يعتقد أغلب الروس أن الأزمة الحالية في أوكرانيا سببها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وهو ما يشير إلى نجاح الرئيس فلاديمير بوتين في وضع قواعد الاشتباك هذه المرة، عكس نهاية الحرب الباردة.
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن تتزامن الأزمة الأوكرانية، التي تهدد أوروبا والعالم حالياً بحرب لا أحد يمكنه التنبؤ بمسارها أو حتى أطرافها إذا ما اندلعت بالفعل، مع مرور 30 عاماً على سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا دولة أساسية فيه.
فالأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد الرئيس الروسي، أن يُرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، ولأن موسكو لا تثق بقدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً.
ما علاقة أوكرانيا بنهاية الحرب الباردة؟
كانت أوكرانيا عضواً مؤسساً مع روسيا وروسيا البيضاء في الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت مقراً لثلث الأسلحة النووية السوفييتية وقوة كبيرة في حلف وارسو (الحلف العسكري الشرقي). وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمَّة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
ويرى كثير من المحللين أن جذور الأزمة الحالية في أوكرانيا تكمن في الكيفية التي انتهت بها الحرب الباردة وما خلفته في نفوس الأمريكيين من جهة والروس من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن تلك الحرب انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، فإن الروس لا يرون أن ذلك يعني هزيمتهم وانتصار الأمريكيين.
لكن على الجانب الآخر، يتصرف الأمريكيون كما لو أنهم حققوا الانتصار في الحرب الباردة وينتظرون من الروس أن يتصرفوا كما يتصرف المهزومون، ويدلل على ذلك الكيفية التي توسع بها حلف الناتو في أوروبا الشرقية، عكس ما كان يُفترض أن يحدث طبقاً لوعد قدمته الولايات المتحدة لروسيا قبل ثلاثة عقود.
إذ ينص الميثاق التأسيسي لحلف الناتو على أن أهداف الحلف واستراتيجيته العسكرية تنطلقان بالأساس من مبدأ "الدفاع عن النفس". وجاء في المادة الـج10 من ميثاق الحلف: "يجوز للأطراف، بالاتفاق بالإجماع، دعوة أي دولة أوروبية أخرى في وضع يمكنها من تعزيز مبادئ هذه المعاهدة والمساهمة في أمن منطقة شمال الأطلنطي، للانضمام إلى هذه المعاهدة".
لكن العقود الثلاثة الماضية شهدت تطورين مهمين للغاية في هذه القصة: التطور الأول هو أنّ حلف الناتو بدأ في ضم أعضاء جدد حتى ارتفع العدد من 16 دولة إلى 30، وانضمت دول من الكتلة الشرقية أو الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى عضوية الحلف العسكري الغربي، ليتمدد الحلف بنحو 965 كم أقرب نحو الحدود الروسية، رغم الوعد الأمريكي بعدم التوسع شرقاً بوصة واحدة.
أما التطور الثاني فهو سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي الجديد وليس فقط على حلف الناتو، وفي المقابل حاولت روسيا بقيادة بوتين، خلال العقدين الماضيين، استعادة بعض من قوة ونفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، لتصبح أوكرانيا ساحة إثبات الذات الأخيرة لروسيا وبوتين، خصوصاً بعد الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش الموالي لبوتين عام 2014.
وتعتبر أحداث عام 2014 بداية الأزمة الأوكرانية، أو بمعنى أكثر تحديداً بداية العودة لأجواء الحرب الباردة من جانب الرئيس الروسي بوتين، لأنه اعتبر الإطاحة بيانوكوفيتش (الرئيس الأوكراني) هزيمة سياسية شخصية في معركته للاستحواذ على النفوذ في أوكرانيا، وهو ما غيّر معادلة التصرفات الروسية منذ ذلك الوقت.
الانتصار الروسي في القرم
ويرى بوتين أن الغرب ساعد مسلحين وسمح لهم بتوجيه الأحداث في العاصمة الأوكرانية كييف في ذلك الوقت، وهو ما أدى إلى الإطاحة بالرئيس المنتخب، وحمل بوتين الغرب مسؤولية تهييج المشاعر في كييف وتشجيع المعارضة على خرق الاتفاقات الرامية لاستعادة السلام والسماح لمن تصفهم موسكو بأنهم "متطرفون" و"فاشيون" بإملاء التطورات السياسية في أوكرانيا.
ومن هذا المنطلق، قرر بوتين إرسال الجيش الروسي إلى أوكرانيا، تحت ذريعة حماية مصالح وطنية روسية ومصالح مواطنين روس، ومن المهم هنا ذكر أن روسيا في ذلك الوقت حشدت أكثر من 150 ألف جندي ووضعتهم في حالة في حالة تأهب قرب حدود أوكرانيا، بينما تتحدث التقارير الغربية عن عدد أقل من القوات الروسية حالياً على تلك الحدود.
وبالعودة إلى تسلسل الأحداث في تلك الأزمة والتي انتهت بضم روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، نجد أن بوتين ظل ملتزماً الصمت فيما يتعلق بأوكرانيا عندما تمت الإطاحة بالرئيس يانكوفيتش، ودفع ذلك الصمت وقتها التكهنات بشأن غزو روسي وشيك لأوكرانيا لتصدر التوقعات، وسط تهديدات أمريكية- من جانب الرئيس الأسبق باراك أوباما- بفرض عقوبات على روسيا إذا ما أقدمت على غزو أوكرانيا فعلاً.
وقتها بنى بوتين حساباته على أساس أن أوباما ليس لديه أدوات ضغط تذكر وليس مستعداً لخوض حرب بسبب شبه جزيرة نائية في البحر الأسود لها أهمية رمزية واستراتيجية لروسيا لأنها تضم قاعدة بحرية روسية وليس لها قيمة اقتصادية تذكر
ووقتها أيضاً تحدث الرئيسان بوتين وأوباما لمدة 90 دقيقة عبر الهاتف، وبدا أن تلك المكالمة كسرت بعضاً من الجمود، وكان بوتين وقتها يريد الخروج بأي شيء من معركة أوكرانيا، لكن "الغرب قال لبوتين أن يغرب عن وجهه فيما يتعلق بأوكرانيا"، بحسب ما قاله لرويترز سيرجي ماركوف المحلل السياسي المؤيد لبوتين ومدير معهد الدراسات السياسية في موسكو.
وقتها حقق بوتين شعبية ضخمة بين الناخبين وخاصة القوميين الروس، خصوصاً أن القرم كانت أرضاً روسية تنازل عنها الزعيم السوفييتي الراحل نيكيتا خروشوف عام 1954 لأوكرانيا.
وارتفعت مكانة بوتين في الداخل الروسي في ظل موجة من الاستياء بين القوميين بسبب محاولات للحد من استخدام اللغة الروسية في أوكرانيا واضطهاد الروس في بلد يرى كثيرون أنه يمثل امتداداً لبلدهم.
كيف يرى الروس الأزمة الحالية بعيون بوتين؟
في لقطات تذكّر بما كان يحدث أيام الحرب الباردة، ينقل التليفزيون الرسمي في روسيا لقطات من ميدان في كييف عاصمة أوكرانيا لمواطنين يقومون بتدمير تمثال يرجع تاريخه إلى الحقبة السوفييتية، بينما يعلق المذيعون والمذيعات على ذلك بالقول إن كل ما له علاقة بالحقبة السوفييتية يتم تدنيسه في أوكرانيا.
وما أشبه اليوم بالأمس، إذ كان التليفزيون الروسي يبث عام 2014 لقطات من الدوما (البرلمان) يتهم فيها متحدثون واشنطن بتجاوز خط أحمر بتحذيرها من أن موسكو ستدفع "ثمن" تدخلها في أوكرانيا، ولقطات متتالية للمحتجين المؤيدين للروس يرفعون العلم الروسي فوق مبان إدارية في عدة مناطق بشرق أوكرانيا.
وتهدف هذه المواد الإعلامية إلى تأجيج المشاعر الوطنية بين الروس وتهيئتهم كي يروا الأزمة بعيون الرئيس بوتين. ويبدو أن تلك الاستراتيجية ناجحة إلى حد كبير حتى الآن، إذ يعتقد غالبية الروس أن بوتين محق في موقفه من أوكرانيا وحلف الناتو والغرب بشكل عام، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
وليس واضحاً إذا ما كان هذا التأييد لوجهة نظر بوتين للأزمة الأوكرانية يعني بالضرورة تأييداً لخيار الحرب أو بمعنى أدق الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن المؤكد أن تمتع بوتين بالدعم الشعبي يقوي موقفه في مواجهة الغرب.
وعلى الرغم من تكرار التصريحات الغربية والأمريكية بأن الغزو الروسي لأوكرانيا على وشك أن يبدأ بالفعل، لا يزال الجانب الروسي مصمماً على نفي وجود أية نوايا لشن الحرب في أوكرانيا، ويتهم الكرملين الغرب بالتسبب في الأزمة من الأساس من خلال تجاهل المطالب الأمنية الروسية.
إذ قال بوتين، الجمعة، إن الولايات المتحدة وحلف الناتو لم يتجاوبا مع المطالب الأمنية الرئيسية لروسيا في المواجهة حول أوكرانيا، لكنه أبدى الاستعداد لمواصلة الحوار. كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، لمحطات إذاعة روسية: "إذا كان الأمر متوقفاً على روسيا فلن تكون هناك أي حرب. لا نريد حروباً. لكننا لن نسمح أيضاً لأحد بأن يدوس على مصالحنا بفظاظة أو يتجاهلها".
الخلاصة هنا أن غالبية الروس، من وجهة نظرهم، يرون الأزمة الأوكرانية بعيون الرئيس بوتين، الذي بدوره يراها فرصة سانحة لإعادة صياغة نهاية الحرب الباردة والتأكيد على أن روسيا ليست دولة مهزومة كي تخضع لإرادة الولايات المتحدة كطرف منتصر، ولا يعني هذا بالضرورة حتمية إقدام روسيا على غزو أوكرانيا.