تناولت صحيفة The New York Times الأمريكية الصعود الذي شهده تيار القومية المسيحية الأمريكي خلال العقد الماضي، وكيف تحول هذا التيار خلال "عهده الذهبي" في فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى واحد من أشد أسلحته قوةً وأحد أبرز داعميه في مزاعمه بتزوير الانتخابات الأمريكية.
وتطرقت الكاتبة بالصحيفة كاثرين ستيوارت المختصة بقضايا اليمين المسيحي طوال 20 عاماً، إلى أهداف هذا التيار العامة وأدواته المجتمعية لدعم أجندته، مطلقة رسالة تحذير من هذا التيار وتحث الشعب الأمريكي على مواجهته قبل أن يُسقط الديمقراطية الأمريكية برمتها خلال الفترة القادمة.
كيف سعت القومية المسيحية لإسقاط النظام الدستوري الأمريكي؟
كانت أحداث اقتحام الكونغرس الأمريكي في 6 يناير/كانون الثاني 2020 أخطر محاولة لإسقاط النظام الدستوري الأمريكي منذ الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، لكن هذه المحاولة لم تكن ممكنة لولا تأثير الحركة "القومية المسيحية" وتوسُّع نفوذها في أمريكا كما تقول ستيوارت. والآن، بعد عام واحد، يبدو أن تلك الحركة خرجت من هذه المحاولة بعبرةٍ واحدة: إذا بذلنا جهداً أكبر في المرة القادمة، يُمكننا أن ننجح في إسقاط الديمقراطية الأمريكية وجعلِ وعودها الشامخة أثراً من مخلفات الماضي.
تقول ستيورات إن كثيراً من المراقبين والخبراء المعنيين بمتابعة التيار اليميني المتطرف أشاروا إلى أن رموز القومية المسيحية كانت سائدة الحضور في كل الوقائع التي شهدها يوم الاقتحام في 6 يناير/كانون الثاني 2020. لكنها تلفت إلى أن الدور الذي اضطلعت به الحركة في مساعي الانقلاب على نتائج انتخابات 2020 الرئاسية الأمريكية والعمل على إعادة تنصيب رئيس غير منتخب كان دوراً أعمق بكثير مما قد يبدو عليه الأمر للوهلة الأولى بأنه مجرد أفعال ارتكبتها قلة من ممثلي الحركة في هذا اليوم، الذي لا يمثل في نهاية الأمر سوى نهاية غير ناجحة (أو انتكاسة مؤقتة) لمحاولة الانقلاب.
كان الشرط الذي كان لا غنى عن توفره ليحسم دونالد ترامب محاولته للاحتفاظ بالرئاسة رغم إرادة الشعب هو تكثير عدد الناخبين المستعدين لتصديق ادعائه المزيف بأن الانتخابات قد سُرقت منه، وهي حجة بدأ ترامب تحضيرَه المتقن لها قبل الانتخابات، بل منذ المناظرة الرئاسية الأولى.
وفي ضوء ما حدث بعد ذلك، أصبح دور وسائل الإعلام الاجتماعية اليمينية وتوابعها على وسائل التواصل الاجتماعي في وضع الأسس الأولى للادعاء بأن الانتخابات مزورة أمراً مفهوماً الآن. فمع أن القساوسة والمصلين ووسائل الإعلام الدينية من أشد مصادر المعلومات ثقةً بين العديد من الناخبين، إلا أن الخطابات الدينية قلما تحظى بالقدر اللازم من التقدير والدراسة.
أبرز ما يروجون له: "المسيحيون الأمريكيون مضطهدون"
أسَّس رموز القومية المسيحية الأمريكية منظمات ومبادرات غزيرة التمويل لاستغلال هذا الواقع لمصلحتها. أما الرسالة التي حرص هؤلاء على الترويج لها مراراً وتكراراً من خلال هذه القنوات، بحسب ستيوارت، فهي أن أي مصادر للمعلومات من خارج المنتمين لهذا التيار ليست مصادر صادقة أو موثوقة. وكان إنشاء دائرة وهمية لا يستمد الأتباع معلوماتهم وأخبارهم إلا منها، ولا يقبلون تصحيحاً أو تشكيكاً فيها، هو الشرط الأساسي الأول لانتشار ادعاء ترامب.
بالإضافة إلى ذلك، لم تكن محاولة الانقلاب ممكنة الوقوع لولا الشعور الراسخ بالاضطهاد الذي زرعه قادة الحركة القومية المسيحية في نفوس الأفراد من قاعدة الناخبين. أولى الوسائل التي تعتمد عليها القومية المسيحية اليوم هو الترويج لاعتقادٍ مفاده أن المسيحيين المحافظين هم أشد تيارات المجتمع الأمريكي وقوعاً تحت الاضطهاد. وأصبح معتاداً أن تسمع بين قادة الحركة تصريحات بأنهم يناضلون في "معركة ضد الاستبداد"، وأن الكتاب المقدس في طريقه إلى الحظر قريباً.
أما الشرط المسبق الأخير لدعم الترويج لمحاولة الانقلاب هو التأسيس لاعتقاد بين الجمهور المستهدف بأن شرعية حكومة الولايات المتحدة إنما تنبع من التزامها تراثاً دينياً وثقافياً معيناً، وليس من مؤسساتها الديمقراطية. وإنه لأمر عجيب في تناقضه أن قادة الهجوم في 6 يناير/كانون الثاني 2020 على العملية الانتخابية الدستورية كانوا يصفون أنفسهم بـ"الوطنيين". لكن الأمر لا يمكن فهمه إلا باستيعاب أن ولاءهم هو للإيمان بالدم والأرض والدين، وليس بفكرة أنها حكومة "للشعب، ومن الشعب، ومن أجل الشعب"، أي أنهم على نقيض الفكرة التي تقوم عليها الديمقراطية الأمريكية.
يحضّرون أنفسهم لإعادة "عصر ترامب الذهبي"
تقول ستيوارت إنه بالنظر إلى الدور الذي اضطلعت به الحركة في إرساء الأسس لمحاولة الانقلاب، فإن قادتها واجهوا مأزقاً عندما بدأ ترامب في بثِّ ادعاءاته التي دُحضت مراراً وتكراراً، فقد تحول هذا المأزق إلى اختبارِ ولاء لكل شخصية منهم في 6 يناير/كانون الثاني. والسؤال الأساسي في الاختبار: هل نمضي قدماً في دعمِ محاولةٍ للانقلاب على النظام الديمقراطي الأمريكي؟
حاول بعضهم الإجابة عن السؤال بكتابة سيناريو جديد لما حدث في 6 يناير/كانون الثاني، فأشارت ميشيل باخمان، النائبة السابقة عن الحزب الجمهوري، إلى أن أعمال الشغب ارتكبها "رعاع دُفعت لهم أجور لفعل ذلك". أما لانس والناو، الناشط والمؤلف المؤيد لترامب، فألقى باللوم على "عصابات أنتيفا المحلية" اليسارية. ومع ذلك، فإن كثيراً من القادة في تيار القومية المسيحية، مثل تشارلي كيريك، يبدو أنهم كانوا مؤيدين لمزاعم ترامب بشأن تزوير الانتخابات، بل إن بعضهم، مثل مايكل فارز، رئيس مجموعة "تحالف الدفاع عن الحرية" اليميني، قدموا دعماً غير مباشر لمزاعم ترامب من خلال التصيُّد لما زعموا أنه "مخالفات دستورية" شهدتها الانتخابات.
وتذهب الكاتبة إلى أن أحداً من هذا التيار لم يكن على استعداد لإدانة ترامب أو اتهامه بمحاولة لمنع النقل السلمي للسلطة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن. بل أدان القس فرانكلين غراهام، في منشور له على موقع فيسبوك، "هؤلاء العشرة المنتمين إلى حزب ترامب نفسه [الحزب الجمهوري]" والذين صوتوا في الكونغرس لمقاضاته رغم ذلك.
والآن يبدو أن قادة الحركة يعملون على وضع الأسس للمحاولة الآتية لتخريب العملية الانتخابية، ففي المؤتمرات التي تقيمها الحركة، يمكنك سماع المتحدثين وهم يبذلون قصارى جهدهم للدفاع عن متمردي 6 يناير/كانون الثاني، بل والاحتفاء بهم في بعض الأحيان. وفي عشرات من الكنائس المحافظة في الولايات المتأرجحة في الانتخابات، انتشرت العام الماضي مجموعات من القساوسة لتقديم عروض من خلال مبادرة تسمى Faith Wins، ينشر المتحدثون فيها الشكوك في الانتخابات ويحشد القساوسة أتباعهم للتصويت على أساس "القيم التوراتية".
وينقل المقال عن بايرون فوكس، وأحد هؤلاء القساوسة المتحدثين في مبادرة Faith Wins، قوله في أحد العروض: "الكنيسة ليست سفينة سياحية، إنها سفينة حربية". وتضم المبادرة أيضاً هوغان جيدلي، نائب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض في عهد ترامب، وقد وصف المسؤولين الذين أدانوا ما حدث في الكونغرس بالقول إنه في الدورة الانتخابية الأخيرة كان هناك "كثير من مسؤولي الولايات المارقين، وكثير من حكام الولايات المارقين".
وفي الوقت الذي يستعد فيه قادة مجموعات القومية المسيحية لإعادة محتملة لنظام ترامب -وهي فترة يعتبرونها عصراً ذهبياً لهم- فإنهم يتقدمون بالتوازي على جبهات أخرى وثيقة الصلة بدعواهم، وأبرزها جبهة التعليم العام.
تفوق العرق الأبيض
وتتطرق الكاتبة الأمريكية إلى ما يصفه بأنه بحالة من الهوس تسود في أوساط القوميين المسيحيين على أساس من الادعاء بأن المدارس الأمريكية باتت تلقِّن صغارهم "النظرية العرقية النقدية" (CRT)، وهي نظرية تقر بأن العنصرية متأصلة في نسيج المجتمع الأمريكي ونظامه وتسلِّط الضوء على هياكل القوة في المجتمع الأمريكي وأدواتها في إدامة تهميش الأشخاص الملونين وتعزيز هيمنة العرق الأبيض على المجتمع.
وفي هذا الموقف من التعليم العام، تقول ستيوارت إننا نشهد السمات نفسها لدائرة المعلومات المغلقة التي يروِّج لها هذا التيار في سلوك المنتسبين للتيار القومي المسيحي وعقدة الاضطهاد المنتشرة بينهم، والشعور بالاستحقاق الذي دفعهم إلى محاولة الانقلاب على نتيجة الانتخابات ما دامت تخالف هواهم. مستدلة على أثر الجهود اليمينية بنجاح المساعي التي تبذلها المجالس التشريعية لبعض الولايات لفرض مناهج "مناهضة للنظرية العرقية النقدية" ومعارضة نشرها. والنتيجة الأبرز للقيود المفروضة على النظرية وتعليمها في المدارس العامة، هي تعزيز برنامج اليمين الديني الأمريكي طويل الأمد لتقويض الثقة في التعليم العام، وهو مسعى يرى اليمين الديني أنه ضروري لزيادة تمويل الحركة على المدى الطويل ودعم جهودها لمناهضة الديمقراطية.
ويستشهد المقال باقتباس عن جيري فالويل، وهو قس أمريكي أصولي ما زال يحظى بشعبية كبيرة في أوساط هذا التيار رغم وفاته منذ سنوات، ويلخص فيه فاويل أهداف حملة اليمين الديني على التعليم العام، بالقول إنه يأمل في أن يشهد اليوم الذي لن تكون فيه "أي مدارس عامة، وتعود السيطرة فيه للكنائس على المدارس مرة أخرى، ليُديرها المسيحيون المخلصون".
الإنذار الأخير
اليوم، يضع قادة حركات اليمين الديني أعينهم على ما يقرب من 700 مليار دولار أمريكي تنفقها الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية سنوياً على التعليم. وهناك دعوى معروضة أمام المحكمة العليا حالياً تبحث في أحقية ولاية ماين بحظر استخدام دعم الدولة للرسوم الدراسية في الالتحاق بالمدارس الدينية، حتى لا يصبح دافعو الضرائب مجبرين على تمويل مدارس طائفية تقوم سياساتها على التمييز والتعصب لتعاليمها.
وفي غضون ذلك، يسعى تيار اليمين الديني إلى الحصول على جزء كبير من الأموال المخصصة لدعم التعليم العام بمساعدة الهيئات التشريعية للولاية أو بحكمٍ من المحكمة العليا، ليصبح للمدارس الدينية حقٌّ في الحصول على دعم من أموال الضرائب.
هذه الأجندة طويلة الأمد لمناهضة المدارس العامة هي القوة الدافعة وراء مساعي الحركة لحشد جهودها في مواجهة "نظرية العرقية النقدية"، وفي هذا السياق عقد "مجلس أبحاث الأسرة"، وهو مجموعة يمينية مسيحية لدعم السياسات، دورة تدريبية عبر الإنترنت لتوفير الخبرات حول كيفية الترشح لمجالس المدارس والتعليمات التي يجب نشرها لمناهضة النظرية العرقية النقدية، وكيفية تجنيد آخرين للمشاركة في ذلك.
قبل عقد من الزمان، كانت تلك الأهداف المتطرفة الكامنة في الجذور الأيديولوجية للحركة القومية المسيحية حاضرةً للعيان، وكان يمكن لأي مراقب أن يراها، لكن أكثر المعنيين لم يُبالوا بالنظر، وأولئك الذين نظروا في هذه الحركات وحذروا من مساعيها، اتُّهِموا بأنهم يبالغون في الذعر. والأهم من ذلك، أن معظم قادة الحزب الجمهوري نأوا بأنفسهم في ذلك الوقت عن هذه الدعوات بدعوى أن من يروجون لها من المتطرفين الداعين إلى دولة ثيوقراطية مسيحية.
لكن العقد الماضي شهد تغيرات كبيرة، وباتت المنظمات القومية المسيحية، مثل "تحالف الإيمان والحرية" و"مجموعة زيكلاغ"، التي تجمع قادة جمهوريين بارزين مع المانحين ونشطاء اليمين الديني، تقيم ورش عمل وحلقات نقاش علنية. وأصبح القادة القوميون ورعاتهم من السياسيين المنتمين إلى الحزب الجمهوري يعلنون الآن توجهاتهم بصراحة. فهل يلاحظ الشعب الأمريكي ما يحدث، ويتحرك لمواجهته، أم أن الأوان قد فات؟