"استقالة حمدوك من رئاسة الحكومة السودانية ستحدث خلال ساعات"، بات هذا التسريب يتكرر على وسائل الإعلام، لدرجة أنه لم يعد يثير الاهتمام، الأمر الذي يثير تساؤلاً حول أسباب حرص رئيس الوزراء السوداني على استمرار تسريب هذه الأخبار.
فهل فعلاً يريد حمدوك الاستقالة أم أنه يحاول تخفيف غضب المعارضة ضده بالتبرؤ من ممارسات النظام ضد المتظاهرين، وهل يستخدم حمدوك ورقة الاستقالة لنيل مكاسب من رئيس مجلس السيادة السوداني الحاكم عبد الفتاح البرهان، أم أنه يريد الاستقالة فعلاً، ثم يعدل عنها بسبب ضغوط الغرب والمحيطين به.
وحمدوك هو رئيس الحكومة السودانية، منذ أن بدأت في 21 أغسطس/آب 2019، فترة انتقالية كان يُفترض أن تنتهي بإجراء انتخابات، في يوليو/تموز 2023، يتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة، وقّعت مع الحكومة في 2020 اتفاقاً لإحلال السلام.
ومنذ 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يشهد السودان احتجاجات رفضاً لإجراءات اتَّخذها البرهان في ذلك اليوم، تتضمن إعلان حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين وعزل حمدوك، واعتقال قيادات حزبية ومسؤولين، وهو ما اعتبرته قوى سياسية ومدنية "انقلاباً عسكرياً" مقابل نفي من الجيش.
وعاد حمدوك لمنصبه بعد مظاهرات من المعارضة السودانية، ووساطة أمريكية أدت إلى اتفاق بين البرهان وحمدوك، وقع في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تضمَّن عودة الأخير لمنصبه، وتشكيل حكومة كفاءات (بلا انتماءات حزبية)، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتعهّد الطرفين بالعمل معاً لاستكمال المسار الديمقراطي.
وقال حمدوك إنه أبرمه الاتفاق لحماية الإنجازات التي تحققت في المجال الاقتصادي للسودان.
ولكن ائتلاف قوى الحرية والتغيير الذي كان قد رشح حمدوك بعد الثورة السودانية لمنصبه عقب الثورة السودانية، رفض اتفاق عودة حمدوك وطالب بإنهاء حكم البرهان وإنهاء الشراكة بين العسكريين ومن يوصفون بالقوى المدنية.
التسريبات بشأن استقالة حمدوك بدأت مع تصاعد العنف ضد المحتجين
وبدأت تسريبات استقالة حمدوك مع توالي الأنباء عن عنف السلطة ضد مظاهرات الاحتجاج التي نظّمتها المعارضة السودانية، ما وضع حمدوك في موقف حرج يظهر فيه شريكاً في جرائم ترتكب بحق من جاءوا به للسلطة.
وخلال هذه الاحتجاجات سقط نحو 48 قتيلاً ومئات الجرحى، بحسب لجنة "أطباء السودان" (غير حكومية) وقوى سياسية ومدنية تعتبر إجراءات البرهان "انقلاباً عسكرياً"، مقابل نفي من الجيش.
ووفق خبير سياسي، تحدث للأناضول، فإن حمدوك يرغب في الاستقالة لعدم قدرته على حشد دعم شعبي لاتفاقه السياسي مع البرهان، وفقدانه القوى السياسية الداعمة له، وهي ائتلاف قوى "إعلان الحرية والتغيير".
فيما ذهب آخر إلى أن تسريبات الاستقالة بدأت كمناورة من حمدوك للضغط على البرهان لكسب مزيد من الصلاحيات، ثم أصبحت أمراً واقعاً؛ إثر تمسك الحركات المسلحة بمناصب حكومية دون الالتزام بشرط "الكفاءات"، وإعادة منح جهاز المخابرات سلطة الاعتقال، وهي الشروط التي تجعل حمدوك رئيس وزراء بلا سلطة فعلية.
قبل نحو عشرة أيام، قالت مصادر مقربة من حمدوك إنه "يعتزم تقديم استقالته"، وذلك بعد نحو 40 يوماً على إعادته لمنصبه، بحسب وسائل إعلام عربية ودولية.
وعاد حديث الاستقالة، الإثنين 27 ديسمبر/كانون الأول 2021، إذ نقلت صحيفة "السوداني" (خاصة) عن مصادر مطلعة، أن حمدوك معتكف في منزله منذ أيام، و"أخطر طاقم مكتبه بأنه أبلغ المكون العسكري (في السلطة الانتقالية) باستقالته، خلال اجتماع مع رئيس مجلس السيادة (الانتقالي)، عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)".
وقال مصدر مقرب من رئيس الوزراء، للأناضول الإثنين، إن "حمدوك أبلغ المكون العسكري باستقالته شفاهةً، وليس بشكل رسمي ومكتوب".
حزب الأمة يرفضها
والثلاثاء، حذّر رئيس حزب الأمة القومي فضل الله برمة ناصر، من أن استقالة حمدوك ستكون كارثة على البلاد داخلياً وخارجياً.
وأضاف ناصر، خلال مؤتمر صحفي: "ذهبنا إلى حمدوك لنثنيه عن الاستقالة، وطلبنا منه أن يصمد ونتشارك في تصحيح الأوضاع الحالية".
والسبت، قال مكتب رئيس الوزراء، في بيان، إن حمدوك التقى وفداً من قيادة حزب الأمة، لبحث سبل الخروج من الأزمة السياسية.
وسلم حزب الأمة، الأربعاء، البرهان نسخة من خريطة طريق "لاستعادة الشرعية واستكمال مهام المرحلة الانتقالية"، وفق بيان للحزب.
وحزب الأمة من أكبر أحزاب قوى "إعلان الحرية والتغيير"، ويكاد يكون الوحيد في الائتلاف الحاكم سابقاً الذي يتمسك باستمرار حمدوك في منصبه، إذ تصفه الكتل الأخرى بـ"رئيس الوزراء الانقلابي"، وترى أن "الاستقالة تخصه هو، لأن الشعب تجاوزه بعد أن أصبح جزءاً من السلطة الانقلابية"، على حد تقديرها.
حمدوك بات يعاني عزلة سياسية وشعبية
وعقب خروج حمدوك من إقامته الإجبارية، وتوقيعه الاتفاق السياسي مع البرهان، قال إن هناك تحديات وعقبات ستواجهه.
ورهن حمدوك، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2021، بقاءه في منصبه بتطبيق الاتفاق السياسي مع الجيش، والتوافق بين القوى السياسية.
وصرّح في مقابلة مع قناة "سودانية 24" (خاصة)، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بأنه "لو رأى الشعب السوداني أن الاتفاق لا يلبي مصلحته فإنني سأتقدم باستقالتي".
وقال أمير بابكر عبد الله، خبير سياسي، إن "استقالة حمدوك تعود لعدم قدرته على إكساب شعبية لاتفاقه مع البرهان، وفقدانه للقوى السياسية الداعمة له، والمتمثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير".
ورأى عبد الله، في حديث للأناضول، أن "حمدوك فقد الكثير من شعبيته، وأصبح شبه معزول مع استمرار الاحتجاجات الرافضة لاتفاقه مع البرهان".
واعتبر أن "هذه العزلة السياسية والشعبية جعلت حمدوك محسوباً على معسكر قائد الجيش، ما يعني أنه يتحمل جزءاً من إعاقة الانتقال الديمقراطي بعد قبوله العمل مع العسكر في المرحلة المقبلة".
وحمدوك كان يحظى بشعبية واسعة بوصفه رمزاً مدنياً للسلطة الانتقالية، لكن استقالته، وفق مراقبين، لن يكون لها تأثير على الشارع، فالشارع المحتج ليس طرفاً في اتفاق 21 نوفمبر/تشرين الثاني الذي وقعه مع البرهان.
استقالة حمدوك كانت مجرد مناورة ولكنها صارت أداته الوحيدة
أما عمرو شعبان، خبير سياسي، فرأى في حديث للأناضول، أن التسريب بشأن "اعتزام رئيس الوزراء الاستقالة كان في البداية مجرد مناورة للفت الانتباه والضغط (على البرهان) لكسب مزيد من الصلاحيات".
واستدرك: "لكن بعد إصرار الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام على التمسك بمناصبها في الحكومة دون الالتزام بشرط الكفاءات، وقرار منح جهاز المخابرات سلطات الاعتقال، أصبحت استقالته أمراً واقعاً".
والإثنين، ذكرت تقارير إعلامية أن البرهان أصدر تفويضاً بمنح جهاز المخابرات العامة سلطات القبض على الأشخاص والاعتقال والتفتيش والرقابة على الممتلكات والمنشآت والحجز على الأموال وحظر أو تنظيم حركة الأشخاص.
وكانت هذه الصلاحيات قد سُحبت من جهاز المخابرات في أعقاب الإطاحة بالرئيس عمر البشير، في 11 أبريل/نيسان 2019، وذلك في ظل غضب شعبي واتهامات للمخابرات بارتكاب انتهاكات عديدة بينها اعتقالات واسعة.
وأردف شعبان: "بعد أن أصبح مضي حمدوك في استقالته أمراً واقعاً عقب إخطاره لمكتبه بذلك، بدأت الاتصالات والوساطات الإقليمية والدولية تدخل على الخط في محاولة لثنيه عن ذلك".
وزاد بأن "اتصالات المبعوث الأممي للسودان فولكر بيرتس، ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، تأتي لتأكيد أهمية استقرار السودان في الوقت الحالي وربط ذلك بوجود حمدوك في رئاسة الوزراء".
وأجرى بن فرحان مؤخراً مباحثات هاتفية مع كل من البرهان وحمدوك، أكد فيها حرص السعودية على تشكيل حكومة بالسودان في أقرب وقت، والتوافق بين المكونين العسكري والمدني.
كما تلقّى حمدوك اتصالين من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، والمبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان، لحثه على العدول عن فكرة الاستقالة، وفق إعلام محلي.
حملة اعتقالات استباقاً للمظاهرات
ولكن يبدو أن تلويح حمدوك بالاستقالة لم يثنِ السلطات العسكرية عن قمعها للمحتجين، ما يضعف موقفه أمام المعارضة.
فلقد اتّهم "تجمع المهنيين السودانيين"، قائد الحراك الاحتجاجي في البلاد، أجهزة الأمن بتنفيذ حملة اعتقالات "مسعورة" تستهدف أعضاء في "القوى الثورية"، استباقاً لمظاهرات مرتقبة، الخميس 30 ديسمبر/كانون الأول 2021، للمطالبة بحكم مدني كامل.
وقال التجمع، في بيان الخميس: "تنفذ القوات والميليشيات المأجورة التابعة للمجلس العسكري الانقلابي في هذه اللحظات حملة مسعورة من الاعتقالات، تستهدف عضوية القوى الثورية في لجان المقاومة والقوى النقابية".
والأربعاء، أعلنت السلطات إغلاق معظم جسور العاصمة الخرطوم، عشية احتجاجات مرتقبة بدعوة من قوى سياسية، بينها "لجان المقاومة" و"تجمع المهنيين"، رفضاً للاتفاق السياسي الموقع بين قائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وللمطالبة بحكم مدني كامل.
ومن الواضح أن العسكريين لم يمنحوا حمدوك ما يريد ولن يمنحوه في الأغلب، والقوى المدنية أغلبها يراه حليفاً للعسكريين أو متخاذلاً في أفضل الأحوال، وأن حمدوك لم يعد يؤيده سوى بعض المحيطين به وحزب الأمة إضافة للدعم الدولي والإقليمي.