أثارت تحركات الإمارات السياسية مؤخرا كثير من التساؤلات بشأن التغيرات الكبرى في سياساتها الخارجية مؤخرا، خصوصا زيارة محمد بن زايد إلى تركيا، والآن الحديث عن "فتح صفحة جديدة" مع إيران.
وكانت العلاقات التركية الإماراتية قد شهدت تحسناً كبيراً في الأشهر الأخيرة بعد قطيعة استمرت أكثر من ثماني سنوات. وجاءت زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد لأنقرة في 18 أغسطس/آب الماضي، كبداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، حيث التقى الرئيس التركي وناقش معه القضايا الإقليمية والاستثمارات الإماراتية في تركيا.
ثم وصل ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات إلى تركيا، وكان أردوغان في استقباله، الأربعاء 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وفيما كانت زيادة أبو ظبي استثماراتها المباشرة في أنقرة عنوان الزيارة، إلا أن السياسة أيضا كانت حاضرة.
وبالتالي فإن قرار الإمارات "فتح صفحة" جديدة في علاقاتها مع إيران، في الوقت الذي تتزايد فيه المخاوف من اقتراب طهران من "العتبة النووية" تحول يستحق التوقف أمامه تحليلا واستقراء.
ففي الوقت الذي تجري فيه مفاوضات بشأن الاتفاق النووي في فيينا بين إيران والقوى الكبرى تسودها أجواء التوتر والتشاؤم، قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأربعاء 1 ديسمبر/كانون الأول إن طهران بدأت إنتاج اليورانيوم المخصب باستخدام المزيد من أجهزة الطرد المركزي المتطورة في منشأة فوردو المبنية داخل جبل.
وقبل يومين نقل موقع Axios الأمريكي عن مسؤولين إسرائيليين أن تل أبيب قدمت لإدارة جو بايدن "أدلة على أن إيران تستعد لتخصيب اليورانيوم بنسبة 90%"، وهذه النسبة تعرف بالعتبة النووية، رغم أن طهران نفت المزاعم الإسرائيلية ووصفتها بالأكاذيب.
"صفحة جديدة" من علاقات الإمارات وإيران
في ظل هذه التطورات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، وهي تسبب قلقاً ليس فقط لإسرائيل والقوى الغربية ولكن أيضاً للدول الخليجية ومنها الإمارات، قال أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، الثلاثاء 30 نوفمبر/تشرين الثاني، إن أبوظبي سترسل قريباً وفداً إلى إيران في إطار مساعي تحسين العلاقات مع طهران.
وأضاف قرقاش للصحفيين في معرض رده على سؤال عن الموعد الذي سيعقد فيه وفد إماراتي محادثات في طهران: "كلما كان ذلك أقرب كان أفضل وجميع أصدقائنا على دراية بذلك"، ومضى يقول إن الفكرة هي "فتح صفحة جديدة" في العلاقات، بحسب رويترز.
وفي زيارة نادرة يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني، التقى كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين علي باقري كني بقرقاش ومسؤولين إماراتيين في أبوظبي، وذلك قبل أيام من توجُّه باقري وفريقه إلى العاصمة النمساوية فيينا، حيث انطلقت جولة المفاوضات الجارية حالياً بشأن الاتفاق النووي الإيراني.
والآن يخشى المفاوضون الغربيون من أن تخلق إيران حقائق على الأرض لزيادة أوراق الضغط التي تملكها أثناء المحادثات. ففي ثالث أيام المحادثات، قالت الوكالة التابعة للأمم المتحدة إن إيران بدأت عملية تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء تصل إلى 20 بالمئة في سلسلة واحدة تتألف من 166 جهاز طرد مركزي من طراز آي.آر-6 في موقع فوردو. وكفاءة هذه الأجهزة أعلى بكثير من أجهزة الجيل الأول آي.آر-1.
ومما يؤكد تقويض الاتفاق بدرجة أكبر هو أنه لا يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم في فوردو على الإطلاق. وحتى الآن كانت إيران تنتج اليورانيوم المخصب هناك بأجهزة آي.آر-1، وكانت استخدمت من قبل أجهزة آي.آر-6 لكن لم تحتفظ بالمنتج.
متى فتحت الإمارات باب التفاوض مع إيران؟
بالعودة إلى العلاقات بين الإمارات وإيران، يمكن القول إن أبوظبي كانت قد بدأت الحوار مع طهران عام 2019 في أعقاب هجمات على ناقلات قبالة مياه الخليج وعلى بنية تحتية سعودية في مجال الطاقة، دون أن تخرج تفاصيل تلك الاجتماعات إلى العلن.
وبالتالي فإن زيارة قرقاش إلى إيران وحديثه عن "فتح صفحة" جديدة من العلاقات بين البلدين في هذا التوقيت تثير كثيراً من التساؤلات، وبالفعل واجه قرقاش سؤالاً عما إذا كانت الإمارات تنسق مع السعودية بشأن تحركاتها تجاه إيران، فقال إنها تضع حلفاءها الإقليميين "في الصورة".
وفيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، قال المسؤول الإماراتي إن أبوظبي لا تزال لديها مخاوف إزاء أنشطة إيران الإقليمية، لكنها تريد العمل بجد من أجل تحسين العلاقات، مضيفاً: "هناك تقدير من جانب الإيرانيين لإعادة بناء الجسور مع الخليج. نحن نتعامل مع ذلك بمنظور إيجابي".
وقال قرقاش إن الإمارات تشارك السعودية القلق إزاء هجمات حركة الحوثي اليمنية المتحالفة مع إيران على مدن بالمملكة. وتتهم الرياض وحلفاؤها إيرانَ بتزويد الحركة بالسلاح، وهي تهمة ينفيها كل من الحركة والجمهورية الإسلامية. والإمارات عضو في التحالف الذي تقوده السعودية لقتال الحوثيين في اليمن، لكنها أنهت إلى حد بعيد وجودها العسكري على الأرض عام 2019.
تحوُّلات كبرى في علاقات المنطقة
يأتي حديث قرقاش عن السعي لفتح صفحة جديدة من العلاقات في أعقاب اتصال هاتفي بين وزيرَي الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بحثا فيه سبل تعزيز التعاون بما يخدم مصالح البلدين، بحسب وكالة الأنباء الإماراتية.
وهو يأتي أيضاً في وقت تشهد فيه العلاقات الإيرانية- الإماراتية صفحة جديدة، رسمتها المتغيّرات التي عرفتها المنطقة مؤخراً، بحسب الكاتب السياسي الإيراني حسين روي وران. الأكاديمي الإيراني، وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، أشار إلى أن المنطقة تقف على أعتاب مرحلة جديدة في العلاقات الإقليمية.
وكان انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، وما يشير إليه من عدم رغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الانخراط في المنطقة، عنوان هذه المرحلة، بحسب روي وران، الذي يرى أن هذا الأمر سيؤدي إلى خلق فراغ سياسي لا يمكن أن يُسدّ إلا بطريقتين: التفاهم بين دول المنطقة، أو التنافس والتصادم فيما بينها.
واعتبر روي وران أن جولات المحادثات السعودية- الإيرانية في بغداد، والتقارب الإماراتي- الإيراني الحالي دليل على أن هذه الدول راغبة في الحوار.
وقال في هذا الإطار: "الإمارات تشجعت كثيراً بعد بدء الحوار بين إيران والسعودية في بغداد، ورأت أنه من الجيد أن تسير في الاتجاه عينه مع الأخذ بعين الاعتبار أن للإمارات منحى مستقلاً عن المنحى السعودي، وإن كان ضمن الإطار نفسه".
هذه التطورات دفعت بدول مجلس التعاون الخليجي إلى إجراء تغييرات ملموسة على سياساتها الخارجية والدبلوماسية. وقد برز ذلك وفق الباحث في الشؤون الخليجية، الكاتب السعودي مبارك آل عاتي، من خلال الاتفاقيات التي أُبرمت بين الإمارات وإسرائيل، ومن خلال التقارب الأخير بين الإمارات من جهة وتركيا وإيران وسوريا من جهة أخرى، وهو ما يعني -في رأيه- تحولاً قوياً في الدبلوماسية الإماراتية التي أصبحت "دبلوماسية نشطة".
في السياق عينه، يشير آل عاتي إلى أن الدبلوماسية الإماراتية تملك عوامل إقناع لكلا الطرفين -الخليجي والإيراني- خاصة أنها تتقاطع مع الدبلوماسية السعودية في رؤيتها حول ضرورة توجّه المنطقة إلى حال من الاستقرار، لكي تتجنب الصراعات والتدخلات الأجنبية، لكنه يؤكد أن "الأمر يتطلب تنازلات من الطرفين الخليجي والإيراني على حدّ سواء".
ماذا عن موقف إيران من التطبيع الإماراتي مع إسرائيل؟
لكن وبينما عرفت الأسابيع والأشهر الأخيرة إشارات توحي بوجود نية جدية لتحقيق تقارب خليجي- إيراني، لا يزال لدى كلا الطرفين مخاوف تتعلق بالآخر.
إذ يتزامن التقارب الإيراني- الخليجي مع مخاوف إيرانية بسبب اتفاق التطبيع بين إسرائيل والإمارات، وأيضاً بسبب المناورات العسكرية التي أجرتها كلّ من الإمارات والبحرين مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية قبل أسابيع، والتي قالت إسرائيل عنها علانية إنها موجّهة ضدّ إيران.
ويشير الكاتب السياسي الإيراني حسين روي وران إلى هذه المناورات، باعتبارها أمراً لا يتناسب مع قواعد فتح أي صفحة جديدة بين إيران والإمارات، مضيفاً أن على الإمارات، إذا كانت جادة في تحقيق تقدم في علاقاتها مع إيران، "أن تثبت حسن نيتها تجاه طهران".
في المقابل، تبرز مخاوف عدة لدى دول مجلس التعاون الخليجي تتمحور حول توسّع رقعة نفوذ إيران في المنطقة ومنظومتها البالستية وطموحها النووي. وهو ما يفسّر إصرار هذه الدول على أن تكون طرفاً في أي محادثات دولية تتناول الملف النووي الإيراني. الأمر الذي ترفضه إيران بشدة، لاعتبارها أن الملف النووي هو شأن إيراني مع قوى دولية وليس مع دول المنطقة والخليج، بحسب روي وران.
الباحث في الشؤون الخليجية الكاتب السعودي مبارك آل عاتي يستبعد هو الآخر أن يكون للإمارات أي دور في التأثير على إيران في موضوع المباحثات النووية، لاعتباره أن مفاوضات فيينا صعبة ومعقّدة وتتطلّب ضغوطاً على مستويات دولية.
ويشير في الوقت عينه إلى أن أي دور إماراتي في هذا الاتجاه لن يعدو كونه دوراً دبلوماسياً، يساهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي. وبينما ينتظر معرفة ما إذا كانت الزيارة التي أعلن المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي أنور قرقاش أن وفداً من بلاده سيقوم بها إلى طهران، ستسهم حقاً في تحسين علاقات البلدين، يشار إلى أن الإمارات كانت قد شهدت في الرابع والعشرين من الشهر الماضي زيارة وُصفت بالهامة، قام بها نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية علي باقري كني، والتقى خلالها قرقاش ومسؤولين آخرين، في تطوّر نُظر إليه حينها كتمهيد أمام تحسّن محتمل في العلاقات بين البلدين.