خلال سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لم يكن هناك شيء ما يمكن أن يفعله ليجعل الحزب الجمهوري يتوقَّف عن حبه، كأن يكيل المدائح للمتعصِّبين من أنصار "تفوق البيض"، أو يقف إلى جانب فلاديمير بوتين، أو يقترح استخدام مبيِّضات الملابس كعلاجٍ لفيروس كوفيد-19، ثم جاء يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، وللحظةٍ وجيزة، بدا أن هذا لم يعد صحيحاً.
فقد قال ليندسي غراهام أبرز القادة الجمهوريين، وهو يقف في غرفة بمجلس الشيوخ كانت قد اجتاحتها حشودٌ مؤيِّدة لترامب من أجل قلب نتائج انتخابات 2020 الرئاسية: "اليوم كلُّ ما يمكنني قوله هو: لقد طفح الكيل".
وبعد أسبوع، انضم إليه كيفن مكارثي، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب، الذي دعا ترامب إلى "الاعتراف بالمسؤولية" عن أعمال العنف الدامية في مبنى الكابيتول. انقلب حلفاءٌ آخرون أيضاً ضد الرئيس السابق. وإذا كانت هناك لحظةٌ يمكن أن يخرج فيها الحزب من ذلك الوهم، فقد كانت هي تلك اللحظة. لكن ذلك لم يحدث، كما تصف ذلك صحيفة The Guardian البريطانية.
سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري تزداد قوة لا ضعفاً منذ اقتحام الكونغرس
في العام الذي أعقب التمرد الذي تردَّدت أصداؤه في جميع أنحاء العالم، يبدو أن قبضة ترامب الخانقة على الجمهوريين أصبحت أقوى لا أضعف. سرعان ما عاد غراهام إلى ملعب الغولف، وسرعان ما عدل مكارثي عن وجهته، وشرع العديد من قادة الحزب في تغيير رواية التمرُّد لتصويره على أنه موقفٌ بطولي أخير -أو "قضية خاسرة" جديدة.
تقول إيلين كامارك، الباحثة في معهد بروكينغز للأبحاث في واشنطن والمسؤولة السابقة في البيت الأبيض: "لدينا الآن حزبٌ سياسي كبير يتبنى العنف بشكلٍ منهجي. إنهم يعيدون كتابة أحداث 6 يناير/كانون الثاني. ويشيرون، كما يفعل ترامب، إلى هؤلاء الناس المتمردين من أنصار ترامب على أنهم وطنيون".
كان ترامب أول رئيس في التاريخ الأمريكي يحثُّ على محاولة انقلاب. بعد اجتماعٍ حاشد حرَّضَ فيه الرئيس الخاسر أنصاره على "القتال الضاري"، فرضت الحشود الغاضبة حصاراً على منبى الكابيتول الأمريكي لتعطيل التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة.
لقى خمسة أشخاص مصرعهم، وتعرض عشرات من رجال الشرطة للضرب والإصابة، ووقعت أضرارٌ بنحو 1.5 مليون دولار في أول هجوم كبير على مبنى الكابيتول منذ حرب عام 1812. ووُجِّهَت التهم إلى أكثر من 700 شخص في أحد أكبر التحقيقات الجنائية في التاريخ الأمريكي.
ولكن حتى تلك الليلة، عندما كان أعضاء مجلسيّ النواب والشيوخ يمشون على الدماء والزجاج المُحطَّم، كان هناك حوالي 147 جمهورياً يصوِّتون من أجل إلغاء نتائج الانتخابات. كان هذا أول دليل على أن ترامب قد توغَّل كثيراً في أسس الحزب.
كيف استمر تعزيز نفوذ ترامب داخل الحزب الجمهوري بعد رحيله عن السلطة؟
تقول الغارديان إن الدليل الثاني جاء بعد أن عُزِلَ ترامب -للمرة الثانية- من قِبَلِ مجلس النواب، وهو تصويتٌ انضمَّ فيه 10 جمهوريين فقط إلى الديمقراطيين. صوتت أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ لإدانة الرئيس السابق لكنهم انخفضوا بعشرة أصواتٍ عن أغلبية الثلثين التي يتطلَّبها الدستور، وتمت تبرئة ترامب!
يقول جيمي راسكين، العضو الديمقراطي بالكونغرس وأبرز من أداروا محاكمة العزل: "كانت الأدلة دامغة للغاية، وكانت قضيتنا القانونية مُحكَمة للغاية، وكان لوم ترامب واضحاً للغاية". وأضاف: "لكن ترامب يحظى بالكثير من الأموال والكثير من النفوذ في الحزب الجمهوري، وكان الأمر في الحقيقة سيستغرق أسبوعاً أو أسبوعين قبل أن يعيد تأكيد سيطرته الاستبدادية على جهاز الحزب الجمهوري الكبير".
أما الدليل الثالث، الذي يوضِّح وجهة نظر راسكين، فقد جاء في مايو/أيَّار عندما صوَّتَ الجمهوريون في مجلس الشيوخ ضد لجنة مستقلة للتحقيق في أعمال الشغب، على أساس نموذج اللجنة التي فحصت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية. لكن حتى زعيم الأقلية، ميتش ماكونيل، الذي أدان ترامب للتحريض على العنف وما زال عدواً لدوداً له، رفض اللجنة المقترحة باعتبارها "ممارسة سياسية بحتة".
وفي المقابل، أنشأ الديمقراطيون لجنةً منتقاة في مجلس النواب للتفحُّص في أحداث ذلك اليوم وفهم الدور الذي لعبه ترامب. أجرت اللجنة مقابلاتٍ مع مئات الأشخاص وتهدِّد من يرفضون الامتثال بالسجن. لكن اللجنة تضمُّ عضوين جمهوريَّين فقط، ليز تشيني وآدم كينزينجر، ومصير كليهما يدلُّ على توجُّهات الحزب.
واجهت تشيني، نائبة رئيس اللجنة وابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، غضب الحزب الجمهوري في ولاية وايومنغ، إذ صوَّتَ الحزب في الولاية على عدم الاعتراف بها بعد الآن على أنها جمهورية. أما كينزينجر، فقد تعرَّضَ لتهديداتٍ بالقتل ولن يسعى لإعادة انتخابه.
حول ذلك يقول مايكل ستيل، الرئيس السابق للجنة الوطنية للحزب الجمهوري: "عليهم إعادة كتابة التاريخ، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها تبرير وجودهم، لأنك إذا تركت حقائق التاريخ الفعلية تتحدَّث عنهم، لن يجرؤ أيٌّ منهم على أن ينظر إلى وجهه في الصباح".
ترامب يسير نحو الترشح الجديد للانتخابات على سلسلة من الأكاذيب
تؤولُ اليوم أعلى الأصوات في الحزب الجمهوري إلى المتطرفين. بالنسبة لهم، فإن "كذبة ترامب الكبيرة" بأن الانتخابات قد سُرِقَت منه بسبب تزوير الناخبين، وجعل بايدن رئيساً غير شرعي، تتماشى جنباً إلى جنب مع الكذبة القائلة بأن التمرد كان حملةً مبرَّرة أخلاقياً ومحاولة صادقة لإنقاذ الديمقراطية، وليس تدميرها.
يحرص ترامب على إدامة هذا الاعتقاد من خلال وابل منتظم من المقابلات والمسيرات والتصريحات عبر البريد الإلكتروني منذ أن مُنع من التغريد على تويتر. ومن الجدير بالذكر أنه سعى إلى اعتبار أشلي بابيت، الذي قُتِلَ بالرصاص خلال أعمال الشغب، شهيداً.
ألقت عضوة الكونغرس الجمهورية، مارجوري تيلور غرين، ضوءاً مماثلاً على اثنين من المشاغبين المُحتَجَزين حالياً رهن الاعتقال. في نوفمبر/تشرين الثاني، زارت ما يسمى بـ"الجناح الوطني" في سجن واشنطن واشتكت من أن السجناء يعانون من ظروف "غير إنسانية" بسبب انتماءاتهم السياسية.
يردِّد الجمهوريون الآخرون المؤيدون لترامب في مجلس النواب هذه الرسائل -أشار أحدهم إلى هجوم الكابيتول على أنه "زيارةٌ سياحية عادية". من الواضح أن بعض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين غير مرتاحين لشبكة الخداع ويحثون الحزب على التطلع إلى الانتخابات المقبلة. لكن مرة أخرى، هناك فقط أقليةٌ صغيرةٌ هي المستعدة لمواجهة ترامب مباشرة.
وشهد عام 2021 هجوماً غير مسبوق على الديمقراطية الأمريكية من الداخل، حيث اُفتتح باجتياح أنصار ترامب مبنى الكونغرس في 6 يناير/كانون الثاني 2021 بعد زعم ترامب انتصاره بالانتخابات الرئاسية على بايدن. وبعد ذلك استغل المشرعون الجمهوريون المزاعم حول تزوير الانتخابات، وسلّحوها لصالحهم بوضع قوانين جديدة تزيد صعوبة التصويت؛ حيث مرّرت 19 ولاية 33 قانوناً يُقيّد الإدلاء بالأصوات بين يناير/كانون الثاني وأكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لمعهد Brennan Center for Justice.
ولا يزال عددٌ صادم من الأمريكيين ينكرون نتائج انتخابات عام 2020؛ إذ وجد استطلاعٌ أجرته شبكة CNN الأمريكية في سبتمبر/أيلول أنّ 36% من الأمريكيين لا يعتقدون أنّ بايدن هو الفائز الشرعي بانتخابات الرئاسة.