متى بدأ صعود الصين لتصبح المنافس الأبرز للولايات المتحدة على المسرح العالمي؟ يرى كثيرون أن تولي شي بينغ الرئاسة كان الانطلاقة الحقيقية لتغيير التفكير الصيني، والسبب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
الصين الآن تتمتع بثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ويقول أغلب خبراء الاقتصاد إن بكين قد تزيح واشنطن من الصدارة على المدى القصير، ومن الناحية العسكرية بات جيش التحرير الشعبي الصيني واحداً من أقوى جيوش العالم وأكثرها تسليحاً وتطوراً.
أما من الناحية السياسية والدبلوماسية، فقد أصبحت الصين، العضو الدائم في مجلس الأمن، حاضرة بصورة أو بأخرى، في أغلب النقاط الساخنة حول الكوكب، وباتت مواقفها من أي صراع قوة لا يستهان بها، بعد عقود من الدبلوماسية الهادئة وغير المشاركة في أغلب الأحيان.
نبوءة دينغ تشاو تحققت قبل موعدها.. بكثير
على مدى عقود، كان الغرب ينظر إلى الصين على أنها قوة اقتصادية سريعة النمو في ظلِّ الهيمنة الأمريكية، خصوصاً خلال حقبة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي من جهة والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى.
إذ على الرغم من أن الصين والاتحاد السوفييتي ينتميان فكرياً إلى المعسكر الشرقي أو الشيوعي، فإن العداء بين الجانبين، والذي وصل إلى حد الصراع المسلح في بعض الأحيان، حال دون أن تنضم الصين إلى هذا المعسكر، فزعامة المعسكر الشيوعي لم تكن لتتسع بأي حال من الأحول للدب الروسي والتنين الصيني معاً.
وهكذا ركزت الصين على مواجهة تحدياتها الداخلية، مبتعدة بصورة كاملة تقريباً عن الانشغال بالظهور على المسرح الدولي كقوة عظمى. واستمرت هذه السياسة، التي شهدت تحوُّل الصين تدريجياً إلى المحرك الأول لاقتصاد العالم أو "مصنع العالم" كما يشير إليها الباحثون الغربيون، حتى ما بعد حقبة دينغ تشاو بينغ، مهندس نهضة الصين الاقتصادية وأحد أهم زعمائها على الإطلاق بعد ماو تسي تونغ مؤسس.
تولى دينغ تشاو رئاسة البلاد بين عامي 1978 و1992، وقاد الصين نحو تبني اقتصاد السوق وأرسل بعثات طلابية إلى الدول الغربية لدراسة الاقتصاد والتكنولوجيا، وكانت له نبوءة شهيرة يقول فيها إن الصين "تحتاج نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية"، قبل أن تمارس دورها كقوة عظمى على المسرح الدولي.
كان دينغ تشاو قد أطلق تلك النبوءة عام 1978، وبالتالي تنتهي تلك الفترة الزمنية التي حددها عام 2028. لكن دينغ، الذي توفي عام 1997، كان مخطئاً في تقديراته، فها هي الصين قد أكملت "عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية" وأصبحت قوة عظمى بالفعل تخشاها الولايات المتحدة وحلفاؤها، بحسب كثير من المحللين.
ففي العقدين الأخيرين من القرن الماضي لم تكن قضية "إعادة توحيد الصين"، أو ضم/غزو تايوان، على سبيل المثال، تُطرح للنقاش من الأساس، أما اليوم فيبدو أن بكين قد تفعلها في أي وقت وتفاجئ الجميع بغزو الجزيرة/الجمهورية التي تتمتع بمظلة حماية غربية.
شي جين بينغ ودرس انهيار الاتحاد السوفييتي
عندما تولى شي جين بينغ رئاسة الحزب الشيوعي الصيني وأصبح رئيساً للبلاد عام 2012، كانت الصين قد أصبحت بالفعل دولة قوية حديثة تتمتع باقتصاد من أقوى اقتصادات العالم، لكن خطابات شي في مؤتمرات الحزب الشيوعي واجتماعات الرئيس مع أعضاء اللجنة المركزية للحزب كانت تركز على "العدمية التاريخية".
ومصطلح "العدمية التاريخية" المقصود به عدم استفادة الأمم من دروس التاريخ وتجارب الماضي فتقع في فخ تكرار المآسي بصورة شبه كربونية. لكن تركيز الرئيس الصيني لم يكن على الاستفادة من دروس التاريخ الصيني، بل مما حدث للاتحاد السوفييتي.
وتناول تقرير لمجلة National Interest الأمريكية هذا الهوس من جانب شي جين بينغ بالعدمية التاريخية وانهيار الاتحاد السوفييتي، في تحليل بعنوان "شي لن يسمح لكوادر الحزب الشيوعي بأن ينسوا إذلال السوفييت".
ففي خطاباته العامة عندما تولى الرئاسة، حذّر شي أكثر من مرة، من العدمية التاريخية وتجاهل دروس الماضي، معتبراً إياها السبب الرئيسي لانهيار الاتحاد السوفييتي، وكان أيضاً قوة شيوعية كالصين: "كان هناك إنكار تام للتاريخ السوفييتي. إنكار للينين وستالين والسعي نحو العدمية التاريخية. وهكذا سقطت الأمة السوفييتية الاشتراكية العظيمة وتحطمت تماماً".
ومؤخراً سعى شي إلى استصدار قرار تاريخي لم يصدر سوى مرتين خلال مئة عام من تاريخ الحزب الشيوعي، الأولى عام 1945 مع ماو تسي تونغ والثانية عام 1981 مع دينغ تشاو بينغ، ليضع شي حقبته التاريخية على المستوى نفسه، وفي الوقت نفسه تعديل الدستور كي يترشح لفترة رئاسية ثالثة لم يحصل عليها غيره من قبل.
وهكذا وجدت عبارة "العدمية التاريخية" طريقها إلى محاضر اجتماعات القيادة المركزية للحزب الشيوعي، وأصبح الخوف من مصير الاتحاد السوفييتي محركاً أساسياً في استراتيجية الرئيس الصيني وقيادات الحزب. وهذا العام، أنشأ شي حملة رسمية لدراسة تاريخ الحزب الشيوعي، هي الأضخم على الإطلاق وتهدف إلى تثقيف الصينيين بمخاطر تجاهل ما حدث للاتحاد السوفييتي وكيف أن ذلك قد يتكرر في بلادهم.
لماذا يركز شي على انهيار الاتحاد السوفييتي؟
بحسب محللين صينيين تحدثوا للمجلة الأمريكية، عندما اتخذ ماو تسي تونغ القرار التاريخي الأول كان هدفه إسكات معارضيه، وعندما أقدم دينغ تشاو على اتخاذ القرار التاريخي الثاني كان هدفه الخروج من عباءة ماو الزعيم التاريخي، لكن شي، الذي لا يواجه تقريباً أي منافسين أقوياء داخل الحزب، أراد بالأساس أن يكون القرار بداية تاريخية لتأكيد زعامة الصين العالمية.
والطريق الآن بات مفتوحاً أمام شي ليظل رئيساً للحزب وللبلاد مدى الحياة، ولا يريد أن تخرج الأمور عن سيطرته كما حدث مع آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، ويرى كثير من المحللين أن ذلك هو السبب الرئيسي وراء تركيز الرئيس الصيني على التحذير من مصير الجار الشيوعي.
وكان الاتحاد السوفييتي السابق قد انهار وتفكك إلى جمهوريات مستقلة، لتنتهي فترة الحرب الباردة بانتصار كاسح للولايات المتحدة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وظلت واشنطن القوة العظمى الوحيدة تقريباً على الساحة الدولية لنحو عقدين من الزمان وأكثر.
والآن مع اشتداد حدة المنافسة بين بكين وواشنطن ودخول العالم تقريباً في أجواء مشابهة لأجواء الحرب الباردة بين السوفييت والغرب، مع الاختلافات الواضحة بالطبع، يبدو أن الرئيس الصيني يريد أن تكون القيادات الشابة في الحزب الشيوعي على دراية تامة بما حدث للاتحاد السوفييتي من انهيار.
وكانت مجلة The Diplomat الأمريكية قد نشرت تقريراً بعنوان: "كيف تتغيَّر القومية الصينية؟"، ألقى الضوء على الحرب الباردة الجديدة بين بكين وواشنطن، وكيف أن تفشي وباء كورونا كان محطة رئيسية على طريق إعلان الصين عن نفسها كقوة عالمية مسيطرة، من خلال إحياء "قومية الذئب المحارب".
فبينما يرتعد المواطنون حول العالم خوفاً من تبعات الجائحة، وجد الصقور السياسيون الأمريكيون والصينيون هذه الجائحة باعتبارها فرصةً مثاليةً لبعض الترسيخ الأيديولوجي.
إذ يرى المحافظون الجدد بالغرب في جائحة كوفيد-19، انفتاحاً محورياً من أجل تقويض ما ينظرون إليه باعتباره تهديداً رئيسياً وأيديولوجياً للنظام الليبرالي الغربي، بينما يرى الصقور الصينيون ردَّ الفعل تجاه الشركات الصينية، لا سيَّما الشركات الصينية بالخارج -وهو رد فعلٍ تفاقَمَ بسبب الجائحة الحالية- كدليلٍ على إثبات صحة وجهة نظرهم المُتمثِّلة في أن فقط التشديد العدائي والدفاعية المولعة بالصراعات هما ما يمكنهما "دعم" مصالح الصين على المسرح العالمي.
كيف يدير شي الصراع مع الولايات المتحدة؟
وفي هذا الإطار يبدو واضحاً أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، بتركيزه على انهيار الاتحاد السوفييتي، يسعى إلى تقوية جبهته الداخلية في مواجهة الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، قبل الإقدام على الخطوة الرئيسية التي يريد أن يذكره التاريخ الصيني بها، وهي إعادة توحيد تايوان مع الصين.
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لاتزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول، إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وخلال القمة الافتراضية بين شي وجو بايدن، كان ملف تايوان بالتحديد هو الأبرز على طاولة المناقشات، في ظل الاستعدادات الصينية المكثفة مؤخراً لإعادة ضم الجزيرة، والرفض الأمريكي لأي تغيير في الوضع الراهن.
وقال شي لبايدن إن بلاده ستضطر إلى اتخاذ "تدابير حازمة" إذا تجاوزت القوى المؤيدة لاستقلال تايوان "الخط الأحمر"، ونقلت وكالة أنباء شينخوا عن الرئيس الصيني، قوله: "تتحلى الصين بالصبر وتسعى لإعادة وحدة سلمية بكل إخلاص ودأب، لكن إذا أقدم المؤيدون لانفصال تايوان على استفزازات أو تجاوزوا الخط الأحمر، فسنضطر إلى اتخاذ إجراءات حاسمة".
وفي هذا الإطار، يأتي تركيز شي، في حواراته الداخلية والعامة، على ضرورة استفادة قادة الحزب الشيوعي من درس انهيار الاتحاد السوفييتي؛ حتى لا يتكرر الأمر نفسه مع الحزب الشيوعي الصيني، فهل يقصد انهيار الحزب الشيوعي أم هزيمة الصين في أي حرب تخوضها ضد الغرب بقيادة أمريكا، سواء كانت حرباً تجارية أو باردة أو ساخنة؟