تبدو علاقة تركيا بالأزمة الأوكرانية معقدة، فهي قد تمثل فرصة لأنقرة للقيام بالوساطة بين موسكو وكييف، وأن تعزز أهميتها لأمريكا وأوروبا وحلف الناتو، ولكن تركيا قد تتأثر سلباً أيضاً بالتوتر الغربي الروسي، خاصة إذا تصاعد لمرحلة خطيرة.
وجدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأربعاء 26 يناير/كانون الثاني 2022، اقتراحه لعقد بلاده وساطة بين روسيا وأوكرانيا.
هذا ما ستفعله تركيا في حال غزو روسيا لأوكرانيا
واعتبر أردوغان، أنه من "الحماقة" أن تهاجم روسيا أوكرانيا، مشيراً إلى أن بلاده في تلك الحالة ستقوم بما يلزم باعتبارها عضواً بحلف شمال الأطلسي.
أردوغان قال في مقابلة مع محطة "إن.تي.في" التلفزيونية، إنه دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، في إطار اقتراح لاستضافة الجانبين لاعتماد طريق الدبلوماسية والسلام، مشيراً إلى أنه يتوقع رداً من موسكو. وأضاف أردوغان أن هناك حاجة لحوار شامل يعالج بعض مخاوف روسيا الأمنية، مع إشارته إلى أن بعض مطالب موسكو "غير مقبولة"، مشيراً إلى أن كلاً من روسيا وأوكرانيا تدرك صدق تركيا وحسن نيتها.
وأضاف أردوغان أن الأزمة يجب أن تحل "مع تجنب استخدام القوة… نأمل أن تنجح مبادرة حلف شمال الأطلسي في هذا الصدد".
فيما كشف أردوغان عن زيارة مرتقبة لترميا يجريها رئيس أوكرانيا زيلينسكي، في أوائل فبراير/شباط؛ لمناقشة الأزمة وسيجتمع أو يتصل ببوتين قريباً.
ويشار إلى أن تركيا عرضت الوساطة بالأزمة لأول مرة في نوفمبر/تشرين الثاني، وقالت مصادر دبلوماسية، الأسبوع الماضي، إن كلاً من روسيا وأوكرانيا منفتحة على أن تلعب تركيا دوراً في حل الأزمة.
وتتمتع أنقرة بعلاقات جيدة مع كل من كييف وموسكو، لكنها تعارض السياسات الروسية في سوريا وليبيا، فضلاً عن ضمّها شبه جزيرة القرم في 2014. وباعت تركيا أيضاً طائرات مسيرة متطورة لأوكرانيا، مما أثار غضب موسكو.
الأزمة الأوكرانية تسلط الضوء على أهمية تركيا لأوروبا وأمريكا
منذ بداية العصور الحديثة، كان هناك أربعة خصوم رئيسيين لموسكو في أوروبا الشرقية، هم: أوكرانيا المفتتة التي كان القوةَ الرئيسية المحلية فيها الفرسانُ القوزاق المتمردون المتقلبو الولاء؛ وبولندا التي تسيطر على أراضي أوكرانيا الخصبة التي سرعان ما ابتلعها روسيا وتقاسمتها مع النمسا وبروسيا سليلة ألمانيا؛ والسويد التي تمنع عن موسكو الوصول لبحر البلطيق؛ والدولة العثمانية التي تحكم القسطنطينية معقل الأرثوذكسية السابق، وقد تحالفت الدولة العثمانية مع السويد في واقعة شهيرة قد تنتهي بأسر مؤسس روسيا الحديثة بطرس الأكبر.
خلق هذا الواقع الجغرافي والديناميكية التاريخية مواقف مختلفة من روسيا في أوروبا، هناك حلقة من الدول التي ترى في روسيا الخطر الأكبر، وهي دول البطليق الثلاث، وبولندا وأوكرانيا، إضافة إلى فنلندا والسويد، بينما دول جنوب شرقي أوروبا مثل بلغاريا وصربيا واليونان وبصورة أقلَّ رومانيا، ترى في روسيا حليفاً ضد العثمانيين.
في المقابل، كانت ألمانيا والنمسا تريان في روسيا منافساً، وكانت ألمانيا- خاصة بعد وحدتها عام 1870- ترى في تركيا حليفاً، بينما النمسا كانت تراها منافساً حتى لو تحالفتا في الحرب العالمية الأولى تحت المظلة الألمانية.
لماذا تجاهلت أوروبا الغربية الخطر الروسي واختلقت أزمات مع أنقرة؟
وشهدت السنوات الماضية تصعيداً من قبل بعض أوروبا الغربية الشمالية بقيادة ألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا، تجاه تركيا التي تؤكد إيمانها بقيم أوروبا وتريد الانضمام إلى الااتحاد الأوروبي وعلى الأقل إقامة علاقات وثيقة معه، ولكن باحترام وندية.
وقللت هذه الدول في الوقت ذاته من خطر روسيا، التي يجاهر رئيسها بعدائه للاتحاد الأوروبي؛ بل اتهمته تقارير أوروبية رسمية بتحريض البريطانيين على التصويت للانفصال عن الاتحاد الأوروبي في استفتاء البريكست بهدف تفكيك الاتحاد برمته.
ويمكن تفسير ذلك- إضافة إلى العوامل الاقتصادية وبالأخص الطاقة التي تربط ألمانيا تحديداً بروسيا، بأن اليمين المحافظ والمتطرف في ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية مُعجب ببوتين باعتباره زعيماً مسيحياً أبيض، في وقت تتركز فيها المشاعر السلبية لهذا اليمين (بطيفيه المحافظ والمتطرف) تجاه المسلمين لاسيما الأتراك، حيث يغضب اليمين الألماني والأوروبي من اعتزاز المهاجرين منهم بهويتهم داخل ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي ومن سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستقلالية، وهو موقف مشابه لليمين الفرنسي وتوجهات الرئيس ماكرون الذي يفضّل التقليل من الخطر الروسي الواضح على أوروبا وتحويل دفة العداء تجاه الإسلام أو الإسلام السياسي وتركيا.
كما أن اليسار والليبراليين في ألمانيا خلقا حالة من العداء المفتعل ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ لرفضه الوصاية الأوروبية على بلاده وسياسته المحافظة اجتماعياً، في ظل الليبرالية المتطرفة التي تتصاعد في ألمانيا والعديد من دول شمال أوروبا، والتي لم تعد تتسامح مع أية أفكار رافضة للتحرر في قضايا مثل الشذوذ وغيرها، والنتيجة أن هذا اليسار قد لا يكون معجباً ببوتين، ولكن الغريب أنه يساوي بين أردوغان، الرئيس الذي قد يكون قوياً ولكنه في النهاية رئيس منتخب فقد حزبُه، وهو في ذروة قوته، السلطة المحلية في أنقرة وإسطنبول، وبوتين الذي يفاخر بالعداء للديمقراطية والسخرية منها.
كما أن ألمانيا (وكذلك فرنسا وهولندا والنمسا) لا تشعر بخطر داهم من روسيا، فهذه البلدان الثرية والمسيطرة على سياسات الاتحاد الأوروبي تتعامل مع دول شرق أوروبا مثل أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق كمنطقة عازلة تفصلها عن الدب الروسي، إضافة إلى أن تكلفة مزيد من الانخراط في التوتر مع روسيا تعني زيادة الميزانية الدفاعية لألمانيا تحديداً، وهو ما قد يهدد الرخاء الاقتصادي الاستثنائي الذي تتمتع به البلاد حالياً، فيما ترى فرنسا أن دورها العسكري مركز في العالم العربي وإفريقيا والبحر المتوسط وليس في أوروبا الشرقية.
نتيجة هذه السياسات التي شجعتها أمريكا وقادتها ألمانيا وفرنسا وبصورة أقلَّ النمسا وهولندا، فإن الاتحاد الأوروبي كان رد فعله ضعيفاً تجاه ضم روسيا للقرم عام 2014.
في المقابل زادت الشُّقة بين الاتحاد الأوروبي والناتو من جهة وتركيا من جهة أخرى، خاصة بعد تخلي الناتو عن دعم أنقرة عندما أرسلت روسيا قواتها إلى سوريا وتوغلت طائراتها في الأجواء التركية؛ بل سحبت الدول الرئيسية في الناتو أنظمة باتريوت التي كانت تحمي الأجواء التركية، ووصلت العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى ذورة التوتر عندما أسقطت تركيا طائرة روسية اخترقت أجواءها في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بينما كان الناتو والدول الأوروبية يتعاملون مع الأمر باعتبارهم أطرافاً محايدة.
لم يجعل ما سبق تركيا تتقارب مع روسيا فقط، ليقتسم البلدان النفوذ في ساحات مثل القوقاز وسوريا وليبيا، ولكن أيضاً فوَّتت أوروبا فرصة كبيرة على نفسها لتقوية تركيا باعتبارها منافساً تاريخياً لموسكو، منافساً لديه أسبابه للتصدي للنفوذ الروسي ويمتلك جيشاً قوياً وأيديولوجيا قومية ودينية منافسة لنموذج موسكو، والأهم أنه يمتلك مفاتيح البحر الأسود الذي يمثل أهمية حيوية لموسكو.
دول أوروبا الشرقية تريد التحالف مع تركيا
في مقابل هذا التجاهل الأوروبي الغربي للخطر الروس، وافتعال أزمات أبعدت تركيا، تتعامل دول شرق أوروبا- لاسيما بولندا ودول البطليق- مع الخطط الروسية بقلق شديد.
ويظهر الاختلاف بين دول أوروبا الشرقية والغربية جلياً في الموقف من تركيا، فبينما تتعامل القوى السياسية والإعلامية مع أنقرة باعتبارها خصماً في كثير من الأحيان، فإن دول أوروبا الشرقية تعتبرها حليفاً مرجحاً، وشددت أوكرانيا مراراً على دور تركيا في دعمها؛ بل إنها لم تخجل من الإشارة إلى العلاقة والمسؤولية التركية تجاه تتار القرم المسلمين، لأن خانيتهم تابعة للدولة العثمانية.
علاقة تركيا بالأزمة الأوكرانية مختلفة عن أغلب الدول
في أوكرانيا، قبل الأزمة الأخيرة، كان لتركيا دور كبير في هذا البلد الأوروبي الذي يقع على حدود روسيا، ولكن بطريقة مختلفة.
فلقد حافظت أنقرة على توازن دقيق بين البلدين، فمن ناحية لم تنضم تركيا إلى العقوبات الغربية على روسيا بعد ضمها للقرم خلال الأزمة الأوكرانية عام 2014، بل العكس وثقت علاقاتها العسكرية مع موسكو عبر شراء نظام إس-400 المضاد للطائرات والصواريخ، إضافة إلى توثيق العلاقات الاقتصادية.
ولكن في المقابل، عكس كل الدول الغربية التي حرّضت أوكرانيا على روسيا ثم تركتها فريسة لها، كانت أنقرة إحدى دول الناتو القليلة التي قدمت دعماً على الأرض لأوكرانيا، عبر التعاون معها في المجال العسكري.
وأبرز نموذج على ذلك تصدير أنقرة طائراتها الشهيرة "بيرقدار" إلى كييف، بل هناك حديث عن تجميع أوكرانيا لها، بينما ترسل ألمانيا، كبرى الدول الأوروبية، معدات طبية وخوذات لكييف بشكل جعل المسؤولين الأوكرانيين يصفون الأمر بالمزحة الثقيلة.
وهناك تعاون بين أنقرة وكييف في مجالات عسكرية يصل إلى درجة شراكة استراتيجية، شملت بحث التعاون في مجالات تصنيع صواريخ كروز والسفن الحربية ومحركات الطائرات، كما أن هناك حديثاً عن تصنيع مزمع من قِبل أوكرانيا للطائرات التركية المسيرة، علماً بأن بعض الطائرات المسيرة التركية تعتمد على محركات أوكرانية.
وعلى المنوال نفسه سارت بولندا، وتعاقدت على شراء طائرات مسيَّرة تركية، لتصبح أول عميل من الناتو لها، وتفكر لاتفيا في الاقتداء ببولندا.
ويعتقد الخبير الجيوسياسي البولندي ويتولد ريبيتوفيتش، أن "اللوبي التركي" في بولندا، الذي له تأثير قوي على الحكومة، قرر ضرورة إبرام تحالف بولندي تركي.
هل تقترب أوكرانيا أكثر من أنقرة؟
تفتح الأزمة الأوكرانية باباً لتغيير ديناميات العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فلقد أثبتت الأزمة أن روسيا هي الخطر الأكبر للغرب.
ومن هنا تأتي أهمية تركيا التي تظل منافساً تاريخياً لروسيا، حتى لو أن البلدين ينسقان في مجالات عدة، وحتى لو كان هناك فارق هائل بين قدرات أنقرة وموسكو العسكرية والاقتصادية.
فإضافة إلى أهمية تركيا البالغة عبر سيطرتها على الممرات الملاحية الوحيدة المؤدية إلى البحر الأسود الذي تتشارك سواحله مع روسيا وأوكرانيا وعدد من دول الناتو الأخرى.
فإن تركيا تظل صاحبة أكبر جيش بري في الناتو بعد الولايات المتحدة نفسها، كما أنها إحدى الدول القليلة التي أسهمت في دعم أوكرانيا عسكرياً كما سبق الإشارة، ويحتمل أن يتوسع التعاون بين البلدين إلى مجال محركات الطائرات، حيث اشترت الشركات التركية نحو ربع أسهم الشركة المصنعة للمحركات الأوكرانية Motor Sich، إلى جانب الشروط المتعلقة بنقل المعرفة.
وقد يتطور التعاون بين البلدين إلى تزويد أوكرانيا أنقرة بتكنولوجيا المحركات اللازمة لمشروع الطائرة التركية الوطنية من الجيل الخامس، بل قد تتشارك كييف مع تركيا في هذا المشروع، وهذا ميزته أنه يوفر دعماً مالياً وعسكرياً لأوكرانيا، ويبعد الصين كذلك عن محاولاتها للتوغل في قطاع تصنيع الطائرات ومحركاتها الأوكراني، وهو الأمر الذي يقلق الغرب ودفع كييف إلى وقف استحواذ صيني على شركة تكنولوجيا عسكرية أوكرانية.
هل تتحسن علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي وأمريكا بسبب الأزمة الحالية؟
يبدو أن إدارة بايدن بدأت تغير سياستها تجاه تركيا، لهذه الأسباب، فبعد أن صدر عن بايدن خطاب عدائي تجاه أردوغان خلال حملته الانتخابية، لم تكد العلاقات التركية الأمريكية تشهد في عهده أي توتر، بل إنه عندما أعلن اعتباره ما حدث للأرمن في نهاية العهد العثماني إبادة جماعية، سارع إلى الاتصال بأردوغان بعدها، مؤكداً له أن هذا لا يعني موقفاً تجاه تركيا.
كما بدأ البلدان يتفاوضان على شراء أنقرة نحو 40 طائرة "إف 16" أمريكية وتحديث 80 آخرين من الأسطول الموجود لدى تركيا وذلك بدلاً من طائرات إف 35 التي كانت أنقرة تعاقدت عليها، ودفعت جزءاً من ثمنها ولكن لم تحصل عليها بعد إخراجها من برنامج الطائرة، بسبب صفقة صواريخ إس 400 الروسية الصنع.
كما كان لافتاً ما ورد عن إبلاغ الإدارة الأمريكية اليونان وإسرائيل تخليها عن دعم خط أنابيب غاز شرق المتوسط، لأنه غير ذي جدوى اقتصادية وسوف يُغضب تركيا. في المقابل، قال الرئيس التركي في حديث للصحفيين مؤخراً، إن تركيا مهتمة "باستئناف المحادثات مع إسرائيل بشأن نقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا"، وهو توجه يأتي في ظل مساعٍ أمريكية لإيجاد بدائل سريعة للغاز الروسي لأوروبا.
وهذا مؤشر على أن واشنطن بدأت تغير توجهاتها في السنوات الماضية بدلاً من التساوق مع الموقف الأوروبي- لاسيما الفرنسي- بالاصطفاف إلى جانب اليونان ضد أنقرة، لأن حقائق الجغرافيا والقدرات العسكرية والاقتصادية تجعل تركيا أكثر أهمية من اليونان بعد أن أصبحت المواجهة مع روسيا هي التي ترسم خرائط العمل السياسي.
يؤشر كل ذلك على أن التوجهات العدائية الأوروبية تجاه تركيا ستتراجع في ظل صعود شبح الخطر الروسي حتى لو مرت الأزمة الأوكرانية بسلام.
هل تتورط تركيا في مواجهة مع روسيا من أجل الغرب؟
ولكن لا يعني ذلك أن تركيا سوف تستجيب لرغبات الغرب في أن تعادي روسيا التي نسجت معها علاقات متشابكة ومعقدة- ولكن قوية- في ساحات عدة ممتدة من آسيا الوسطى مروراً بأفغانستان والقوقاز، وسوريا وصولاً إلى ليبيا وأوكرانيا، وضمن ذلك علاقات اقتصادية وثيقة وحتى مشتريات عسكرية مثل إس-400، إضافة إلى الحديث عن احتمال شراء أنقرة مفاعلات نووية من روسيا.
فإحدى مشكلات مثلث العلاقات التركية الروسية الغربية أن الغرب يحرّم على أنقرة ما يحلله لنفسه.
إذ يتهم ساسة وإعلاميون في الغرب أردوغان بالتحالف مع بوتين، وينتقدون أي تنسيق تركي روسي، في الوقت الذي ترك فيه الغرب والناتو أنقرة وحدها- كما سبق الإشارة- في الأزمة السورية أمام روسيا رغم أن الدعم التركي للثورة السورية التي جاءت موسكو لسحقها تم بتنسيق كامل مع الغرب ودول الخليج.
كما أن انتقادات التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي التركي مع روسيا تبدو غير متسقة مع العلاقة الاقتصادية والسياسية الوثيقة التي تربط ألمانيا بروسيا والتي تتبدى واضحة في خط غاز السيل الشمالي، والتحالف الفرنسي الروسي الداعم لأمير الحرب الليبي خليفة حفتر رغم أنه أدى إلى ترسيخ الوجود العسكري الروسي في خاصرة أوروبا الجنوبية ليبيا.
فتركيا تنتهج سياستها الخارجية الخاصة، ومع أن تركيا تنافس روسيا في كثير من الأحيان، فإنها لن تدخل في صراع مع روسيا من أجل أوروبا، خاصةً أنها سبق أن جربت النذالة الأوروبية خلال التوتر الروسي-التركي بشأن سوريا، كما أن لديها علاقات اقتصادية قوية مع موسكو.
لماذا تستطيع تركيا أن تقدم وساطة ناجحة؟
ما يمكن لتركيا تقديمه لدول أوروبا الشرقية، وأوكرانيا تحديداً، هو صادرات الأسلحة التركية، وأنقرة تعتبر نفسها في هذا الصدد، تاجر سلاح محترفاً، وأن صادراتها العسكرية لا تعني بالضرورة أي عداء مع موسكو.
وفي الأغلب لن تكون صادرات الأسلحة التركية مقابل أموال فقط، بل قد تحتاج أنقرة إلى مقابل من صادرات تكنولوجية من هذه البلدان مثلما تفعل مع أوكرانيا.
ولكن أكثر ما يمكن أن تقدمه أنقرة لدول أوروبا الشرقية- لاسيما أوكرانيا- في صراعها مع روسيا، هو دور الوساطة التي عرضتها أنقرة بالفعل على أوكرانيا وروسيا، وهي وساطة قد تكون فعالة بالنظر إلى خبرة تركيا في التفاهم والتنسيق مع موسكو في ظروف قد تكون أسوأ من الأزمة الأوكرانية.
فهي تفاهمات كانت تتم وجيشا البلدين يقفان على خطوط النار المتبادلة مثلما حدث في إدلب عام 2020، حينما توصل بوتين وأردوغان إلى تفاهم صعب، بينما كان الجيش التركي يحارب جيش النظام السوري المدعوم من الجيش الروسي بشكل مباشر، حتى إن الطائرات الروسية كانت تحلّق في سماء المعركة، وتكرر الأمر في أذربيجان وليبيا.
ولكن الأزمة الأوكرانية قد تحمل لأنقرة سيناريو شديد السلبية
ولكن بقدر ما تمثل الأزمة الأوكرانية فرصة لتركيا لتأكيد أهميتها للغرب، وكذلك لروسيا عبر خليط من دور الوساطة بين كييف وموسكو والمنافسة المضبوطة بدقة مع روسيا، فإن هذه الأزمة قد تمثل مأزقاً كبيراً لأنقرة في حالة تصاعدها.
ففي حال تنفيذ اجتياح روسي لأوكرانيا، كما يتوقع المسؤولون الغربيون، وما قد يتبع ذلك من عقوبات اقتصادية غربية صارمة على روسيا.
فإن أنقرة سوف تكون بين المطرقة والسندان، فإن لم تلتزم تركيا بالعقوبات الغربية، فقد يعرّضها ذلك لمشكلات مع الغرب، خاصة مع ميل الولايات المتحدة الحالي إلى توجيه تهديدات خشنة لأصدقائها بضرورة الالتزام بعقوباتها تجاه الصين وروسيا، كما بدأت تفعل مع دول عدة مثل دول الخليج والهند وإسرائيل ومصر في صفقات عسكرية وتجارية عدة.
أما لو التزمت بالعقوبات الغربية، (وهذا احتمال كبير، لأنها فعلت ذلك في الحالة الإيرانية رغم أنها عارضت عقوبات ترامب)، فإن من شأن ذلك، الإضرار باقتصادها، حيث إن روسيا مزود رئيسي لأنقرة بالغاز، كما أن السياحة الروسية مصدر مهم للدخل في تركيا، والسوق الروسي سوق رئيسي لأنقرة، وكذلك ساحة لنشاط شركاتها في المقاولات وغيرها من المجالات الحيوية.
كما أنّ فرض عقوبات غربية صارمة على روسيا والتزام تركيا بها من شأنهما أن يفتحا الباب أمام انتقام روسي في الساحات التي تتسم بالسيولة، وهي ساحات تشمل إضافة إلى أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، مناطق مثل آسيا وسوريا وليبيا يتعايش فيها النفوذان التركي والروسي بدرجة عالية من الحساسية والدقة، لا تحتمل أي إخلال بالتوازنات القائمة.
وتعلم تركيا من تجربتها في سوريا أنه لا يمكن الاعتماد على الغرب لدرء أي محاولة للمساس بالنفوذ التركي في أي منطقة، خاصةً أن أغلب المناطق التي يتعايش فيها نفوذا موسكو وأنقرة خرجت من إطار الاهتمامات الغربية وساحات قوته، بعد أن نجح البلدان في فرض تسويات فيها بعيداً عن أمريكا وأوربا.