيطر بالضبط على الأراضي الخطرة المعروفة باسم حوض حمرين؟
ما هي الملاذات الآمنة؟
منذ أن قُضِيَ على تنظيم داعش من معاقله الحضرية في العراق في عام 2017، انسحب مقاتلو التنظيم في الغالب إلى ملاذاتٍ قديمة منتشرة في الصحراء الغربية للأنبار وحوض حمرين، الذي يقع شمال بعقوبة، عاصمة ديالى.
على الرغم من أن الصحراء الغربية كانت ولا تزال ملاذاً مهماً للتنظيم، يقول القادة العسكريون والمراقبون العراقيون إن غالبية مقاتلي داعش قد لجأوا إلى حوض حمرين. كانت المنطقة واحدة من أكبر وأخطر معاقل الجماعات السنية والكردية المتطرِّفة منذ عقود. وتوفِّر وعورة الحوض وتنوُّع تضاريسه شبكةً من الممرات الآمنة التي تخترق سلسلةً من الوديان والتلال.
تقع المنطقة في الأرض التي تلتقي فيها محافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك، وتربط بين شمال العراق وغربه. قال قائدٌ عسكري عراقي رفيع لموقع Middle East Eye إن هذا يجعلها "عقدة نقلٍ استراتيجية" لأي جماعةٍ مسلَّحة أو قوةٍ عسكرية نظامية.
ويمكن لمن يسيطر على حوض حمرين أن يفصل بغداد عن شمال العراق، بما في ذلك إقليم كردستان شبه المستقل والمناطق المجاورة.
وقال قادةٌ عسكريون ميدانيون عراقيون لموقع Middle East Eye إن مقاتلي داعش اعتمدوا إلى حدٍّ كبير تكتيكات حرب العصابات. وفي حين أن عجز التنظيم في الموارد البشرية والمالية قد استلزم هذه الاستراتيجية، يشير القادة إلى أنها طريقة فعالة لـ"استنزاف"، فضلاً عن إثبات وجود داعش وقوتها.
وقالت مصادر إن 30 هجوماً على الأقل استهدفت القوات العراقية خلال الأشهر الثلاثة الماضية انطلقت من حوض حمرين. وجاءت الغارة الأخيرة في أم الكرامي، الواقعة في وادي حوض حمرين.
وفق مواقع مقربة من "داعش" فإن التنظيم نفَّذ خلال 2021 ما يزيد على 2748 عملية في جميع مناطق نشاطاته حول العالم أسفرت عن 8147 قتيلاً، بواقع 1065 عبوة ناسفة ونحو 855 اشتباكاً أو تعرضاً مسلحاً و203 كمائن، إضافة إلى عمليات أخرى منها 23 انتحارية، بحسب الأناضول.
وتوزعت العمليات على العراق بـ1127 عملية قتل جراءها 2083 شخصاً، ونحو 370 عملية في سوريا، و415 في نيجيريا، و372 في أفغانستان، وعمليات أخرى في باكستان ومصر وليبيا والصومال والفلبين وإندونيسيا ودول أخرى. وفي أفغانستان التي انسحبت منها القوات الأمريكية منتصف أغسطس/آب 2021، نفذ التنظيم ما يزيد على 370 عملية خلال 2021 تسببت بمقتل 2210 أشخاص كان أبرزها الهجوم الانتحاري قرب مطار كابول الذي قُتل فيه 13 جندياً أمريكياً ونحو 170 مدنياً أفغانياً.
ويُعَدُّ تأمين الحوض والسيطرة عليه تحدياً واجهته الحكومة العراقية منذ عام 2005. قال قائدٌ في قوات الرد السريع في أم الكرامي بعد الهجوم: "هذه المناطق هي الأخطر عسكرياً ويصعب على قواتنا السيطرة عليها لأنها مناطق وعِرة تمتد لعشرات الكيلومترات".
وأضاف: "السيطرة على مثل هذه المناطق تتطلَّب عملياتٍ عسكرية مستمرة ومراقبةً مستمرة للحدود وجهوداً استخباراتيةً ضخمة"، مؤكداً أن انتشار القوات العراقية في المنطقة لا يساعد على الإطلاق، وقال لميدل إيست آي: "يمكنك العثور على جنود اتحاديين وشرطة محلية وقوات كردية وعدد من القوات شبه العسكرية مقسمة على أسسٍ طائفية وعرقية". وشكا من أن الولاءات والأهداف المتنوِّعة لهذه القوات تجعل تأمين المنطقة "مهمةً شبه مستحيلة".
قصة معسكر عائشة
شُنَّت عمليةٌ عسكريةٌ ضخمة بعد هجوم أم الكرامي، حيث يمشِّط الآلاف من القوات الاتحادية والمحلية المنطقة بحثاً عن الجناة. وقال القادة المشاركون في الحملة لموقع Middle East Eye إن النتائج كانت مخيِّبةً للآمال. اكتُشِفَت مخابئ- كهوف وأنفاق منتشرة حول وديان الحوض- لكن "معظمها كان مهجوراً لفترة طويلة"، كما قال قائد أحد الأفواج.
وأضاف القائد: "تركنا سياراتنا وسرنا أكثر من 10 ساعات لتفقد المنطقة وتطهيرها. لم نعثر على أحدٍ ولم تُطلَق علينا رصاصةٌ واحدة. أراهن أن هذه الملاذات لم يستخدمها أحدٌ منذ عام على الأقل".
كان الهدف الرئيسي للحملة، التي استمرت لعدة أيام، هو الوصول إلى معسكر عائشة، وهو قاعدةٌ مُحصَّنة أنشأها تنظيم القاعدة في عام 2007 واستخدمها تنظيم داعش لاحقاً.
يقع المعسكر في واد بطول كيلومترين في جبال حمرين شمال ديالى. وعلى الرغم من أن موقعه معروف منذ فترة طويلة، فقد غادرت القوات العراقية في السابق معسكر عائشة. ليست الأسباب وراء ذلك واضحة، إلا أن القادة جادلوا بأن هناك مخاوف بشأن المخاطر التي ينطوي عليها اقتحام المعسكر. في النهاية، استُولِيَ على المعسكر بشكلٍ مختلف تماماً.
قال أحد كبار الضباط الميدانيين لموقع Middle East Eye: "أخيراً، استولينا على معسكر عائشة. اضطررنا إلى ترك سياراتنا والسير على الأقدام. التضاريس هنا وعرة للغاية والمهمة محفوفة بالمخاطر للغاية، لكننا وصلنا أخيراً. طهَّرنا المعسكر بأكمله ودمَّرنا الملاذات التي وجدناها".