الآن وقد تم التصديق نهائياً على نتائج الانتخابات، انطلق قطار مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة في العراق، فهل يحقق مقتدى الصدر رغبته المعلنة بأن تكون "لا شرقية ولا غربية"؟ وما احتمالات بقاء الكاظمي في منصبه؟
وبعد ثلاث جلسات عقدتها المحكمة الاتحادية العليا في العراق، أعلى سلطة قضائية لفض النزاعات الدستورية، ردت المحكمة جميع الطعون التي تقدم بها تحالف الفتح إلى جانب قوى شيعية أخرى، مثل ائتلاف دولة القانون وحركة عصائب أهل الحق وغيرهما من القوى السياسية التي تمتلك أجنحة عسكرية خارج سلطة الدولة.
وأعلنت المحكمة الاتحادية 27 ديسمبر/كانون الأول 2021 مصادقتها الرسمية على النتائج بعد 78 يوماً من إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة في دورتها الخامسة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول. ونتج عنها فوز كتلة "سائرون" التابعة للتيار الصدري بالصدارة بـ73 مقعداً في البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 329 مقعداً، وتلتها كتلة "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان المنتهية ولايته بـ38 مقعداً.
وفي المركز الثالث جاءت كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني وحصد 32 مقعداً. وفاز تحالف "الفتح والبناء" برئاسة القيادي في "الحشد الشعبي" هادي العامري بـ17 مقعداً فقط، بينما سجل تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم رئيس تيار "الحكمة" المتحالف مع تحالف "النصر" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، "التراجع الأكبر" بين القوائم والتحالفات الشيعية، بحصولهما على 4 مقاعد فقط. بينما حصدت أحزاب ناشئة وشخصيات مستقلة نحو 40 مقعداً.
ماذا يريد مقتدى الصدر؟
مقتدى الصدر، الذي كان قد بدأ التحضير للانتخابات مبكراً وأعلن متحدثون باسمه أنه يسعى للفوز وتولي منصب رئاسة الحكومة، ألقى "خطاب النصر"، الذي جاء أشبه بـ"برنامج عمل" للحكومة المقبلة، في اليوم التالي للانتخابات مباشرة.
فقد تحدث مقتدى الصدر بُعيد الإعلان عن النتائج الأولية، مرحباً بكل السفارات الأجنبية في العراق، دون أن تتدخل بالشؤون العراقية، ومهدداً في الوقت ذاته: "وإلّا سيكون هناك رد دبلوماسي أو شعبي". وفي الشأن الداخلي، قال الصدر إنه منذ اللحظة "يجب حصر السلاح بيد الدولة ومنع استخدامه خارج هذا النطاق، وإن كان ممَّن يدعون المقاومة"، في إشارة مباشرة إلى ميليشيات الحشد الشعبي المسلحة والحليفة لإيران.
وبعد أن صدقت المحكمة الاتحادية على النتائج رسمياً، أعاد رئيس الكتلة الصدرية تأكيد التزامه بتشكيل حكومة "أغلبية وطنية" بعد الانتهاء من اجتماعه بوفد الإطار التنسيقي برئاسة هادي العامري وحضور قيادات أخرى.
وفي إطار التحركات السياسية التي باتت تتخذ طابعاً تفاوضياً على شكل الحكومة الجديدة، التقى مقتدى الصدر في مقر إقامته بالنجف، الأربعاء 29 ديسمبر/كانون الأول، وفداً من الإطار التنسيقي (يضم غالبية القوى الشيعية المعترضة على نتائج الانتخابات) برئاسة هادي العامري رئيس تحالف الفتح وعضوية رئيس تحالف العقد الوطني فالح الفياض والأمين العام لحركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي.
وكان لافتاً غياب رئيس تحالف دولة القانون نوري المالكي الذي يُعد القيادي الأبرز في الإطار التنسيقي، وتحالف قوى الدولة الوطنية برئاسة عمار الحكيم وحيدر العبادي وهو التحالف الأقرب إلى توجهات الكتلة الصدرية والأكثر بعداً عن التأثير الإيراني، بحسب مقال لوكالة الأناضول.
وبعد يوم من إعلان المحكمة الاتحادية المصادقة على نتائج الانتخابات، توجه رئيس الكتلة الصدرية بالشكر إلى المحكمة ومفوضية الانتخابات والممثلة الخاصة للأمم المتحدة جينين بلاسخارت لمساهمتهم في إنجاح الانتخابات، ودعا إلى ضرورة الحفاظ على الأمن والسلام في العراق، والإسراع في تشكيل "حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، في إشارة واضحة إلى رفض ما كانت تشهده الدورات الانتخابية السابقة من تدخلات الولايات المتحدة وإيران.
ووفقاً للآليات المعتمدة في المادة 54 من الدستور يدعو رئيس الجمهورية مجلس النواب للانعقاد خلال خمسة عشر يوماً من المصادقة على نتائج الانتخابات العامة، أي قبل أو بحلول 10 يناير/كانون الثاني 2022، على أن ينتخب في جلسته الأولى رئيساَ للمجلس بالأغلبية المطلقة (النصف زائد واحد، أي 165 صوتاً)، ورئيساً للجمهورية وفق المادة 70 من الدستور بأغلبية ثلثي الأعضاء أو بأعلى الأصوات بين المرشحين في حال فشلوا في الحصول على أغلبية الثلثين.
ويكلف رئيس الجمهورية المُنتخب حسب المادة 76 من الدستور "مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال 15 يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية"، على أن يقدّم "رئيس الوزراء المكلف، تسمية أعضاء وزارته، خلال مدةٍ أقصاها 30 يوماً من تاريخ التكليف"، وعرض "أسماء أعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقتها، عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري، بالأغلبية المطلقة".
هل يتمكن الصدر من تشكيل الحكومة الجديدة؟
على الرغم من فوز التيار الصدري بالمركز الأول في الانتخابات، إلا أن حصوله على 73 مقعداً لا يعني تلقائياً أن يتمكن من تشكيل الحكومة، إذ لا بد للتكتل الذي سيشكل الحكومة من امتلاك على الأقل أغلبية بسيطة من مقاعد البرلمان، أي 165 مقعداً من 329. ففي أعقاب الانتخابات السابقة في 2018، تحالف التيار الصدري (54 مقعداً) مع تيار "الفتح" (48 مقعداً) وانضمت إليهما كتل أخرى واختاروا عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة.
لكن الأمور مختلفة تماماً هذه المرة، في ظل عدد من المتغيرات أبرزها الانقلاب الذي شهدته حصص التكتلات والأحزاب التقليدية من جهة، وتداعيات الحراك الشعبي أو الاحتجاجات أو الثورة- على حسب التسميات المختلفة للانتفاضة ضد الفساد وضد الطبقة السياسية ونظام المحاصصة الطائفية- على المشهد السياسي في العراق من جهة أخرى.
فمع اندلاع الاحتجاجات في أكتوبر/تشرين الأول 2019، اتخذ مقتدى الصدر موقفاً معلناً ضد التدخل الخارجي في شؤون العراق، وهو ما ميزه عن فصائل الحشد الشعبي المدعومة من إيران، وبالتالي فإن هذا الموقف يجعل من تكرار التحالف بين "سائرون" الصدري وأي من أحزاب وفصائل "الإطار التنسيقي" احتمالاً صعباً، بحسب المراقبين.
ورصد تحليل لموقع VOANews الأمريكي فرص الصدر في تشكيل أغلبية تسمح بتشكيل الحكومة، إذ ليس واضحاً ما قد تسفر عنه المفاوضات الجارية في ظل تغير التحالفات من جهة، وفي ظل تخوف الأحزاب السياسية الخاصة بالحشد الشعبي، المدعوم من إيران، من إصرار الصدر على تحقيق ما عجزت عنه الحكومات السابقة حتى الآن وهو تجريد الميليشيات من السلاح وحصره بيد الدولة.
ويرى محللون أن مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية هذه المرة لن تكون على الأرجح قائمة على أسس أيديولوجية، ولكنها ستعتمد على "المصالح السياسية الضيقة"، وسيكون التركيز الأكبر على الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة، في توقيت صعب يجد العراق نفسه فيه في مفترق طرق بشأن المستقبل. وفي حالة نجاح الصدر في تشكيل تحالف يسمح له بتشكيل الحكومة، فإن ذلك يعني بداية النهاية للنفوذ الإيراني في البلاد.
هل يكون الكاظمي المخرج الأوحد في نهاية المطاف؟
معظم قوى الإطار التنسيقي أعلنت احترامها لقرار المحكمة الاتحادية وقبولها به مع إبداء تحفظات على مجمل العملية الانتخابية التي شابها "التزوير والتلاعب"، والتشكيك باستقلالية المحكمة وقراراتها واتهامها بالخضوع لتوجيهات جهات خارجية.
ويُعتقد أن موقف قوى الإطار التنسيقي كان استجابة لرغبة إيرانية في عدم التصعيد مع الكتلة الصدرية والحكومة الاتحادية في الوقت الذي تكمل فيه القوات الأجنبية انسحابها من العراق، وهي رغبة إيرانية في المقام الأول، وضرورة الحفاظ على وحدة وقوة البيت الشيعي وتماسكه في مرحلة ما بعد الانسحاب بالتوافق على تشكيل حكومة لا تستثني أحداً من الكيانات الشيعية الفائزة في الانتخابات، بحسب تحليل الأناضول.
وليس من المؤكد أن يستجيب رئيس الكتلة الصدرية مقتدى الصدر لرغبات إيران بالتنازل عن خيار حكومة الأغلبية الوطنية والذهاب إلى تشكيل "حكومة تشاركية" لإدارة البلاد لمواجهة تهديدات محتملة من التنظيمات المتطرفة، مثل تنظيم داعش، بعد الانسحاب الأمريكي في استذكار لاحتمالات تكرار الحالة الأفغانية في العراق.
لكن خبراء في الانتخابات العراقية يعتقدون أن الكتلة الصدرية لا تملك ما يكفي من التحالفات للإعلان عن الكتلة النيابية الأكثر عدداً وتسمية مرشحها لرئاسة الحكومة الجديدة الذي سيكون عليه الحصول على الأغلبية المطلقة، أي النصف زائد واحد من مجموع أعضاء مجلس النواب، وهو أمر مستبعد دون عقد تحالفات مع قوى الإطار التنسيقي أو مع القوى السنية أو الكردية.
وتواجه الكتلة الصدرية تحدي احتمالات نجاح قوى الإطار التنسيقي في حشد عدد من المقاعد أكبر من عدد مقاعدها، بما يؤهل قوى الإطار لإعلان الكتلة النيابية الأكثر عدداً، وهو احتمال وارد وفق تصريحات لقيادات في الإطار تتحدث عن تفاهمات جانبية وتحالفات غير معلنة رسمياً مع عدد من الكتل الصغيرة والمستقلين ستفضي إلى حشد ما يزيد عن 90 مقعداً، وهو ما قد لا تنجح الكتلة الصدرية في تخطيه.
وشهدت الساعات والأيام التي تلت مصادقة المحكمة الاتحادية تغيّراً واضحاً في خطاب قوى الإطار التنسيقي مسجلاً غياب خيارات التهديد باللجوء إلى السلاح وفرض الأمر الواقع إلى خطاب أكثر مرونة، في محاولة منه للمشاركة بتشكيل الحكومة الجديدة وعدم استبعاده منها بعد تمسك الكتلة الصدرية بخيار حكومة الأغلبية الوطنية.
وقد تجد القوى الشيعية المتنافسة، الكتلة الصدرية والإطار التنسيقي، نفسها أمام طريق مسدود يرغمها على تبني خيار يبدو أكثر قبولاً ويلبي رغبات عموم القوى السياسية الشيعية والكردية والسنية خارج الكتلة الصدرية، وهو خيار حكومة "أغلبية موسعة" سبق أن طرحها عمار الحكيم كسبيل للخروج من الأزمة السياسية وضمان تشكيل الحكومة بأغلبية تُنحي جانباً التجاذبات السياسية التي تحولُ دون الإسراع بتشكيل الحكومة المقبلة.
وترى القوى العراقية أن تشكيل حكومة جديدة من شأنه أن يبدد مخاوف الكثير من القوى السياسية والاجتماعية من مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق في ظل زيادة واضحة في نشاطات تنظيم داعش، وكذلك التهديدات المحتملة للمجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران التي فقدت شرعية وجودها بإكمال الانسحاب الأمريكي.
وترفض تلك المجموعات تسليم أسلحتها تحت أي ذريعة كانت، وهو ما قد يثير حالة من انعدام الأمن والاستقرار في حال لجأت الحكومة الجديدة إلى تنفيذ تعهدات رئيس الكتلة الصدرية بحصر السلاح بيد الدولة، وإعادة إدماج مقاتلي الحشد الشعبي في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية بعد تطهيره من العناصر غير المنضبطة.
نيكولاس هيراس، المحلل البارز في معهد نيولاينز بواشنطن، قال لموقع VOANews إنه لا توجد ضمانات بأن يحتفظ مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الحالي بمنصبه: "هناك احتمال ضئيل بأن يتم استبدال الكاظمي، رغم عدم وجود بديل أكثر قبولاً من أغلب الأطراف حالياً".
وأضاف هيراس أن تولي الكاظمي رئاسة الوزراء صيف 2020 كان بمثابة حل وسط وافقت عليه جميع الأطراف، الإيرانيون والأمريكيون والسنة والشيعة والأكراد، ولا يزال هذا المنطق هو الغالب على المشهد حتى الآن.
وترى الصحفية مينا العريبي أن نقطة القوة الرئيسية التي تصب في صالح الكاظمي كونه لا ينتمي لحزب سياسي ويراه أغلب العراقيين سياسياً قومياً لا يخضع للحسابات الطائفية أو العرقية، وهو ما يجعله الخيار الأكثر قبولاً حتى الآن، ما لم تحدث مفاجآت في المفاوضات الحالية ينجح من خلالها الإطار التنسيقي (الحشد الشعبي) الأقرب لإيران في الحصول على أغلبية تسمح بتشكيل الحكومة.