“عقيدة بريجنيف”.. هل يطبق بوتين في أوكرانيا “خدعة” سوفييتية من “تراث” الحرب الباردة؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2022/02/06 الساعة 09:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/07 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش
بوتين يحمل سلاحاً نارياً/ رويترز

في الوقت الذي تقول فيه أمريكا إن الحل الدبلوماسي لأزمة أوكرانيا أوشك على الانتهاء، يواجه رئيس روسيا بوتين اتهامات بأنه يتبع أساليب الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، فما قصة تلك الأساليب؟

نشرت مجلة The Foreign Policy الأمريكية تحليلاًً ببعنوان "حروب الخداع والتلفيق تخصص روسيا"، رصد ما حدث في دول مثل تشيكوسلوفاكيا وأفغانستان وغيرهما أثناء فترة الحرب الباردة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والشرق بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق.

وتتمثل الأزمة في أوكرانيا في حشد روسيا عشرات الآلاف من جنودها، فيما تصفه تقارير غربية وأمريكية بأنه استعداد للغزو، بينما تنفي موسكو نية الغزو وتتهم الغرب باستفزازها عن طريق نشر قوات لحلف الناتو بالقرب من حدود روسيا، في انتهاك لوعد عمره أكثر من 3 عقود بعدم توسع الحلف شرقاً.

وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن تتزامن الأزمة الأوكرانية، التي تهدد أوروبا والعالم حالياً بحرب لا أحد يمكنه التنبؤ بمسارها أو حتى أطرافها إذا ما اندلعت بالفعل، مع مرور 30 عاماً على سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا دولة أساسية فيه، ومن ثم انتهاء الحرب الباردة.

فالأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد الرئيس الروسي أن يُرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، ولأن موسكو لا تثق بقدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً.

ماذا قد يفعل عملاء روسيا في أوكرانيا؟

نبهت وزارة الدفاع الأمريكية الشهر الماضي، في ظل تصاعد التوترات بين أوكرانيا وروسيا، علناً إلى أن العملاء الروس يخططون لعملية ملفقة تمنحهم ذريعة للتدخل في أوكرانيا. وتبع هذا التحذير إعلان غير اعتيادي من وزارة الخارجية البريطانية تزعم فيه أن الكرملين يخطط لتنصيب زعيم خاضع لروسيا وموالٍ لها في أوكرانيا.

كانت وزارة الخارجية البريطانية قد نشرت بياناً قالت فيه إن روسيا تريد تنصيب حكومة أوكرانية تكون موالية لبوتين في كييف، وذكر البيان اسم النائب الأوكراني السابق يفين موراييف كمرشح محتمل، لكن موراييف نفسه نفى تلك التقارير في تصريحات صحفية بريطانية وقال إنه "ممنوع من دخول روسيا".

وشمل بيان الخارجية البريطانية أيضاً أسماء كل من سيرغي أربوزوف (النائب الأول لرئيس وزراء أوكرانيا من 2012 إلى 2014، ثم الرئيس المؤقت للوزراء)، وأندريه كلوييف (الذي ترأس الإدارة الرئاسية للرئيس السابق يانوكوفيتش)، وفولوديمير سيفكوفيتش (نائب أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني سابقاً)، وميكولا أزاروف (رئيس وزراء أوكرانيا من 2010 إلى 2014).

وهذا الأسبوع، نشر مسؤولون في المخابرات الأمريكية تفاصيل مؤامرة روسية لفبركة تفجيرات تبرر التدخل الروسي واتخاذها ذريعة لشن هجوم على أوكرانيا. 

المتظاهرون المؤيدون لروسيا يزيلون العلم الأوكراني ويستبدلونه بعلم روسي أمام مبنى إدارة الدولة الإقليمية في دونيتسك خلال الصراع المؤيد لروسيا في أوكرانيا عام 2014/ wikipedia commons

وهذه المزاعم ليست مفاجئة كثيراً عند النظر إليها من منظور تاريخي. فالكرملين كان يلجأ لهذه الاستراتيجيات خلال الحرب الباردة، والزعيم الروسي فلاديمير بوتين -المحارب القديم في الحرب الباردة والضابط السابق في المخابرات السوفييتية- يعرفها حق المعرفة. وفهم هذا المنظور التاريخي يوضح لنا ما نراه يتكشف تباعاً، بحسب فورين بوليسي.

فعام 1968، استخدم الكرملين جهاز مخابراته "الكي جي بي" لفبركة حوادث تبرر التدخل العسكري السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا، التي كان زعيمها الجديد، ألكسندر دوبتشيك، يحاول إخضاعها لإصلاح ديمقراطي في يناير/كانون الثاني وإقامة "نظام اشتراكي بطابع إنساني". ورأى الكرملين في هذه الإصلاحات تهديداً لنسيج الاتحاد السوفييتي. 

وتكشف ملفات المخابرات السوفييتية التي كانت سرية للغاية سابقاً أن الزعيم السوفييتي في ذلك الوقت ليونيد بريجنيف، ورئيس المخابرات السوفييتية يوري أندروبوف، استخدما عملاء الاتحاد السوفييتي "غير الشرعيين" لتلفيق الحوادث لتبرير إرسال الجيش الأحمر، وسحق إصلاحات دوبتشيك، وتنصيب زعيم مُوالٍ للكرملين في تشيكوسلوفاكيا.

هذا ما فعله الاتحاد السوفييتي سابقاً

في إطار ما أُطلق عليه "عملية التقدم"، التي كشفت عنها مواد مهربة من أرشيف الاستخبارات السوفييتية إلى الغرب، أذِن أندروبوف بنشر 20 عميلاً من عملاء المخابرات السوفييتية غير الشرعيين. وهؤلاء كانوا ضباط استخبارات لا يشملهم غطاء دبلوماسي سوفييتي (شرعي) لكنهم يعملون دون غطاء (ومن ثم غير شرعيين).

ولم يحدث أن نشر أندروبوف عملاء في أي دولة غربية خلال هذه الفترة القصيرة مثلما فعل في تشيكوسلوفاكيا. وتظاهر هؤلاء بأنهم صحفيون ورجال أعمال وطلاب غربيون في تشيكوسلوفاكيا والدول المجاورة. وكانت مهمتهم، التي أشرفت عليها وحدة العملاء غير الشرعيين في المخابرات السوفييتية، التجسس على الغربيين هناك وتنفيذ عملية سرية ("إجراءات فعالة" بلغة الكرملين) تبرر التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا.

دبابة روسيا بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، سبوتنيك

فنشروا قصصاً تشوّه سُمعة الساسة الإصلاحيين التشيك، وحاولوا إقناع الصحفيين بنشر انتقادات استفزازية للاتحاد السوفييتي، وحددوا من يجب ترحيلهم إلى الاتحاد السوفييتي، ولفقوا أدلة على مؤامرة غربية لدعم الإصلاحيين التشيك.

وفي رواية موسكو، كان الإصلاحيون المؤيدون للديمقراطية في براغ يتلقون المساعدة من وكالة المخابرات المركزية واليد الخفية لأجهزة المخابرات الغربية الأخرى، ويحاولون تخريب الاتحاد السوفييتي. وهكذا كان على موسكو أن تتخذ موقفاً حازماً وأن تعزز أمنها في مواجهة التدخل الغربي.

هل تبدو القصة مألوفة؟

في يوليو/تموز، فبرك عملاء السوفييت المنتشرين في تشيكوسلوفاكيا اكتشاف مخبأ أسلحة عتيقة تعود للحرب العالمية الثانية، وموضوعة في عبوات تحمل علامة "صُنع في الولايات المتحدة".

وسارعت وسائل الإعلام السوفييتية التي تديرها الدولة إلى نشر القصة باعتبارها دليلاً على مؤامرة مُعادية للثورة يدبرها الغرب داخل دائرة نفوذ موسكو. وكشف المزيد من تفاصيل مؤامرة المخابرات السوفييتية للإجراءات الفعالة في تشيكوسلوفاكيا ضابط استخبارات تشيكي سابق، لاديسلاف "لاري" بيتمان، الذي تخصص في هذه الإجراءات.

وكان لبيتمان دور كبير في التنسيق بين جهاز المخابرات التشيكية StB والمخابرات السوفييتية في الفترة التي سبقت ربيع براغ. وقال إن المخابرات السوفييتية أعدت خطة لقتل زوجات سوفييت لمواطنين تشيك، ثم تحميل مسؤولية هذه الجرائم لأعداء الثورة الغربيين. وكان ذلك سيصبح ذريعة التدخل.

هذه الخطة لم تنفذ أبداً، لكنها تكشف عن المدى المخيف الذي كان المتشددون في موسكو، مثل أندروبوف، على استعداد للذهاب إليه لتبرير التدخل في دولة سوفييتية.

واستخدم رئيس الوزراء السوفييتي، أليكسي كوسيغين، أدلة مفبركة عن عملاء ومخربين (هم في الواقع من تدبير الكي جي بي) ذريعة للتدخل في تشيكوسلوفاكيا. ونشر الكرملين أيضاً نسخة من خطة سرية أمريكية مزعومة، حصل عليها بسهولة، لإطاحة الحكومة التشيكية.

وفي أغسطس/آب عام 1968، توغل الجيش الأحمر السوفييتي وحلفاؤه في حلف وارسو في براغ لاستعادة العقيدة السوفييتية، في أكبر عمل مسلح في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأُجبر دوبتشيك على الاستقالة ونُقل إلى موسكو.

(وبعد خروجه من منصبه، كان يشك في أن المشكلات الصحية الخطيرة التي تعرض لها كانت نتيجة محاولة لتسميمه من المخابرات السوفييتية، ولا يبدو ذلك مستبعداً). وأقام بريجنيف نظاماً ستالينياً قمعياً جديداً في تشيكوسلوفاكيا، بقيادة غوستاف هوساك، الذي عمد بعد ذلك إلى تطبيع العلاقات مع موسكو، وهو ما يعني عملياً الخضوع الكامل لها.

هل يطبق بوتين عقيدة بريجنيف؟

وهكذا، وضع الزعيم السوفييتي استراتيجية سوفييتية كبرى، "عقيدة بريجنيف"، تسمح له بالتدخل في البلدان التي تتعرض فيها "الاشتراكية" (أي الحكم السوفييتي المتشدد) للتهديد. واعتبر رئيس المخابرات السوفييتية، أندروبوف، سحق ربيع براغ نجاحاً مذهلاً للاستخبارات السوفييتية. فقد انتصر الخداع والقوة العسكرية في نهاية الأمر، وهو درس لن ينساه خلال عمله رئيساً للاستخبارات السوفييتية، وحين أصبح زعيم الاتحاد السوفييتي بعدها بـ 14 عاماً.

ولم تكن الإجراءات السوفييتية الفعالة في براغ عام 1968 حدثاً فريداً لم يتكرر. فكل تدخل من التدخلات العسكرية السوفييتية الكبرى لجلب ما يسمى المساعدة الأخوية إلى البلدان الضالة -المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وأفغانستان عام 1979- كان مصحوباً بعمليات فبركة وخداع سوفييتية.

أوليغ بنكوفسكي
جون كينيدي رئيس أمريكا ونيكيتا خروتشوف زعيم الاتحاد السوفيتي

وفي الواقع، كان سلف جهاز الاستخبارات السوفييتي، هيئة الطوارئ الروسية لمكافحة الثورة المضادة والتخريب الذي يعرف اختصاراً بتشيكا، والذي تأسس بعد فترة وجيزة من استيلاء البلاشفة على السلطة عام 1917، يستخدم عمليات الخداع لمساعدة البلاشفة على "تهدئة" أوكرانيا خلال السنوات التالية. وكان فرض الحكم السوفييتي في أوكرانيا عن طريق الترهيب والعنف عنصراً أساسياً في بناء الاتحاد السوفييتي قبل قرن من الزمان، عام 1922.

وخلال الأيام والأسابيع المقبلة، ترى مجلة فورين بوليسي أن الغرب عليه أن يراقب الأحداث التي ستعطي بوتين المبرر للتدخل في أوكرانيا، إذ تقول المجلة الأمريكية في تحليلها إن استراتيجية بوتين الكبرى هي، بدرجة كبيرة، بناء الاتحاد السوفييتي من جديد، أو "إعادة المجد لروسيا".

ولأن الرئيس الروسي بوتين كان ضابطاً سابقاً في المخابرات السوفييتية، فهو يعرف تاريخ المخابرات السوفييتية جيداً. وقد درس في معهد أندروبوف النخبوي التابع للمخابرات السوفييتية في منطقة موسكو، الذي يدرب المجندين على الإجراءات الفعالة وغيرها من الحيل الجاسوسية.

ومعلم بوتين كان أندروبوف، الذي كان يتبع استراتيجية الجمع بين القوة العسكرية والخداع. وتشير تحركات بوتين الأخيرة إلى أنه يبتكر عقيدة بريجنيف حديثة، تمنحه الحق في التدخل لفرض رفاقه المستبدين في الخارج القريب من روسيا. فقد تدخل في كازاخستان ولديه زعيم مطيع في بيلاروسيا. وأوكرانيا هي الخطوة المنطقية التالية.

تحميل المزيد