لم يكن عام 2021 الذي افتُتح بمشاهد اقتحام الكونغرس الأمريكي بعد فوز الرئيس جو بايدن سوى قمة جبل الجليد، ورغم رحيل دونالد ترامب، فإنه في حال ترشُّحه مرة أخرى بعد 3 أعوام، وخسارته الانتخابات، ربما تشهد أمريكا حرباً أهلية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وهذا التحليل ليس صادراً عن وسائل إعلام دول معادية لأمريكا كما قد يتصور البعض، لكنه أصبح وجبة شبه يومية في وسائل الإعلام التقليدية بأمريكا، وعلى منصات التواصل الاجتماعي هناك، رغم حظر حسابات دونالد ترامب ومحاصرته إعلامياً.
ونشرت مجلة Newsweek الأمريكية، الشهر الماضي، تحقيقاً استقصائياً عنوانه "ملايين الأمريكيين غاضبون ومسلحون استعداداً للسيطرة على البلاد حال خسارة ترامب عام 2024"، رصد كيف أن الجماعات اليمينية المتطرفة المسلحة من أنصار ترامب ليسوا التهديد الأخطر الذي تواجهه البلاد.
ورصد تحقيق المجلة الأمريكية ظاهرة الارتفاع القياسي في شراء الأسلحة النارية، إذ شهد عام 2020 شراء نحو 17 مليون أمريكي 40 مليون قطعة سلاح، بينما شهد عام 2021 في نصفه الأول شراء أكثر من 20 مليون سلاح ناري آخر. وبحسب الأنماط التاريخية لمن يقتنون الأسلحة، تنتمي الأغلبية الساحقة من هؤلاء إلى البيض المنتمين للمناطق الحضرية في الولايات الجنوبية وينتمون للحزب الجمهوري، باختصارٍ القاعدة الانتخابية الرئيسية لدونالد ترامب.
بايدن يواجه حقيقة الانقسام الأمريكي
أمضى بايدن عاماً كاملاً على أمل أن تعود أمريكا إلى طبيعتها. لكن يوم الخميس الماضي 6 يناير/كانون الثاني، في الذكرى الأولى لاقتحام أنصار دونالد ترامب مبنى الكونغرس، أدرك الرئيس أخيراً الحجم الكامل للتهديد الحالي للديمقراطية الأمريكية.
حيث قال بايدن من المكان الذي احتشد فيه مثيرو الشغب منذ عام: "في هذه اللحظة، يجب أن نقرر أيَّ أمةٍ سنكون؟ هل سنكون أمةً تقبل العنف السياسي كقاعدة؟".
إنه سؤال يطرحه كثيرون داخل الولايات المتحدة وخارجها الآن، كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية. وفي مجتمع منقسم بشدة، حيث أدَّت مأساةٌ وطنية مثل تلك التي وقعت في 6 يناير/كانون الثاني 2021، إلى تباعد الناس أكثر عن بعضهم، يتولَّد خوفٌ من أن ذلك اليوم كان مجرد البداية لموجة من الاضطرابات والصراع والإرهاب الداخلي.
هل تتجه الولايات المتحدة حقاً إلى حربٍ أهليةٍ ثانية؟
أظهر عددٌ كبير من استطلاعات الرأي الأخيرة أن أقليةً كبيرة من الأمريكيين مرتاحون لفكرة العنف ضد الحكومة. وحتى الحديث عن حربٍ أهليةٍ أمريكية ثانية انتقل من الخيال الهامشي إلى التيار الإعلامي السائد.
"هل هناك حرب أهلية مقبلة؟" كان هذا السؤال الصريح عنواناً لمقالٍ بمجلة New Yorker هذا الأسبوع، في حين طَرَحَ عمودٌ بصحيفة New York Times الأمريكية سؤالاً مشابهاً عنوانه: "هل نواجه حقاً حرباً أهليةً ثانية؟". كتب ثلاثة من الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين عموداً حديثاً في صحيفة Washington Post يحذِّرون فيه من أن محاولة انقلابٍ أخرى "قد تؤدي إلى حرب أهلية".
إن مجرد حقيقة دخول مثل هذه المفاهيم إلى المجال العام تُظهِر أن ما لم يكن من الممكن تصوُّره من قبل أصبح قابلاً للتفكير فيه، رغم أن البعض قد يجادل بأنه لايزال بعيد الاحتمال.
يؤدِّي القلق إلى تعزيز الأحقاد في واشنطن، حيث تحطَّمَت رغبة بايدن في الشراكة بين الحزبين على صخرة المعارضة الجمهورية المتطرفة. ويبدو أن تصريحات الرئيس بايدن يوم الخميس -"لن أسمح لأحد بأن يضع خنجراً في حلق ديمقراطيتنا"- إقرارٌ بأنه لا يمكن أن تسير الأمور كالمعتاد عندما يتبنَّى أحد الأحزاب الأمريكية الكبرى الحكم الاستبدادي، كما تقول صحيفة الغارديان.
لتوضيح هذه النقطة، لم يحضر أيُّ جمهوريٍّ تقريباً الاحتفالات، بينما يسعى الحزب إلى إعادة كتابة التاريخ، وإعادة رسم صورة مثيري الشغب الذين حاولوا قلب هزيمة ترامب في الانتخابات باعتبارهم "شهداء قاتلوا من أجل الديمقراطية".
ما علامات سير أمريكا نحو حرب أهلية؟
ومع هيمنة زُمرة ترامب في الحزب الجمهوري أكثر من أي وقت مضى، والجماعات اليمينية المتطرفة، مثل "الأولاد الفخورون" و"حرَّاس القسم"، يرى البعض أن التهديد على الديمقراطية أصبح أكبر الآن مِمَّا كان عليه قبل عام. من بين أولئك الذين دقوا ناقوس الخطر باربرا والتر، عالمة العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، سان دييغو، ومؤلِّفة الكتاب الجديد بعنوان "كيف تبدأ الحروب الأهلية؟ وكيف نوقفها؟".
عملت والتر سابقاً في فرقة العمل المعنية بالاضطرابات السياسية، وهي لجنة استشارية لوكالة الاستخبارات المركزية، وكان لديها نموذجٌ للتنبؤ بالعنف السياسي في بلدان بجميع أنحاء العالم، باستثناء الولايات المتحدة نفسها. لكن مع صعود الديماغوجية العنصرية في عهد ترامب، استشفَّت والتر، التي درست الحروب الأهلية لمدة 30 عاماً، العلامات الواضحة على عتبة بابها.
العلامة الأولى كانت ظهور حكومة ليست ديمقراطية بالكامل ولا أوتوقراطية بالكامل؛ دولة "أنوقراطية". وعلامةٌ أخرى هي المشهد الذي يتحوَّل إلى سياسات الهوية حيث لم تعُد الأحزاب تُنَظَّم حول أيديولوجية أو سياسات محددة ولكن على أسس عرقية أو دينية.
قالت والتر: "بحلول انتخابات 2020، أصبح 90% من الحزب الجمهوري من البيض. ونحن في فريق العمل إذا كان لنا أن نرى ذلك في بلدٍ آخر متعدد الأعراق ومتعدد الأديان يقوم على نظامٍ يتألَّف من حزبين، فهذا ما يمكن أن نسميه الفصيل الفائق، والفصيل الفائق خطير بشكلٍ خاص".
لا يتوقع حتى أكثر المتشائمين كآبةً تكرار الحرب الأهلية بين عامي 1861 و1865 بجيشٍ أزرق وآخر أحمر يخوضان معارك ضارية. تابعت والتر: "سيبدو الأمر أشبه بأيرلندا الشمالية وما شهدته بريطانيا، حيث كان الأمر يتعلَّق أكثر بما يبدو تمرُّداً". وأضافت: "من المُحتَمَل أن تكون أكثر لا مركزية من أيرلندا الشمالية، لأن لدينا مثل هذا البلد الكبير وهناك كثير من الميليشيات في جميع أنحاء البلاد".
كيف سيكون شكل الحرب الأهلية الأمريكية الثانية؟
تقول والتر: "سوف يلجأون إلى تكتيكات غير تقليدية، لاسيَّما الإرهاب، وربما حتى القليل من حرب العصابات، حيث سيستهدفون المباني الفيدرالية والمعابد اليهودية والأماكن ذات الحشود الكبيرة. ستدور الاستراتيجية حول تخويف الجمهور الأمريكي؛ لدفعه إلى اعتقاد أن الحكومة الفيدرالية غير قادرة على الاعتناء به".
وتتوقَّع والتر أن شخصيات المعارضة والجمهوريين المعتدلين والقضاة الذين يُعتبرون غير متعاطفين، قد يصبحون جميعاً أهدافاً مُحتَمَلة للاغتيال.
وأضافت: "يمكنني أيضاً أن أتخيل المواقف التي تقوم فيها الميليشيات، جنباً إلى جنب مع تطبيق القانون بتلك المناطق، بتشكيل مجموعات عرقية بيضاء صغيرة في المناطق التي يكون فيها ذلك ممكناً، بسبب الطريقة التي تُقسَّم بها السلطة هنا في الولايات المتحدة". وتقول: "من المؤكد أنها لن تشبه الحرب الأهلية التي حدثت في ستينيات القرن التاسع عشر".
تلاحظ والتر أن معظم الناس يميلون إلى افتراض أن الحروب الأهلية من صنع الفقراء أو المُضطهَدين، لكنها تعتقد أن الأمر ليس كذلك في حالة الولايات المتحدة. فهي في هذه الحالة رد فعلٍ عنيف من الأغلبية البيضاء المُقدَّر لها أن تصبح أقليةً بحلول عام 2045، وهو خسوف رَمَزَ إليه انتخاب باراك أوباما في عام 2008.
تلقَّى العديد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين رسائل تهديدٍ، من ضمنها تهديد بالقتل، بعد التصويت على مشروع قانون للبنية التحتية من الحزبين عارضه ترامب.
ويواجه الجمهوريان في لجنة مجلس النوَّاب المُختارة للتحقيق في هجوم 6 يناير/كانون الثاني، ليز تشيني وآدم كينزينجر، دعوات لإبعادهما من الحزب الجمهوري.
عودة ترامب ستكون كارثية
هناك أيضاً احتمالٌ كبير بأن يترشَّح ترامب للرئاسة مرةً أخرى في عام 2024. تفرض الولايات التي يقودها الجمهوريون قوانين تقييد التصويت التي تهدف إلى تفضيل الحزب، بينما يسعى الموالون لترامب إلى تولِّي مسؤولية إدارة الانتخابات. وقد يؤدِّي السباق المحموم إلى البيت الأبيض إلى عواقب كارثية.
ورغم أن معظم الأمريكيين نشأوا وهم يعتبرون ديمقراطيتهم المستقرة أمراً مُسلَّماً به، فإن هذا أيضاً مجتمعٌ يكون فيه العنف هو القاعدة، وليس الاستثناء؛ من الإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين إلى العبودية، ومن الحرب الأهلية إلى أربعة اغتيالات رئاسية، ومن العنف المسلَّح الذي يودي بحياة 40 ألف شخص سنوياً، إلى الحروب التي قتلت الملايين في الخارج.
قال لاري جاكوبس، مدير مركز دراسة السياسة والحكم في جامعة مينيسوتا: "أمريكا ليست غير معتادة على العنف. إنها مجتمعٌ عنيف للغاية، وما نتحدَّث عنه هو منح العنف أجندة سياسية واضحة. يبدو هذا اتجاهاً جديداً مرعباً في الولايات المتحدة".
ورغم أنه لا يتوقَّع حالياً أن يصبح العنف السياسي مستوطناً، فإنه يوافق على أن أيَّ تفكُّكٍ من هذا القبيل سيكون أيضاً على الأرجح شبيهاً بمشكلات أيرلندا الشمالية.
لكن بايدن استخدم خطابه للإشادة بانتخابات عام 2020 باعتبارها "أكبر دليلٍ على الديمقراطية في تاريخ الولايات المتحدة"، مع تسجيل أكثر من 150 مليون شخص للتصويت على الرغم من الجائحة. وهذا ما يؤيِّده جوش كيرتزر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، مستبعِداً شبح الحرب الأهلية، إذ غرَّد قائلاً: "أعرف كثيراً من علماء الحرب الأهلية، وقليل منهم يعتقدون أن الولايات المتحدة على شفا حرب أهلية"، حسب تعبيره.