تنحدر ليبيا بسرعة نحو الانقسام مجدداً بعد تحديد مجلس النواب الليبي ورئيسه عقيلة صالح، الإثنين 8 فبراير/شباط 2022، موعداً لاختيار رئيس حكومة جديد، خلفاً لعبد الحميد الدبيبة، الذي أعلن رفضه هذه الخطوة.
الموقف الآن حرج وليبيا أمام خطر حقيقي، ليس فقط تقسيم مؤسسات البلاد بين حكومتين، بل إدخال المنطقة الغربية بالذات في حرب أهلية مصغرة.
ففي 31 يناير/كانون الأول المنصرم، أعلن عقيلة صالح، في كلمته أمام النواب، عقد مجلس النواب جلسة في 8 فبراير/شباط المقبل، "لاختيار رئيس الحكومة الجديد".
وقال عقيلة، بحسب ما نقل عنه موقع "بوابة الوسط" (محلي): "سيتسلم مقرر المجلس ملفات المرشحين لمنصب رئيس الوزراء، ثم تتشاور لجنة خارطة الطريق مع المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان)، وتعقد جلسة للاستماع إلى المرشحين في 7 فبراير، واليوم التالي تعقد جلسة لاختيار رئيس الحكومة الجديد".
ولم يستجب عقيلة لطلب 62 نائباً من الداعمين لرئيس حكومة الوحدة، بتأجيل جلسة 31 يناير لمزيد من التشاور، رغم أنهم يمثلون أكثر من نصف النواب الذين حضروا الجلسة التي قبلها.
ما يؤكد أن عقيلة صالح ماضٍ في الإطاحة بحكومة الدبيبة، غير آبهٍ بمبادرة النواب الـ62 الداعمة لبقاء الحكومة، ولا رفض رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، تشكيل حكومة جديدة، ولا حتى عدم تبني المجتمع الدولي هذه الخطوة التي من شأنها التأثير سلباً على زخم التحضير للانتخابات.
الدبيبة، وفي أول ردة فعل على شروع مجلس النواب في استلام ملفات الترشح لرئاسة الحكومة، اعتبر ما يقوم به عقيلة، محاولة يائسة لعودة الانقسام، مؤكداً أن حكومته مستمرة في أداء مهامها حتى إنجاز الانتخابات.
ولفت الدبيبة، في تصريح لقناة "ليبيا الأحرار" (خاصة)، إلى أن حكومته تواصلت مع "جميع الأطراف الدولية، وجميعها ضد محاولات رئيس مجلس النواب بشأن مرحلة انتقالية جديدة".
وقال إن "مخرجات الاتفاق السياسي الدولي واضحة بشأن المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة"، مشدداً على أنهم يعملون وفقاً له.
وحدد الاتفاق السياسي، الذي تم التوصل إليه بتونس في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مدة المرحلة الانتقالية بـ18 شهراً، تنتهي في يونيو/حزيران 2022.
ونصّ الاتفاق السياسي، الذي تم التوصل إليه برعاية أممية، على تشكيل ملتقى الحوار من 75 عضواً، والذين بدورهم اختاروا رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس الحكومة ضمن قائمة واحدة.
وفازت قائمة محمد المنفي والدبيبة، على قائمة عقيلة وفتحي باشاغا، وزير الداخلية السابق.
وتولى فيما بعد مجلس النواب، بعد توحيده، اعتماد حكومة الدبيبة، في 10 مارس/آذار 2021، بشبه إجماع (131 صوتاً من إجمالي 132).
وبناءً على هذه الآلية، فإن مجلس النواب لم يكن له دور مباشر في اختيار رئيس الحكومة، وبالتالي ليست له الصلاحية لاختيار رئيس حكومة جديد، بحسب بعض الداعمين للدبيبة.
ناهيك عن أن عقيلة منافس للدبيبة، سواء في ملتقى الحوار، أو في الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول الفائت، ويفترض ألا يكون خصماً وحكماً في نفس الوقت، خصوصاً أن هذه الحكومة جاءت نتيجة توافق بين الشرق والغرب ولم تولد من رحم مجلس النواب، الذي اكتفى بتزكيتها.
شبح حرب أهلية بطرابلس
أخطر سيناريو في انتظار ليبيا أن يقوم مجلس النواب باختيار فتحي باشاغا رئيساً لما يُسمى حكومة الاستقرار.
وتكمن الخطورة في أن باشاغا متحدر من مدينة مصراتة (غرب) مسقط رأس الدبيبة، ويملك أنصاراً في المنطقة الغربية، وله نفوذ على بعض الكتائب المسلحة من مصراتة، ناهيك عن الدعم السياسي والعسكري المنتظر من المنطقة الشرقية الخاضعة لسيطرة قائد قوات الشرق خليفة حفتر، والدول الداعمة له مثل الإمارات ومصر وفرنسا.
بينما يدعم الدبيبة كل من المجلس الأعلى للدولة، وقائد الأركان محمد الحداد، وعدد من كتائب الغرب، ومحافظ البنك المركزي الصديق الكبير، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، والمجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك فالحكومة المتوقع أن يختارها مجلس النواب ستواجه أزمة اعتراف دولي، ولن تتمكن من الوصول إلى الموارد المالية التي لدى البنك المركزي، لتنفيذ مشاريعها، ناهيك عن أزمة الشرعية لأنها لم تخرج بتوافق مع المجلس الأعلى للدولة، وقد يلجأ الدبيبة إلى المحكمة العليا لطعن في شرعيتها وحلها.
وبما أن التوافقات بين الشرق والغرب ذهبت إلى أن يكون رئيس الحكومة من الغرب ورئيس المجلس الرئاسي من الشرق، فإن باشاغا الأقرب لتولي هذا المنصب.
والأرجح أن يحاول باشاغا، والكتائب الموالية له في مصراتة، السيطرة على المؤسسات الرسمية في العاصمة طرابلس، وعلى رأسها مقر الحكومة، لفرض سلطة الأمر الواقع، وإزاحة حكومة الوحدة بالضغط والتدافع لتجنب المواجهة العسكرية الشاملة.
فباشاغا لديه تجربة ناجحة في هذا الأمر، وسبق له أن قضى على حكومة الإنقاذ الوطني، بقيادة خليفة الغويل (من مصراتة أيضاً)، بهذه الطريقة، عبر تحالفات معقدة، ودون وقوع اشتباكات عنيفة وطويلة الأمد.
ففي مارس/آذار 2016، تمكّن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني من دخول طرابلس، رغم تهديد حكومة الإنقاذ باعتقال أعضائه، لكن ذلك لم يحدث، لأن أغلب كتائب الغرب تخلت عن الغويل، وانحازت للحكومة الجديدة، المدعومة من باشاغا.
وشيئاً فشيئاً استولت حكومة الوفاق على المقرات السيادية لحكومة الإنقاذ، دون قتال، والأمر راجع ببساطة لتغير ولاء حرس هذه المقرات، إما بالإقناع أو بالأموال.
وتأخرت المواجهات العسكرية بين قوات الحكومتين في طرابلس إلى غاية مايو/أيار 2017، بعد 14 شهراً من التعايش الصعب.
وهذا السيناريو قد يلجأ إليه باشاغا مجدداً إذا ترأس حكومة مجلس النواب، أو كان عضواً فيها، وسيسعى بالتأكيد إلى تغيير ولاء قادة الكتائب والوحدات العسكرية في طرابلس، بمن فيهم قائد الأركان الحداد (من مصراتة هو الآخر)، وإقناع الدول الإقليمية مثل فرنسا وتركيا.
ويسعى باشاغا لتفادي المواجهة المسلحة مع الكتائب الداعمة للدبيبة إلى اللحظة التي تميل فيها موازين القوى لصالحه، حينها فقط يمكنه التحرك للإجهاز عليها، بأقل الخسائر.
إلا أن السيناريو الأسوأ أن ينحدر الطرفان نحو المواجهة المسلحة، ما سيحول طرابلس وربما مصراتة إلى ساحة لحرب شوارع، وإن كان هذا السيناريو لا يخدم في الوقت الحالي باشاغا، إلا إن استطاع قلب التحالفات، التي تتغير باستمرار في ليبيا.
والأخطر من ذلك أن تدخل أطراف أخرى ميدان المعركة على غرار كتائب الزنتان والزاوية لصالح أحد الطرفين، بالإضافة إلى لواء الصمود بقيادة صلاح بادي، الذي يمثل التيار المتشدد المؤيد لثورة 17 فبراير، التي أطاحت بنظام معمر القذافي.
وهذا السيناريو سيدحرج المنطقة الغربية بأكملها نحو مستنقع حرب أهلية مصغرة.
قوات حفتر بدورها لن تتخذ موقع المتفرج لفترة طويلة، وإن كان الاقتتال بين أعدائها السابقين أفضل ما تتمناه، لكنها قد تتدخل لدعم حليفها الجديد باشاغا، الذي قد تستعمله كحصان طروادة لدخول طرابلس، بعدما فشلت في مهمتها تلك في حرب 2019-2020.
وبينما يعول عقيلة وحفتر وباشاغا على فرض سلطة الأمر الواقع على الدبيبة، فإن الأخير يعول على التحالفات الداخلية مع أصحاب الحل والعقد في طرابلس، ودعم عشرات النواب له، فضلاً عن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، الذي يدعو إلى الإسراع بتنظيم الانتخابات؛ لأنه مقتنع أن حكومة جديدة ستُبعد البلاد عن الانتخابات، بل وستعيدها إلى خط الانطلاق، إن لم تغرق في مستنقع الحرب الأهلية.