تكثف الولايات المتحدة تحركاتها الهادفة لإيجاد حلول للأزمة السودانية "المعقدة والشائكة" بسبب تباعد المواقف بين العسكر والمدنيين، فهل الدافع الأمريكي هو قلق من الفوضى أم رغبة في تنفيذ سيناريو بعينه لمصلحة خاصة؟
كانت الإدارة الأمريكية قد انتقدت الانقلاب الذي قام به قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأعلنت عن تجميد مساعدات بقيمة 700 مليون دولار للخرطوم، لكنها سارعت بالترحيب بالاتفاق السياسي بين البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك في نوفمبر/تشرين الثاني، ثم أعلنت واشنطن ترحيبها بالمبادرة الأممية الأخيرة، فماذا تريد أمريكا من السودان؟
كان السودانيون والعالم قد استيقظوا، الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، على حملة اعتقالات شملت حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
وقرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمّد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
لكن المظاهرات الحاشدة رفضاً للانقلاب لم تتوقف ونجحت وساطة الأمم المتحدة على مدى الأسابيع التي أعقبت الانقلاب في إعادة حمدوك إلى منصبه، لكن استقالة حمدوك بسبب رفض الشارع لاتفاقه السياسي مع البرهان زادت الغموض المحيط بمستقبل السودان السياسي.
العنف ضد المتظاهرين في السودان
كان وفد أمريكي قد أجرى زيارة إلى السودان في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، استمرت 3 أيام؛ لبحث الأزمة التي بدأت مع اتخاذ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان إجراءات يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أبرزها فرض حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وهو ما تعتبره قوى سياسية "انقلاباً عسكرياً"، في مقابل نفي الجيش.
ويرى مراقبون في أحاديث لهم مع الأناضول أن الولايات المتحدة وحلفاءها بالمنطقة يريدون واقعاَ في السودان "يضمن لهم استمرار مصالحهم"، لذلك سيدعمون الجهود المبذولة حالياً من الأمم المتحدة وأطراف أخرى، لإنهاء الأزمة الراهنة.
في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، أكد الوفد الأمريكي برئاسة مساعدة وزير الخارجية للشؤون الإفريقية مولي في، والمبعوث الخاص للقرن الإفريقي ديفيد ساترفيلد، أن بلادهما لن تستأنف المساعدة لحكومة السودان في غياب إنهاء العنف واستعادة حكومة بقيادة مدنية تعكس إرادة الشعب".
وأعلن الوفد في ختام زيارة إلى الخرطوم، دعم العملية السياسية التي أطلقت مؤخراً، والتي تسهلها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة في الانتقال بالسودان "يونيتامس" كوسيلة لمساعدة أصحاب المصلحة المدنيين في تحديد طريق مشترك للتغلب على المأزق السياسي والتعهد بالدعم الأمريكي الكامل.
لكن وفق بيان لمجلس السيادة، فإن لقاء جمع رئيس المجلس، عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"، مع الوفد الأمريكي أفضى إلى اتفاق الطرفين على تشكيل حكومة كفاءات وطنية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ودخول الأطراف السودانية في حوار شامل للتوصل إلى توافق وطني للخروج من الأزمة. وقبل أن يغادر الوفد الأمريكي أصدر البرهان، قرارًا بتكليف 15 وزيراً في حكومة تصريف أعمال جديدة.
كيف تنظر أمريكا إلى السودان؟
كانت مجلة Foreign Policy الأمريكية قد نشرت تقريراً خلص إلى أن إدارة بايدن، التي أبدت بطئاً في دعم الحركة الديمقراطية بشكل ملموس ولم تقدم سوى ردود فاترة على الاحتجاجات في السودان، ليس لها دور كبير خلال التطوُّرات الأخيرة في السودان.
ورصد تقرير المجلة كيف أن السودانيين، في جهودهم المتجددة لتفكيك الدولة القمعية التي خلَّفها البشير، يتعرَّضون للضرب والاغتصاب والاعتقال غير القانوني والغاز المسيل للدموع. وتشير الأدلة الحديثة إلى أن القوات العسكرية وشبه العسكرية استخدمت حتى الأسلحة المضادة للطائرات ضد حشود من المتظاهرين العُزَّل، مِمَّا دَفَعَ البعض للسير بصدورٍ عارية كما لو كانوا يتحدون قوات الأمن لفعل ما تؤمَر به، أي أن تقتلهم.
إنها الحركة الديمقراطية الأكثر إثارة للأمل في القارة الإفريقية اليوم، وربما في العالم. لكن لم يحظَ تصميم وتضحيات الحركة الديمقراطية المكافحة في السودان بالكثير من الاهتمام في قمة الديمقراطية التي عقدها الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض.
وبالنسبة إلى الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي، أمين إسماعيل مجذوب، فإن الولايات المتحدة تنظر للسودان باعتباره منطقة حيوية للأمن القومي الأمريكي، لذلك تهتم به كموقع جغرافي وموارد طبيعية وقوة بشرية وتوازن للقوة في المنطقة مع القوى العالمية الأخرى.
ويقول مجذوب، في حديثه للأناضول، إن "الولايات المتحدة لا تهتم بمن يحكم، وإذا وجدت نظاماً عسكرياً يحقق مطالبها ومصالحها ستدعمه، وإذا وجدت نظاماً مدنياً يُحقق مصالحها ستدعمه أيضاً".
"أما مسألة الديمقراطية والحكم المدني فهي في حسابات الأمريكان عبارة عن جزرات تقدم لبعض الدول وتُمنع من دول أخرى، وهناك شواهد كثيرة في تعامل الأمريكان مع أنظمة عسكرية أو مدنية".
"لذلك في هذه الحالة يحرص الأمريكان على عدم مجيء الروس إلى السودان وعدم منحهم قواعد على البحر الأحمر، وألا تأتي الصين وتنافسهم على الموارد النفطية ومصادر الطاقة الموجودة فيه، وأن لا تأتي غريماتها من الاتحاد الأوروبي إليه للاستثمار في اليورانيوم، وأسواق الصادرات".
ويتوقع المحلل السياسي أن "الولايات المتحدة ستدعم توازناً بين المدنيين والعسكريين في المرحلة المقبلة لإكمال الفترة الانتقالية، وعندما تأتي الانتخابات سيكون لها شكل من أشكال السيطرة على من يأتي في المرحلة القادمة".
"في تقديري أن الولايات المتحدة تميل للتوازن واقتسام السلطة ومشاركة العسكريين باعتبار أن مصالحها متأرجحة ما بين النظام العسكري السابق، وبين قبول العسكريين للتطبيع في الفترة الانتقالية، والعلاقات العسكرية التي نمت في العامين الماضيين".
إلى أين تتجه التحركات الإقليمية والدولية؟
تشهد السودان حالياً تحركات إقليمية ودولية، وطرح 6 مبادرات دولية وإقليمية ومحلية في مقدمتها المبادرة الأممية برعاية بعثة "يونيتامس"، إضافة لما طرحته "إيغاد"، و"الاتحاد الإفريقي"، و"جوبا"، و"مديرو الجامعات" وحزب "الأمة القومي" لإنهاء الأزمة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي، عبد الله رزق: "لا توجد جهود أمريكية، في الوقت الراهن، وإنما هي جهود أممية، فقد انسحبت أمريكا من مهمة التوسط والتواصل المباشر مع طرفي الأزمة، بمكونيها العسكري والمدني، وتركت المجال للمبعوث الأممي فولكر بيرتس، مكتفية بدعم ما يقوم به من جهود".
ويشير رزق، في حديثه للأناضول، إلى الموقف الذي تبنته واشنطن في بداية الأزمة عندما رفضت "انقلاب 25 أكتوبر"، ودعت إلى العودة للوثيقة الدستورية وعودة حمدوك لموقعه كرئيس وزراء انتقالي بكامل صلاحياته، ومطالبتها بإطلاق سراح المعتقلين ورفع حالة الطوارئ.
"ثم رحبت أمريكا وحلفاؤها بعودة حمدوك لموقعه الدستوري والإفراج عن المعتقلين من الدستوريين، وقد عدت الاتفاق (21 نوفمبر/تشرين الثاني) الذي تم بموجبه عودة حمدوك لموقعه الرسمي خطوة أولي، لكن لم تتلُها أي خطوة إلى أن غادر حمدوك المشهد الرسمي في 2 يناير"، وهو ما يراه رزق "مؤشراً أولياً على ضعف التأثير الأمريكي، عبر تحرك واشنطن، على حالة الأزمة، إذ لم تؤثر التهديدات على موقف العسكر، وفي ذات الوقت بدأ التردد ظاهراً في اتجاه واشنطن نحو فرض أي عقوبات على معرقلي الانتقال الديمقراطي".
"تردد أن خلافاً وقع بين المبعوث الأمريكي للسودان وإثيوبيا، جيفري فيلتمان، من جهة، ومساعدة وزير الخارجية الأمريكية، مولي في، بشأن العقوبات، ويبدو أن استقالة فيلتمان المؤيد لفرض العقوبات، ليخلي الموقع لخلفه ديفيد ساترفيلد، متصلة بمصائر المساعي الأمريكية ووصولها لطريق مسدود".
"منذ اتفاق 21 نوفمبر، بدا أن تحولاً حدث في الموقف الأمريكي، وموقف حلفائها، باتجاه التعامل مع الانقلاب كأمر واقع، والتخلي عملياً عن شعار العودة للمسار الشرعي للانتقال بقيادة مدنية".
"واشنطن تركت للمبعوث الأممي عقب هذا الاتفاق مهمة إيجاد قواسم مشتركة بين طرفي الصراع في البلاد، وهو اتجاه يتصادم مع تبني كافة قوى الثورة لخط رافض للتفاوض مع المكون العسكري والحوار معه أو إعطائه أي شرعية".
ويوضح رزق أن أمريكا وحلفاءها بالمنطقة يميلون لترتيب الأوضاع بما يتسق مع مصالحهم، ويتردد بصورة واسعة أن دولاً من بينها إسرائيل ومصر والإمارات، معنية بشكل كبير بالوضع في السودان، وتمارس تأثيراً على مجرى الأحداث فيه، وتدعم، بشكل خاص، البرهان، وبقائه على رأس السلطة خلال الفترة الانتقالية".
قلق أمريكي من الفوضى
أما الكاتب والمحلل السياسي، الجميل الفاضل، فيرى أن "الولايات المتحدة ربما يفترسها هاجس الخوف من نتائج أية تحولات راديكالية تخرج من رحم الثورات الشعبية لا تعرف هي عواقبها ويصعب عليها السيطرة والتحكم في مآلاتها النهائية من واقع تجربتها مع الثورة الإيرانية التي أطاحت بعرش الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979".
ويقول الفاضل في حديثه للأناضول: "أتصور الآن أن واشنطن تسعى بشتى الحيل للبحث عن مفتاح يغلق جريان وتدفق سيول الشارع الثوري السوداني توطئة لإنتاج معادلة جديدة من شأنها أن تمتص حالة الغضب والفوران الشعبي".
ويعتقد المحلل السياسي السوداني أن "الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة يريدون معادلة تضمن لهم استمرار مصالحهم في السودان، وتُنهي حالة الضغوط الداخلية التي تواجه إدارة الرئيس جو بايدن من قبل الكونغرس الأمريكي".
"إن نوع الحلول التي تهيئ لها واشنطن الآن من خلال مبادرة الأمم المتحدة أو باتصالاتها المباشرة مع لجان المقاومة وأسر الشهداء والأحزاب وتجمع المهنيين كلها تندرج في سياق البحث عن مفتاح للأزمة على مقاس هذه المصالح. لكن يظل هذا البحث عن المفتاح كالبحث عن إبرة صغيرة في كوم قش هائل".