ترجع قصة جهاز كشف الكذب إلى ما يزيد على ألف سنة قبل الميلاد، فكيف تطورت تلك الأجهزة وصولاً إلى زمن الذكاء الاصطناعي؟ وهل كشف الكذب موهبة خاصة يتمتع بها بعض البشر؟
وعلى الرغم من أن البداية الفعلية لكيفية استخدام طرق متنوعة أو وسائل خاصة بغرض الكشف عن الكذب أو الكاذبين ليست معلومة بشكل دقيق، فإن بعض الروايات يرجع ذلك إلى ما يزيد على ألف عام قبل الميلاد، وبالتحديد في الصين.
وبحسب تلك الرواية، كان يتم وضع حبوب الأرز الجافة في فم الشخص المشتبه فيه، أي شخص متهم بجريمة لكنه ينكرها على سبيل المثال، وبعد مدة زمنية قصيرة يتم فحص حبات الأرز فإذا ظلت جافة يكون الشخص مذنباً أو كاذباً. والنظرية التي وقفت خلف تلك التجربة تقول إن الشخص عندما يكذب يشعر بالخوف أو القلق وهو ما يؤدي إلى جفاف حلقه ولا يسيل فيه اللعاب بشكل طبيعي.
متى ظهر أول جهاز لكشف الكذب؟
جاءت بداية جهاز كشف الكذب عام 1921 على يد جون لارسون الشرطي في كاليفورنيا والذي درس علم النفس أيضاً، واخترع البوليغراف بغرض الكشف عن حقيقة ما يقوله المتهمون في بعض الجرائم.
لكن قبل ذلك بسبع سنوات، أي عام 1914، كان عالم النفس الإيطالي فيتوريو بينوسي قد نشر نتائج أبحاث أجراها على الأعراض التنفسية للأكاذيب، أي ما ينتج عن الكذب في الجهاز التنفسي للشخص. وفي عام 1915 اخترع وليام مارستون عالم النفس الأمريكي أداة لقياس ضغط الدم وتأثيره في الكشف عن الكذب.
وفي ذلك الوقت بدأ استخدام أول جهاز للكشف عن الكذب أو "البوليغراف"، وكان النموذج الأول من تلك الأجهزة هو "البوليغراف التماثلي"، الذي كان يحتوي في العادة على ثلاث أو أربع إبر مملوءة بالحبر تتراقص فوق قطعة من الورق المتحرك.
ويتم توصيل مجسات خاصة بأصابع وذراعي وجسم الشخص المشتبه بأنه يكذب أو الذي يخضع للاختبار، ثم تقوم الآلة بقياس معدل تنفسه ونبضه وضغط دمه وترشح العرق من جسده، بينما يقوم بالإجابة عن عدد من الأسئلة.
لكن كانت هناك ولا تزال شكوك وعلامات استفهام كبيرة حول دقة تلك الآلات، وما إذا كان من الممكن خداعها، وهو ما جعل تلك المساحة مجالاً خصباً للباحثين وشركات التكنولوجيا في مختلف أنحاء العالم، للبحث عن تطوير نظم متقدمة لكشف الكذب. وقد بدأت الصين في تطبيق تقنيات الكشف عن المشاعر على نطاق واسع بالفعل.
كما أن قانونية استخدام أجهزة كشف الكذب، وعلى الرغم من اختلاف درجاتها وآلياتها حول العالم، إلا أنها لا تزال -بمفردها- غير معترف بها كأدلة إدانة أو تبرئة في القضايا الجنائية بشكل عام.
ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، تستخدم الهيئة المشرفة على إطلاق سراح السجناء مع وضعهم تحت المراقبة البوليغراف منذ عام 2014 لإجراء اختبارات للمدانين بارتكاب جرائم جنسية. كما يتم حالياً تجربة استخدام الجهاز مع مرتكبي جرائم عنف أسري.
ولكن لا يمكن استخدام نتائج البوليغراف في القضايا الجنائية في الأنظمة القضائية الثلاثة بالمملكة المتحدة: النظام القضائي لإنجلترا وويلز، النظام القضائي الاسكتلندي، والنظام القضائي لأيرلندا الشمالية. وفي الوقت ذاته، من المسموح لأرباب العمل في البلاد عرض استخدام اختبار كشف الكذب على الموظفين، لكن يجب أن يكون اختيارياً لا إجبارياً.
وفي أمريكا، تختلف القواعد من ولاية لأخرى، كما أن القانون الفيدرالي الذي يطبق على عموم الولايات المتحدة يمثل تعقيداً إضافياً. على سبيل المثال، تسمح ولاية كاليفورنيا باختبار كشف الكذب في القضايا الجنائية على مستوى الولاية إذا ما وافق كلا الطرفين، ولكن في ولاية نيويورك، لا يسمح باستخدامه تحت أي ظرف من الظروف.
كما أن الشرطة الأمريكية ليس باستطاعتها اشتراط إجراء اختبار على شخص مشتبه به أو شخص تم اعتقاله. وفي الوقت ذاته، يحظر قانون حماية الموظفين من اختبارات البوليغراف على الشركات اختبار المتقدمين لشغل وظائف.
تطور أجهزة الكشف عن الكذب والكذابين
ورصد تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC التطور الذي طرأ على أجهزة كشف الكذب، بالتزامن مع التقدم التكنولوجي الهائل الذي تعيشه البشرية في السنوات الأخيرة.
ففي جامعة إيراسموس بمدينة روتردام الهولندية، يستخدم الدكتور سيباستشيان سبيير وفريقه جهازاً للتصوير بالرنين المغناطيسي "إم.آر.آي" لمعرفة ما إذا كان شخص ما يكذب أو يغش. يفعلون ذلك من خلال رصد تغير الألوان في فحص الدماغ عند إجابة ذلك الشخص عن عدد من الأسئلة.
وقال الدكتور سبير للبي بي سي: "ما يحدث هو أننا نرى مناطق مختلفة في الدماغ تنشط عندما يقرر الشخص أن يكذب أو يقول الحقيقة".
ويوجد أيضاً نظام عالي التقنية لكشف الكذب تستخدمه بالفعل شركة كونفيراس " Coverus" بولاية يوتا الأمريكية، أطلقت عليه اسم "آي ديتيكت" (EyeDetect).
يُطلَب من شخص الإجابة عن عدد من الأسئلة بنعم أم لا، أو صحيح أم خطأ. وبينما يفعل، يقوم برنامج حاسب آلي بتتبع حركة عينيه ودراسة ردود فعله. وتعطَى النتيجة في غضون خمس دقائق، وتزعم الشركة أنها دقيقة بنسبة 86-88%.
وتقول شركة Converus (وهي كلمة لاتينية تعني "حقيقة") إن "آي ديتيكت" يستخدمه حالياً أكثر من 600 عميل في 50 دولة من دول العالم، بما في ذلك أكثر من 65 من وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة، وحوالي 100 في مختلف أنحاء العالم.
ويقول تود ميكيلسين، المدير التنفيذي للشركة، إن الاختبار يستخدم من قبل السلطات والشركات في العديد من الحالات: "تشمل هذه الحالات الجرائم التي من الممكن أن يكون الشخص قد ارتكبها في السابق، تعاطي المخدرات في الماضي والحاضر، التعرض لإجراءات عقابية لم يتم الإفصاح عنها، الكذب في استمارة التقدم لوظيفة، أو علاقات بجماعات إرهابية".
كما أن الشرطة تستطيع استخدام "آي ديتيكت" لطرح أسئلة بعينها حول جريمة ما. لكن كريستوفر برجيس، الضابط السابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي. آي. إيه"، يحذر من أنه لا ينبغي النظر إلى أجهزة كشف الكذب على أنها دليل قاطع على إدانة أو براءة المجرمين أو الجواسيس.
وقال برجيس لبي بي سي: "إنها أداة تستخدم في مرحلة الاستجواب خلال التحقيقات. ولكن الأدلة هي التي تكشف الكذابين والمخادعين والملفقين والأوغاد". وأضاف الرجل، الذي يعمل حالياً محللاً أمنياً، أن الأجهزة ليست دقيقة تماماً، ويقول إنه أدين ظلماً في منتصف التسعينيات بسبب نتيجة اختبار خاطئة: "ومع دخول المزيد من نظم كشف الكذب عالية التقنية حيز الاستخدام، لا تزال هناك أسئلة أخلاقية مطروحة".
هل يمكننا كشف الكاذبين؟
مهما اختلفت الثقافات، يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع حول قدرة البشر على كشف الكذب والكاذبين من خلال بعض السلوكيات الظاهرية لهم، لكن مع تقدم العلم وتطور البشرية يتضح أن أغلب تلك المفاهيم خاطئة في حقيقة الأمر.
ماريا هارتويغ، الأخصائية النفسية والباحثة في أساليب الخداع بكلية جون جاي للعدالة الجنائية بجامعة سيتي في نيويورك، ترى أن الناس في مختلف الثقافات يعتقدون أن السلوكيات، مثل تجنب التواصل بالعين والحركات العصبية والتلعثم، تفضح المخادع.
لكن بعد عقود من البحث، لم يعثر الباحثون إلا على القليل من الأدلة التي تؤيد هذا الاعتقاد. وقالت هارتويغ للبي بي سي: "إن إحدى المشاكل التي يواجهها الباحثون في مجال الكذب هي أن جميع الناس يعتقدون أنهم خبراء في كشف الكذب. لكن الأخطاء في كشف الكذب لها تبعات جسيمة على المجتمع والناس الذين يقعون ضحايا للآراء والأحكام الخاطئة".
وقد أدرك علماء النفس مؤخراً مدى صعوبة كشف الكذب، ففي عام 2003 جمعت بيلا ديباولو، الأخصائية النفسية بجامعة كاليفورنيا بسانتا بربرا، وزملاؤها 116 تجربة قارنت بين سلوكيات الناس عندما يصدقون القول وعندما يختلقون الأقاويل.
وقيمت الدراسات 102 من المؤشرات غير اللفظية المحتملة على الكذب، مثل تجنب التواصل بالعين وسرعة رمش العينين وارتفاع نبرة الصوت وهز الكتفين للتعبير عن اللامبالاة أو الجهل وتغيير وضع الرأس واليدين والذراعين والساقين وحركاتها.
واستعرضت ديباولو وتشارلز بوند، الأخصائي النفسي بجامعة تكساس المسيحية، 206 دراسات شارك فيها 24,483 مراقباً لتقييم مدى صحة مراسلات بين 4,435 شخصاً. وتمكن المراقبون من خبراء إنفاذ القانون والطلاب من تمييز التصريحات الصادقة من الكاذبة في 54% فقط من الحالات. وتفاوتت نسبة الدقة في التجارب الفردية بين 31% و73%.
لكن لم يثبت أن أي من هذه السلوكيات كانت مؤشراً دالاً على الكذب، وإن كان القليل منها ارتبط في بعض الحالات بالكذب، مثل اتساع حدقة العين والارتفاع الطفيف جدا، الذي لا تدركه أذن البشر، في نبرة الصوت.
ويقول تيموثي لوك، الأخصائي النفسي بجامعة غوتنبرغ بالسويد، إن هذه النسب المرتفعة التي سجلت في بعض التجارب في كشف الكذب قد يكون مردّها إلى الحظ، وربما لا يوجد أدلة يعول عليها لكشف الكذب.
ويقال عادة إن سلوكيات الشخص أو نبرة صوته يفضحان كذبه وخداعه، لكن عندما بحث العلماء عن الأدلة، لم يجدوا إلا القليل من السلوكيات التي ترتبط بالفعل بالكذب أو الصدق، وحتى السلوكيات التي تشير الإحصاءات أنها كثيراً ما كان يمارسها الكذّابون، لم يعتبرها العلماء مؤشراً دالاً على الكذب.
الخلاصة هنا هي أن الاعتقاد الشائع بقدرتنا كبشر على كشف كذب الأشخاص بمجرد النظر إليهم أو سماع أصواتهم أو مراقبة لغة الجسد وهو يتحدثون قد تكون ميلاً لإصدار الأحكام، إذ لا توجد أدلة تؤيد مثل هذه النظريات الشائعة.