بعد إعلان المفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية تعذُّر إجراء الاستحقاق الانتخابي في موعده المقرر في 24 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بدأ التساؤل حول عواقب هذا التأجيل للانتخابات، وما الذي سيحدث للسلطات الحاكمة حالياً، وهل ستحدث انتخابات في القريب العاجل أم البعيد الآجل، وهل ستعرض الأمم المتحدة خارطة طريق جديدة أم لا؟
عقب تأجيل الانتخابات مباشرة ظهر نزاع بين مجموع الكيانات القائمة حول من يتولى زمام القيادة في هذه المرحلة، وبدأ الجدل بين مختلف المرشحين والقوى لنزع السلطة من حكومة الوحدة الوطنية، بعد اتهام رئيسها عبد الحميد الدبيبة بالفساد، وبدأ مجلس النواب في طبرق فعلياً يتحدث عن نزع الثقة من الحكومة، وإعداد لجنة لوضع خارطة جديدة بمعزل عن القوى في المنطقة الغربية، باعتباره السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد، حسب تصريح بعض أعضاء مجلس النواب.
هذا الوضع جعل التكهنات والقلق والخوف من المستقبل تسيطر على الرأي العام، وبدا النزاع حول الشرعية والسلطة ظاهراً بين كافة القوى، وتغيرت خارطة التحالفات بعد زيارة فتحي باشاغا لخليفة حفتر في بنغازي، والسلام عليه بحفاوة، والجلوس معه، والحديث عن المصلحة الوطنية المشتركة، ما أثار موجة غضب ضد فتحي باشاغا في الغرب الليبي، وفي المقابل كان هناك رضا من بعض الأطراف، بل واعتبارها خطوة شجاعة تصب في مصلحة القضية الوطنية.
هذا الجدل يأتي في سياق أزمة عمرها 10 سنوات منذ اندلاع ثورة في فبراير/شباط عام 2011، وتتمحور الأزمة حول بناء الشرعية بعد القضاء على الانقسام وإيجاد أرضية مشتركة تتجاوز العنف السياسي كسبيل للوصول للسلطة في ليبيا. هذا التوصيف يعني أن الشرعية هنا تعنى وجود سلطة تُمثل أرضية مشتركة بين مجموع القوى الفاعلة في ليبيا، وهذا شرط أساسي للمضي قدماً نحو الاستقرار.
يبدو أن المسار الكلي للأزمة يتجه نحو مزيد من التشظّي والانقسام، لأن تأجيل الانتخابات وتعثّر اجتماع لجنة 75 التي شكّلتها البعثة الأممية -لتقوم بوضع خارطة الطريق التي بموجبها أقرت الانتخابات التي أجلت- خلق حالة من التنافس على الحكومة والسلطة التنفيذية، ورغبة من بعض الأطراف، متمثلة في مجلس النواب وحفتر، في الاستفراد برسم المشهد الليبي، قبل الاتفاق مع الأطراف التي ترفض هذا الاستفراد من مجلس النواب، التطور اللافت هنا أن الانقسام لم يعد بين شرق وغرب، بل بين مجموعة قوى في الشرق والغرب، تحالفت خلال أزمة الانتخابات، أي أن حالة الانقسام مستمرة، وهذا تطور لافت. لفهم هذه المعادلة التي يبدو أنها تزداد تعقيداً نضع ثلاثة سيناريوهات، نحاول تتبُّع مساراتها في الأزمة الليبية.
مجلس النواب والانفراد بالقرار
بعد أن تأكد للجميع استحالة إجراء الانتخابات في موعدها، بدأ بعض أعضاء مجلس النواب يتحدثون عن أنه لم يعد أمام الليبيين سوى مجلس النواب ليقرَّ خارطة الطريق للمشهد القادم، وأنه لم تعد هناك لجنة 75 التي اختارتها الأمم المتحدة كلجنة حوار تعبر عن القوى السياسية في الساحة الليبية، وبالفعل كانت هناك جلسة لمجلس النواب، في 27 ديسمبر/كانون الأول، وكان النقاش حول الانتخابات، وعرضت في الجلسة تقارير من جهات عدة تتعلق بالانتخابات، وعُرِض كذلك تقرير اللجنة المعينة من المجلس، لوضع خارطة الطريق التي يسعى المجلس لطرحها على الساحة السياسية في ليبيا.
ومن خلال النقاش الذي جرى في المجلس ظهرت توجهات بعرض خارطة طريق جديدة، ربما سيُستشار فيها المجلس الأعلى للدولة، وتتعلق بشكل كبير بالدستور القادم، ويسعى المجلس كذلك لمُساءلة مجلس إدارة المفوضية عن سبب تأجيل الانتخابات، ويسعى المجلس في هذه الجلسة لتغيير السلطة التنفيذية الحالية، بقيادة عبد الحميد الدبيبة، الأمر الذي يبدو أنه لا يلقى ترحيباً كبيراً في المجلس، على كل حال، فإن الجلسة تأجّلت لمزيد من النقاش وإصدار القرارات.
هذا الصعود لمجلس النواب يؤكد أن هناك محاولة من المجلس لقيادة البلد باعتباره السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد، وفقاً لاتفاق الصخيرات، الأمر الذي يرفضه المجلس الأعلى للدولة، إذ ينص الاتفاق على ضرورة استشارة المجلس في القرارات المفصلية التي تتعلق بالمسار السياسي الكلي للأزمة الليبية.
ورغم أن المجلس بعد غياب عقيلة صالح -الرئيس السابق للمجلس، المرشح الرئاسي الحالي- يبدو أكثر مرونة وعقلانية، فإن مقاربة "الأخذ بزمام المبادرة" ستُواجَه بصعوبات كثيرة، منها أن المسار الذي اتُّخِذَ في تونس، والذي بموجبه كان إقرار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفق قاعدة دستورية هو مسار أقره مجلس الأمن وأخذ شرعيته من هذا الإقرار الدولي، وهذا ما جعل "ستيفاني وليامز" المستشارة للبعثة -وفي الواقع هي من تقود البعثة الأممية في ليبيا- تؤكد على أنه يجب على مجلس النواب مراجعة التشريعات والقوانين التي صدرت لتنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
تصريحات الدول الكبرى كذلك تعد عائقاً أمام هذه السياسة التي يتبعها البرلمان، ومن ثم فإن القوى السياسية في الغرب، وخاصة العسكرية، ترفض هذا الاستفراد من مجلس النواب، وفي ظل هذا الانقسام سيحتاج المجلس لحوار طويل مع كافة الأطراف السياسية، ليظهر كقائد قادر على دفع الآخرين للتوافق بدلاً من التشبث بنص في اتفاق الصخيرات على أنه السلطة التشريعية للبلاد، الأمر الذي لا يمكن التحقق منه في الواقع، في ظل هذه البيئة السياسية المنقسمة والملبّدة بغيوم العنف السياسي والتدخل الخارجي.
هذه الخلفية تجعل سيناريو الاستفراد كالتالي؛ أن يستمر مجلس النواب في مسار الانتخابات، ويسعى لإدارة العملية الانتخابية بنفس الإجراءات، ومن الممكن أن يغير مجلس إدارة المفوضية، ويسعى لوضع بعض الضوابط للطعون القضائية، ويغير الحكومة في طرابلس، هذا سيجعل الأطراف السياسية في الغرب أكثر حدة، وهذا ما سيكرّس حالة انقسام، خاصة أن المجتمع الدولي سيقف موقف المتفرج، وهذا سيجعل المشهد يصاب بحالة شلل.
إذ إن حكومة طرابلس ستفترض أن لها شرعية جاءت من لجنة الحوار والانتخابات التي جرت في اللجنة، والتي أوصلت المجلس الرئاسي وعبد الحميد الدبيبة للحكم، وهكذا سندخل في حالة انقسام وجدل يستمر لفترة سنة أو سنتين، وربما تتخللها بعض العمليات العسكرية، التي يحاول كل طرف أن يفرض بها رؤيته، الدول الغربية نفسها ربما ستجد نفسها في حالة انقسام، خاصة إذا تصاعدت التصريحات الروسية بضرورة مؤازرة مجلس النواب على حساب القوى السياسية في الغرب الليبي. هذا المسار بيد مجلس النواب، إما أن يكون أكثر حكمة أو أن يستمر كعادته يأخذ مقاربة السلطة على حساب القيادة الحكيمة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ ليبيا.
لجنة الحوار والسلطة التأسيسية
منذ أن عملت ستيفاني وليامز كمستشار للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، كان من الواضح أنها تمثل وسيطاً قادراً على الحركة بين كافة الأطراف السياسية، في مثل هذه الظروف -وفقاً لنظرية الشبكات- يبدو الوسيط أكثر قدرة على التأثير من الأطراف المنطوية على نفسها، لذا فإن رؤية ستيفاني ستركز على استمرار المسار الذي اتفقت عليه لجنة الحوار، وإجراء الانتخابات بعد إجراء التعديلات اللازمة، ربما ستصر على بعض القضايا المفصلية التي تتعلق بالطعون وبقانون الانتخابات.
كما أنها ستسعى لتعديل سلوك مجلس النواب ليكون أكثر ليونة ومرونة، وستسعى لاستمرار حكومة الوحدة الوطنية، هذا المسار كما هو ظاهر يعارض القوة التي يحاول مجلس النواب إظهارها، لكنه -سياسياً- قد يجعل كافة الأطراف تخشى من فقدان سلطاتها، وظهورها كمعرقل للحل في ليبيا. روسيا من جهتها ستحاول أن تضغط على وجود رئيس فعلي للبعثة، إذ إنها اليوم بدون رئيس فعلي بعد استقالة المبعوث الأممي بان كوبيتش، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. إذا استطاعت ستيفاني أن تقوم بهذه الوساطة وتحريك الخوف لدى كل طرف من إمكانية ميول ستيفاني للطرف الآخر، خاصة في التقارير التي يصدرها مجلس الأمن، فإن المسار سيكون كالتالي:
تجتمع لجنة الحوار وتدعو لتحديد موعد قريب للانتخابات، ويعود مجلس النواب لعقد جلسة يُجري فيها تعديلات بسيطة على قانون الانتخابات، ومن الممكن أن يحدد مكان واحد لجميع الطعون الانتخابية، في تلك الأثناء يحدث تغيير وزاري في حكومة الدبيبة، وحينها سنبدأ في ماراثون جديد من البحث عن عملية انتخابية، يمكن من خلالها وصول بعض الأطراف التي هي أقرب للولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية، بعد توافق بين بعض القوى في الشرق والغرب الليبي، أي أنها صفقة من خلالها يستبعد سيف القذافي، حتى يضعف الموقف الروسي في ليبيا، وتخرج قوات الفاغنر.
يبدو أن الحوار سيطول حول تلك الصفقة بين خليفة حفتر والقوى الغربية، لكنها ممكنة، وربما سيتنافس عبد الحميد الدبيبة وفتحي باشاغا للوصول لصفقة مع خليفة حفتر، لا نستغرب فإن وجود وسيط مثل ستيفاني وليامز قد يحفز سلوك الأطراف السياسية لحساب التكلفة السياسية للمواقف الصلبة والعنف، وهذا قد يقود لحالة -لها شواهد تاريخية كثيرة- حين نجد أن أعداء الأمس يقودون سلطات تنفيذية واحدة. هذا السيناريو رغم أنه أكثر تفاؤلاً، فإن عودة المشهد في أي لحظة ممكنة، كما هو ظاهر من التناقضات والاستقطاب الحاد بين كافة الأطراف.
الانقسام والبحث عن مخرج
في كل من السيناريوهات السابقة هنالك تناقضات تعتمد على سلوك الأطراف السياسية، وهذا سيعتمد على ما يُعرف بنظرية اللعبة، حين نحاول توقع سلوك كل طرف، لكن إذا حدث وتربص كل طرف بنصوص قانونية ضيقة على حساب الرؤية الكلية للمشهد فإن حالة الانقسام ستزداد، ويزداد معها الاستقطاب الدولي، هنا سيُفتح المشهد على سيناريوهات سيئة، أقلها أن تكون حالة من الانقسام غير معلنة، وأسوأها هو دخول القوى العظمى في حرب باردة، تتخللها بعض السخونة في حرب قائمة بالفعل، للسيطرة على أهم ممر لإفريقيا في سواحل المتوسط وهو ليبيا.
هذه السيناريوهات أقلها واقعية هو الانقسام؛ نظراً لأن الأطراف لها حافز سياسي كبير للبقاء في المشهد، وأكثرها واقعية هو السيناريو الثاني؛ لأن قوة المجتمع الدولي ومؤسساته أكبر بكثير من الفاعلين السياسيين في ليبيا، في ظل غياب لتيارات وطنية قادرة على نزع القرار من مخالب القوى الدولية والديناصورات السياسية المحلية.