"بعد أن هدموا بيته اقتادوه مكبلاً ليرى منزله وقد تمت تسويته بالأرض ليزيدوه كمداً قبل أن يذهبوا به للسجن"، هكذا تتعامل إسرائيل مع سكان حي الشيخ جراح، الذي بات عنواناً لصمود أهل القدس.
وأصبحت أسرة "صالحية" المكونة من 18 فرداً بلا مأوى، بعد أن انتزعتهم القوات الإسرائيلية من منزلهم في مداهمة ليلية، قبل أن تهدمه حتى سوَّته بالأرض، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
هدمت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، فجر الأربعاء 19 يناير/كانون الثاني 2022، منزل عائلة صالحية في الشيخ جراح، وذلك بعد أن اقتحمت الشرطة بالوحدات الخاصة المنزل وقامت بإخلاء أفراد العائلة والمتضامنين معهم بالقوة، رغم أنها أعلنت في وقت سابق من يوم الثلاثاء تراجعها عن قرار الإخلاء.
واقتحمت قوات كبيرة من شرطة الاحتلال الإسرائيلي منزل عائلة صالحية، واعتقلت أفراد العائلة المتواجدين في المنزل، بعد الاعتداء عليهم بالضرب، كما قام عناصر الشرطة بإطلاق قنابل الصوت واعتقال جميع أفراد العائلة و25 شخصاً تواجدوا داخل المنزل، حيث تم إخلاء المنزل والاعتداء على جميع المتواجدين بداخله، حسب وسائل إعلام فلسطينية.
ولكن سلطات الاحتلال الإسرائيلية لم تكتفِ بهدم منزل هذه الأسرة واعتقال أفرادها، فلقد تعمدت إذلالهم أيضاً.
أمٌّ في الـ75 ومريضة بالزهايمير تنظر ولدها وتؤكد أنهم لن يستسلموا
كانت الأم المسنة ماجدة صالحية في انتظار أي أنباء عن نجلها وأحفادها المحتجزين، وبدت رابطة الجأش رغم المداهمة الإسرائيلية العنيفة لمنزلها في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية في اليوم السابق.
ومع أن ذكريات المداهمة والهدم كانت ملتبسة على العجوز البالغة من العمر 75 عاماً، بحكم المعاناة من مرض الزهايمر، فإنها عندما سُئلت عن شعورها، جاءت نبرتها بالإجابة صارمة ومُتحدية.
وقالت أم محمود، كما تُعرف في العائلة، لموقع Middle East Eye: "يمكنهم اعتقالنا وتهديدنا، لكننا لن نتنازل عن أرضنا. حتى لو بلغ الأمر الموت، فإننا لن نستسلم".
أما محمود صالحية، رب المنزل، فقد اعتدت القوات الإسرائيلية عليه واعتقلته هو وخمسة آخرين. وبعد قضاء الليلة رهن الاعتقال، أُفرج عن جميع الموقوفين إفراجاً مشروطاً، مع منعٍ من دخول الشيخ جراح لمدة 30 يوماً.
أخرجوه من المنزل حافي القدمين وجعلوا يشاهد أطلال منزله
تحدثت الصحافة إلى محمود فور إطلاق سراحه عن ظروف اعتقاله واحتجازه، فوقف يكبح دموعه وقال بصوت متهدج: "لقد اعتدوا عليَّ. لقد كدت أموت. كدت أموت حقاً".
وقال محمود لوسائل إعلام محلية إن الضباط الإسرائيليين بذلوا قصارى جهدهم لإذلاله، وصوبوا البنادق الآلية إلى رأسه ورؤوس أفراد عائلته أثناء اعتقالهم وأجبروه على الخروج من المنزل حافي القدمين.
وأضاف: "لقد هاجموا المنزل بطريقةٍ غرضها الانتقام. هذه حكومة مستوطنين، ليس لديهم شرف ولا أخلاق".
وأشار محمود إلى أن الجنود الإسرائيليين تعمدوا قبل أن يقتادوه للمثول أمام المحكمة إلى المنزل ليرى كيف هُدِم وسوِّي بالأرض، وقال: "عندما رأيت المنزل على هذا النحو، كدت أموت. لقد دمروا المنزل لكننا سنبنيه مرة أخرى. فهم لن يبقوا هنا لفترة طويلة".
المقدسيون يتضامنون معهم ويعرضون عليهم بيتاً بديلاً
على الرغم من الألم المفجع الذي حلَّ بعائلة صالحية بعد هدم منزلهم، فإن الدعم والتضامن الذي تلقوه منحهم بعض السلوى.
وقال محمود إن طبيباً من عائلة أبو سبيتان في القدس أعطى مفاتيح منزله للأسرة بعد أن أصبحوا بلا مأوى، تضامناً معهم، وهذا هو المعهود من سكان القدس.
منذ المرة الأولى التي حاولت فيها سلطات الاحتلال الإسرائيلي طردَ عائلة صالحية من منزلهم يوم الإثنين 17 يناير/كانون الثاني، احتشد عشرات النشطاء في المنزل لحمايته من أي مداهمات ونقلوا بثاً مباشراً منه ليراه العالم.
وظل الشبان والشابات معتصمين في الطقس البارد يوقدون النار في أرض عائلة صالحية، وهم يُنشدون ويرددون الأغاني الوطنية.
سيف القواسمي ناشطٌ مقدسي من بين أولئك الذين مكثوا في منزل عائلة صالحية لمدة يومين قبل الهدم، وقال إنه اعتصم هناك لأن الهجوم على أي منزل في المدينة هو هجوم على الجميع.
وقال القواسمي لموقع MEE: "هذه قضية توحدنا جميعاً، فهي تتعلق بحماية حي الشيخ جراح وفلسطين. كانت الليلتان اللتان سبقتا عملية الهدم دليلاً جلياً على أهمية الحضور الشعبي والتضامن الاجتماعي".
ومع أن نجاح الاحتلال في هدم المنزل يبدو وكأنه معركة خسرها الفلسطينيون، فإن القواسمي يقول إن الصمود ورباطة الجأش اللذين أبداهما محمود صالحية في هذه المحنة كانا مصدر إلهام لن يُنسى.
حي الشيخ جراح أحد أسباب حرب غزة
هدمت قوات الاحتلال منزل عائلة صالحية وطردتهم بحجة بناء مدرسة على أرض المنزل التي تزعم بلدية الاحتلال ملكيتها.
صادر الاحتلال الإسرائيلي الأرض بعد احتلاله للمدينة في عام 1967، استناداً إلى قانون "أملاك الغائبين" الذي وضعه الاحتلال للاستيلاء على أملاك المهجَّرين الفلسطينيين.
في الوقت الحالي، تعيش في حي الشيخ جراح 37 عائلة فلسطينية، تواجه ست عائلات منها إجلاء وشيكاً.
منذ عام 2020، أمرت المحاكم الإسرائيلية بإجلاء 13 عائلة فلسطينية من الحي، الذي أصبح بؤرة مواجهات كبيرة خلال العام الماضي، بعد أن حاولت إسرائيل طرد العائلات الفلسطينية من المنطقة في مايو/أيار الماضي لإفساح المجال للمستوطنين الإسرائيليين كي يستولوا على المنازل.
وأدى توتر الأوضاع في القدس بسبب حي الشيخ جراح إلى اندلاع مواجهات في محيط الحرم القُدسي الشّريف في الأيام الأخيرة من شهر أبريل/نيسان 2021، وهي المواجهات التي وصلت لذروتها عندما نظم المستوطنون مسيرة الأعلام بهدف اقتحام الأقصى، والتي انتهت بشن هجوم صاروخي من قبل حماس على المسيرة واندلاع حرب غزة مايو/أيار 2021.
وسبق أن أكد رئيس شبكة الأقصى الإعلامية التابعة لـ"حماس" وسام عفيفة، لـ"عربي بوست" أن موضوع القدس والشيخ جراح كان دائماً على طاولة مجمل الوساطات والجهود الدولية طيلة أيام العدوان على غزة، معتبراً أن تم التعامل مع هذه القضية بمرونة لكانت الحرب قد توقفت في يومها الثالث ولما احتاجت 11 يوماً حتى انتهت.
ووفق عفيفة، فإن الوسطاء وخاصة مصر قدموا "ضمانات" بأنّ ملف الشيخ جراح هو جزء من وقف إطلاق النار لكن التعمق بالتفاصيل يحتاج مزيداً من الوقت والجهد اللاحق من قبل الوسطاء.
وبهذا المعنى، فإن بحث موضوع "الشيخ جراح" ومنع تهجير سكانه هو جزء من وظيفة الوسيط المصري التي سيتم استكمالها بالمرحلة القادمة، بموازاة جهد من الأمم المتحدة وأيضاً من الولايات المتحدة.
وبيَّن عفيفة أنه بناء على لهجة الإدارة الإمريكية، فإنها مُدركة أن قضية الشيخ جراح هي عنصر تفجير وإذا تم فتحه مجدداً من قبل إسرائيل ستنفجر الأمور، وليس بالضرورة على شكل حرب، بل مواجهات شاملة أكثر حدة في كل أنحاء الأراضي الفلسطينية.
يقول رمزي عباس، وهو ناشط محلي، إن التضامن واسع النطاق في مايو/أيار أسفر عن ضغوط على إسرائيل دفعتها إلى تأجيل عمليات الإجلاء، لكن على الناس أن يبقوا في حالة تأهب حتى تلغي المحكمة أوامرها السابقة إلغاء تاماً.
وأضاف عباس: "لقد نجحنا من قبل [في وقف عمليات الإجلاء] بالوقوف معاً، لا بد أن نقف معاً الآن. فأمس كان منزل الصالحية، وغداً قد يكون منزلي أو منزلك".