رغم كل الحديث الغربي المعسول عن الزخم الجديد لمسار الانتخابات الليبية، كان المؤتمر الدولي حول ليبيا الذي استضافته باريس في الـ12 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بمثابة خيبة أملٍ كبيرة، كما تصف ذلك مجلة Foreign Policy الأمريكية. إذ كان المؤتمر مجرد دبلوماسيةٍ سطحية هدفه تأكيد مكانة فرنسا كطرفٍ كبير في مستقبل ليبيا، بدلاً من التطرّق إلى المواقف العنيدة لمختلف الأطراف الليبية، ومعالجة القضايا العالقة التي تُهدّد بتفكيك العملية السياسية القائمة وإغراق البلاد في فترةٍ أخرى من الفوضى.
دعوات الغرب لعقد الانتخابات الليبية الآن "دبلوماسية سطحية"
تقول المجلة الأمريكية إنه من المذهل كيف أنّ المؤتمر الفرنسي الذي تجاهل القضايا الأساسية -مثل ترشح سيف الإسلام القذافي، والجنرال الانقلابي خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح للرئاسة- يرى أنه المسؤول عن إرساء دعائم الانتقال الديمقراطي في ليبيا.
لكن مؤتمر باريس سلّط الضوء على أحد العوامل الرئيسية المسؤولة منذ وقتٍ طويل عن تقويض الدبلوماسية متعددة الجوانب بقيادة الأمم المتحدة: الاعتقاد الراسخ بأنّ إقامة انتخابات ستكون دواء كل داء وأنّها هدفٌ في حدّ ذاتها، بدلاً من أن تكون وسيلة لخلق الأوضاع اللازمة من أجل تحوّلٍ سلس ومنظم.
وقد تحوّلت الدعوات السطحية للانتخابات إلى ذريعة وجود للمجتمع الدولي- الذي يفتقر للكفاءة- كلما واجه حالةً من عدم الاستقرار السياسي. وهذا هو الحال في ليبيا، التي تُعتبر الانتخابات فيها بمثابة حلٍّ سحري لدى الغرب- بغض النظر عن توافر الظروف السياسية والاجتماعية والقانونية اللازمة لضمان التحوّل المستقر. وبالتالي ليس من المفاجئ أن نرى المشاركين في مؤتمر باريس يركزون أكثر على حثّ الليبيين على الالتزام بالجدول الزمني الذي وضعته الأمم المتحدة في فبراير/شباط، بينما يتجاهلون في الوقت ذاته العقبات القانونية والدستورية على طريق إقامة انتخابات حرة ونزيهة بصدق.
ولم يتطرّق أحدٌ مثلاً إلى العداء الشديد بين غرب وشرق ليبيا. ناهيك عن الجدل المُحيط برئيس البرلمان صالح، الذي أصدر قانون الانتخابات في مرسوم بشكلٍ أُحادي. إذ لا يحظى ذلك القانون بموافقة مجلس النواب أو المجلس الأعلى للدولة، أي أنّه يتعارض مع الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015. كما يسمح القانون لشاغلي المناصب العسكرية والمدنية بالتنحي عن مناصبهم أثناء فترة الترشح، مع إمكانية العودة إلى تلك المناصب في حال خسارتهم الانتخابات.
سيناريو الفوضى سيتكرر مجدداً في ليبيا
وتزيد هذه الأمور من احتمالية تكرار الفترة التي أعقبت انتخابات عام 2014 في حال خسر صالح وحفتر. فمنذ انتخابات يونيو/حزيران 2014، وقف كلاهما في وجه كل الجهود الدولية التي تستهدف الوصول بليبيا إلى بر الاستقرار والسلام. حيث دبّر حفتر انقلاباً عسكرياً ضد الحكومة المعترف بها دولياً، بينما رفض صالح الامتثال للاتفاق السياسي الليبي الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة عام 2015 ووقَّع عليه هو بنفسه.
وعلى الأمم المتحدة أن تطرح السؤال التالي: ما الهدف من إقامة العديد من المؤتمرات الدولية إذا لم تُطبّق قراراتها بشكلٍ كامل؟ وأين مصداقية الأمم المتحدة إذا سمحت لأطرافٍ سيئة السمعة بالمشاركة في العملية السياسية التي شاركوا في تخريبها، وإذا ظلّت قرارات مجلس الأمن مجرّد حبرٍ على ورق؟
والإجابة بحسب "فورين بوليسي" بسيطةٌ للغاية: في غياب التحرك القوي لتحجيم تلك الشخصيات الإشكالية، فإنّ الدعوات لـ"انتخابات حرة وديمقراطية" وسط المناخ السائد في ليبيا ستُؤدي ببساطة إلى فترةٍ مُطوّلة من عدم الاستقرار والفوضى بعد انقضاء الانتخابات. وبدلاً من أن يكون عقد الانتخابات هو محور عملية صنع السلام في ليبيا، كان على الأمم المتحدة والقوى الكبرى أن تتحلى بالشجاعة والقيادة الكافيتين لتسمية الأشياء بأسمائها.
وكان يُفترض أن يبدأ النقاش الواقعي حول مستقبل ليبيا بضمان امتثال كافة الدول الأجنبية ووكلائها لبنود اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2020 وقرارات الأمم المتحدة رقم 2570 و2571 من أبريل/نيسان العام الجاري.
لكن بعد فشل الأمم المتحدة في فرض شروطها على الأطراف الداخلية والإقليمية التي رحّبت بالقرارات ثم تجاهلتها، بات يتعيّن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التدخل وفرض عقوبات كبيرة على الأطراف الليبية مع التهديد بتعليق التعاون العسكري والأمني مع الأطراف الأجنبية.
وفعل ذلك يستوجب من بروكسل إعادة ترتيب أوراقها الداخلية أولاً في ما يتعلّق بدعم الأطراف الليبية المثيرة للمتاعب؛ إذ إنّ التنافس في ما بين دول الناتو والاتحاد الأوروبي وبعضها، كما يتجلّى في دعم فرنسا وإيطاليا لجبهتين متعارضتين في الصراع، يعني أنّ الغرب لا يستطيع مطالبة القوى الأجنبية الأخرى بالخروج من ليبيا بينما لا تزال بعض دوله تلعب دوراً محورياً في إطالة الصراع.
فرنسا لا تصلح أن تكون وسيطاً بين الليبيين
بحسب فورين بوليسي، فإن المشكلة الأخرى في مؤتمر باريس هي مشاركة فرنسا نفسها في الأزمة الليبية. فرغم إعلان دعمها للحكومة المؤقتة وجهود صنع السلام الخاصة بالأمم المتحدة، لكن الحكومة الفرنسية لها سجلٌ معروف من تزويد حفتر بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والتدريب. وبصفتها طرفاً له مصلحة مع تاريخٍ من الدعم المالي واللوجستي لأحد أطراف الصراع، فلا يحق لفرنسا أن تُنصّب نفسها كوسيط سلامٍ حقيقي في ليبيا إلا بعد أن تُنهي انتهاكها لحظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة.
وعودة الأمور لطبيعتها لم تعُد خياراً متاحاً. وسيكون المرء واهماً إن اعتقد بإمكانية إحداث تحوّل ديمقراطي سلس من خلال "انتخابات شفافة ونزيهة"، بينما لا يزال هناك 20 ألف مقاتل من المرتزقة والقوات الأجنبية على الأراضي الليبية.
ولا شكّ أنّ سحب المرتزقة الأجانب سيكون له دورٌ كبير في حرمان حفتر وحلفائه من مصدر نفوذٍ حاسم، مما سيتركهم بدون خيار سوى الالتزام بالتسوية السياسية. وهذا من شأنه أن يُمهِّد الطريق نحو ما يُشبه المصالحة بين الشرق والغرب، وهو شرطٌ واجب التحقق لضمان عدم انزلاق البلاد إلى الصراع المسلح من جديد.
ويجب أن تسير جهود تحقيق المصالحة جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة لحل العديد من القضايا الشائكة. وتشمل هذه القضايا آلية تقاسم السلطة بعد الانتخابات، وتخصيص الموارد بين مختلف أنحاء البلاد، ووضع الجيش تحت سيطرة الحكومة المؤقتة، والتوصل إلى اتفاقٍ شامل حول معايير وآليات التعيين في المناصب القيادية بالمؤسسات الحكومية بما يتوافق مع المادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي.
واستعجال الأمم المتحدة على تحقيق مكسبٍ سياسي يُشعرها بالرضا، بغض النظر عن المشهد السياسي الذي يسوده الاستقطاب والانقسامات في ليبيا، دفعنا إلى موقف تُخيّم خلاله سحابةٌ كثيفةٌ من عدم اليقين على الأجواء قبل ثلاثة أسابيع فقط من الانتخابات المقررة. ونتيجةً لذلك، تقترب ليبيا أكثر من دخول فترةٍ أخرى من الصراع المسلح والانقسامات.
وعلاوةً على التداعيات الكارثية لسيناريو من هذا النوع على رفاه وسُبل معيشة الشعب الليبي وعلى بقاء ليبيا كدولةٍ مستقلة ذات سيادة، فإنّ إطالة الصراع ستُوفر أرضاً خصبة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والجماعات المتطرفة في المنطقة. مما قد تكون له عواقب بعيدة المدى على دول المنطقة، وعلى المصالح الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
والطرف الوحيد الذي سيستفيد من حصار وعدم استقرار ليبيا هو روسيا. إذ إنّ سلوك روسيا، وميلها لتأليب سلطات شرق وغرب ليبيا ضد بعضها البعض، يُشير إلى أنّ لها مصلحةً في إطالة الصراع أكثر من حلّه. وقد تجلّى ذلك في يناير/كانون الثاني عام 2019، حين لم تبذل روسيا جهداً للضغط على حفتر من أجل توقيع اتفاقٍ مع حكومة الوفاق الوطني السابقة خلال قمة روسية-تركية.
وبينما تكافح الأمم المتحدة من أجل تحريك العملية السياسية المعقدة وتُواجه احتمالية اندلاع فترةٍ جديدة من الاضطرابات والانقسامات، يجب أن تعترف المنظمة الدولية بخطيئتها الأصلية: ألا وهي المسارعة لعقد الانتخابات مع تجاهل تعقيدات وتفاصيل الصراع.