دعم المجتمع الدولي الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك، والذي عاد بموجبه الأخير لرئاسة الحكومة، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى استئناف المساعدات الدولية بعد، فماذا يعني تلويح محمد حمدان دقلو بورقة "اللاجئين"؟
كان عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، قد أعلن يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلغاء الشراكة بين العسكريين والمدنيين، مقرراً إلغاء مجلس السيادة وإقالة حكومة حمدوك، الذي جرى اعتقاله قبل أن يعود لاحقاً إلى منزله تحت الإقامة الجبرية، فيما تم اعتقال عدد كبير من وزرائه ومستشاريه وقادة آخرين في قوى إعلان الحرية والتغيير، المكون المدني في السلطة الانتقالية التي تحكم السودان منذ أغسطس/آب 2019، ما تسبب في عقوبات دولية.
ويوم الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني، شهدت العاصمة السودانية الخرطوم الإعلان عن اتفاق سياسي جديد وقَّعه البرهان وحمدوك. لكن المكون المدني، الذي رشَّح حمدوك لرئاسة الوزراء (قوى إعلان الحرية والتغيير)، اعتبر الاتفاق ترسيخاً للانقلاب العسكري، ومن ثم تواصلت المظاهرات المطالبة بإنهاء دور العسكر تماماً في السلطة الانتقالية بالبلاد.
ترحيب دولي مع وقف التنفيذ
جاء رد الفعل الدولي على الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك مُرحِّباً وداعماً، على الرغم من أن الاتفاق لم يؤدِّ إلى استقرار الأوضاع السياسية في البلاد. ومع استمرار المظاهرات الرافضة للاتفاق، بدأ الموقف الدولي نفسه يشهد حالة من تراجع التأييد والمطالبة بمزيد من الخطوات.
إذ أكدت الأمم المتحدة قبل يومين، أن عودة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، لتولي مهام منصبه في 21 نوفمبر/تشرين الأول الجاري، "لم تُنهِ" الأزمة التي تعيشها البلاد بعد، وذلك في مؤتمر صحفي للمتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوغاريك، بالمقر الدائم للأمم المتحدة في نيويورك.
وكان المتحدث الرسمي يرد على أسئلة الصحفيين بشأن ما إذا كانت الأمم المتحدة تعتبر عودة رئيس الوزراء السوداني إلى منصبه بمثابة انتهاء للأزمة في السودان، حيث قال: "لا، نحن لا نعتقد أن السودان قد أنهي أزمته بعد. نحن نعتقد أن السودان ربما يكون قد تجنب سيناريو مزيد من العنف"، مستدركاً: "لكننا لانزال نعتقد أن السودان في حاجة للتوصل إلى اتفاق حول المرحلة الانتقالية بحيث يؤدي مثل هذا الاتفاق إلى إجراء انتخابات".
وفي ختام زيارة للسودان، أجرتها مبعوثة الاتحاد الأوروبي لمنطقة القرن الإفريقي، أنيت ويبر، صدر بيان دعت فيه إلى إجراء تحقيق مستقل في انتهاكات حقوق الإنسان، والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين في البلاد. وأفاد البيان بأن "ويبر" أجرت لقاءات مع كل من البرهان وحمدوك، إضافة إلى القوى السياسية والمدنية، بحسب الأناضول.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من تعيين سفير في الخرطوم، للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين من الزمان، لايزال الموقف الأمريكي من دعم الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك غامضاً على أقل تقدير. فتعيين سفير في هذا التوقيت اعتبره كثير من المحللين دعماً للاتفاق ورغبة في المضي قدماً، لكن عدم إفراج واشنطن عن مساعدات اقتصادية كانت قد جمدتها في أعقاب قرارات البرهان في أكتوبر/تشرين الأول، يعني عملياً أن دعم الاتفاق الجديد لايزال مجرد كلمات دون خطوات عملية.
المساعدات الاقتصادية كلمة السر
وكان بعض السودانيين يأملون أن تُنهي الولايات المتحدة وباقي المؤسسات الدولية تعليق مساعدتها المالية للخرطوم بعد الاتفاق السياسي الجديد الذي أُبرم بين المكون العسكري برئاسة البرهان وحمدوك. إذ كانت واشنطن قد علَّقت مساعدات قيمتها 700 مليون دولار، بجانب تعليق البنك الدولي برنامج دعم الأسر السودانية (ثمرات).
والأسبوع الماضي قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، تعليقاً على الاتفاق الذي تم بين البرهان وحمدوك: "هذه خطوة أولى، ويجب أن لا تكون خطوة أخيرة". وأضاف أنه لن يتم استئناف تقديم المساعدات، معتبراً أن "هذه القرارات ستعتمد كلياً على ما سيحدث في الساعات والأيام والأسابيع المقبلة".
وفي هذا السياق، يرى عاصم إسماعيل الصحفي المتخصص بالشؤون الاقتصادية، أن استمرار الدعم من عدمه يتوقف على دور الحكومة المقبلة واستمرارها بالنهج نفسه الذي يفضي إلى تعاون المجتمع الدولي وعودة الدعم.
ووفقاً لحديث إسماعيل مع الأناضول، فإن ما جعل الأمريكيين يوقفون الدعم، هو الانقلاب العسكري الذي حدث في أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "واشنطن مازالت ترى أن الواقع السوداني يدار بواسطة العسكريين، على الرغم أنها تراجعت عن طريقتها في كيفية إدارة السودان، بقولها إنها حريصة على الشراكة".
ونوه إلى أن الإدارة الأمريكية ترغب في معرفة تكوين الوزارات، ومن هم الوزراء الجدد، ونبَّه إسماعيل إلى وجود مخاوف من عودة بعض أنصار حزب المؤتمر الوطني المحلول. ولفت إلى أن قرارات حمدوك من إقالة وتعيين لبعض قيادات الأجهزة الشرطية والأمنية، عبارة عن رسالة مهمة للخارج بامتلاكه زمام الأمور وأن الحكومة المدنية هي المسؤول الأول في البلاد.
كان حمدوك قد أصدر السبت الماضي، قراراً بإعفاء مدير الشرطة الفريق أول خالد مهدي إبراهيم، ونائبه الفريق الصادق علي إبراهيم من منصبيهما.
في المقابل يرى المحلل الاقتصادي، هيثم محمد فتحي، أن الأحداث السياسية منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول، ساهمت في أن تعلّق وتوقف بعض الدول المانحة مساعدتها المالية للسودان. وقال فتحي لـ"الأناضول"، إن هذه الدول وعدت وتعهدت في السابق بدعم السودان مالياً، عقب الإصلاحات الاقتصادية التي طبَّقتها البلاد منذ نهاية العام الماضي، باتفاق مع البنك وصندوق النقد الدوليين.
وأوضح أن هذه الدول تعهدت بدعم برامج اجتماعية وبرامج حماية، لتخفيف آثار هذه الإصلاحات على الشرائح الضعيفة: "هذه الوعود من قِبل المؤسسات الدولية ودول الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة، تم تعليقها بعد الإجراءات التي قام بها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان".
واعتبر أن معظم المؤسسات والدول رهنت استئناف الدعم بعودة حمدوك مرة أخرى للمشهد السياسي، ألا أن فتحي توقع عودة المساعدات مرة أخرى عقب الاتفاق السياسي الذي تم بين رئيس المجلس السيادي ورئيس الوزراء.
حميدتي يهدد أوروبا بورقة "اللاجئين"
وفي ظل حاجة السودان المُلحة لاستئناف الدول الغربية المساعدات الاقتصادية للسودان، والتي تعتبر أيضاً بمثابة اعتراف سياسي كامل بالاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك، يرى كثير من المحللين أن البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، يسعيان لتوظيف كل أوراق الضغط الممكنة للوصول إلى ذلك الهدف.
وفي هذا السياق، قال حميدتي لمجلة Politico الأمريكية، إن الولايات المتحدة وأوروبا ستواجهان "تدفقاً للاجئين من السودان إذا لم تدعما النظام الحالي في البلاد"، مضيفاً أن "تلك الدول الغربية ليس أمامها خيار سوى تقديم الدعم المطلق للحكومة الحالية التي نتجت عن الاتفاق السياسي الجديد إذا ما أرادت تفادي أزمة لاجئين جديدة".
وبحسب المجلة الأمريكية أيضاً، أكد قائد قوات الدعم السريع أن "الجيش يسيطر تماماً الآن على الحدود السودانية"، مضيفاً في مقابلة أجرتها معه المجلة عبر الفيديو: "بسبب التزامنا تجاه المجتمع الدولي وتجاه القانون، نحافظ على حدودنا بشكل كامل. لكن لو فتح السودان حدوده، فسوف تحدث مشكلة كبيرة حول العالم كله".
وبحسب المجلة الأمريكية، الواضح أن ملاحظات دقلو تستغل القلق المتزايد في الغرب تجاه أزمة الهجرة غير الشرعية وموجات اللاجئين، إذ تواجه أوروبا حالياً أزمة ضخمة على حدودها الشرقية، في ظل وجود عشرات الآلاف من اللاجئين على الحدود بين بولندا وروسيا البيضاء، وبالتأكيد حدوث تدفُّق آخر من اللاجئين من السودان أمر لا يريده الغرب.
وقال حميدتي في رسالته عبر "بوليتيكو"، إنه على أوروبا والولايات المتحدة أن "ينحيا جانباً أي شكوك لديهما بشأنه وبشأن البرهان"، معتبراً قادة الجيش "مصدراً للاستقرار في السودان"، ومشيراً إلى وجود أكثر من مليون لاجئ من دول مجاورة يعيشون الآن على الأراضي السودانية.
وتواجه قوات الدعم السريع بقيادة دقلو، اتهامات من جانب نشطاء وسياسيين سودانيين بالمسؤولية عن فض اعتصام القيادة في يونيو/حزيران 2019 وعن إطلاق الرصاص على متظاهرين خلال الاحتجاجات المستمرة منذ انقلاب البرهان الأخير، لكن قائدها نفى مجدداً تلك الاتهامات، في مقابلته مع المجلة الأمريكية.
الاشتباكات الحدودية مع إثيوبيا
ويرى بعض المحللين أن تهديد حميدتي أوروبا والولايات المتحدة بأزمة لاجئين مصدرها السودان إذا لم يدعما الاتفاق السياسي بين العسكر وحمدوك، يأتي في وقت قام فيه البرهان بزيارة لمنطقة الفشقة الحدودية مع إثيوبيا، بعد تقارير عن وقوع اشتباكات بين الجيشين هناك.
فقد تجددت الاشتباكات الحدودية بين الجيشين السوداني والإثيوبي، بعد أن توقفت لأكثر من شهرين، إذ كان آخر قتال مُعلن في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، حين أعلن الجيش السوداني تصديه لقوات إثيوبية حاولت التوغل في قطاع أم براكيت (شرق)، وأجبرها على التراجع، فيما قالت أديس أبابا إنها لم تقم بأي تحرك عسكري.
وجاء الإعلان السبت الماضي، عن اشتباكات جديدة، في وقت يشهد فيه البلدان أزمات داخلية مستفحلة تهدد بشكل كامل، وجود نظامَي الحكم فيهما، فيما وصفه بعض المحللين بأنه "هروب للأمام" ومحاولات للإلهاء موجهة للداخل بالأساس.
وصباح الأحد، أعلن الجيش السوداني مقتل 6 من عناصره في منطقة الفشقة على الحدود مع إثيوبيا؛ جراء ما قال إنه هجوم نفذته السبت قوات من الجيش وميليشيات إثيوبية، فيما لم تصدر إفادة رسمية عن الجانب الإثيوبي. وتبلغ مساحة الفشقة نحو مليوني فدان، وتمتد لمسافة 168 كم مع الحدود الإثيوبية من مجمل المسافة الحدودية لولاية القضارف السودانية مع إثيوبيا، والبالغة نحو 265 كم.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، فرض الجيش السوداني سيطرته على أراضي الفشقة، بعد أن استولت عليها لمدة ربع قرن، "عصابات إثيوبية" بحسب الخرطوم، فيما تتهم أديس أبابا السودان بالسيطرة على أراضٍ إثيوبية، وهو ما تنفيه الخرطوم.
وقال اللواء السوداني المتقاعد أمين إسماعيل مجذوب، لـ"الأناضول"، إن ما حدث من القوات الإثيوبية في منطقة الفشقة السودانية محاولة "لإدارة أزمة بأزمة" وإشغال الشعب الإثيوبي والقوات التي تسعى لمحاصرة أديس أبابا: "هو محاولة لتشتيت جهود قوات تيغراي وحلفائها، والتي تعمل على إسقاط النظام الحاكم في إثيوبيا".
وأردف أن "الحديث عن وجود ميليشيات إثيوبية لحماية مزارعين إثيوبيين في هذه المناطق غير صحيح، فلا يوجد مزارع واحد بالفشقة يحتاج للحماية من الجيش الإثيوبي". ورأى مجذوب أن "التحرك الإثيوبي في الفشقة يهدف إلى إنشاء نقاط إنذار وعمل كمائن؛ للإيقاع بقوات تيغراي التي تتحرك في المناطق الحدودية مع السودان، ومنعها من التقدم في هذه المناطق".
ووفق أمير بابكر عبد الله، المحلل السياسي السوداني، فإن "القتال الحالي في الفشقة يختلف عن السابق، فالجيش الإثيوبي هو الذي دخل المنطقة، وليس الميليشيات الإثيوبية كما في السابق". وأضاف عبد الله لـ"الأناضول" أن "الاشتباكات الحالية تأتي في وقت حصاد الأراضي الزراعية بالفشقة التي استعادها السودان مؤخراً، ومن ثم يستهدف إفساد موسم الحصاد".
وأردف: "كما أن الجيش الإثيوبي يريد الانتشار في المنطقة الغربية من إثيوبيا؛ لقطع الطريق أمام قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، خاصةً أنه أعلن تقدمه في أكثر من منطقة". واستطرد: "تأمين المنطقة الغربية في إقليمَي عفر وأمهرة يجعل قوات الجيش الإثيوبي تزحف إلى مناطق إقليم تيغراي والنقاط الأخرى وهي مطمئنة على هذه الحدود".
أما وليد النور زكريا، المحلل السياسي السوداني، فقال لـ"الأناضول" إن "الاشتباكات المتكررة في الفشقة تعود لطبيعة الصراع على هذه الأرض الزراعية، والشعب السوداني متفهم لذلك ويقف مع جيشه". واستدرك: "أما أن تحاول السلطات السودانية كسب تعاطف الشارع للالتفاف حولها، عبر عدو خارجي للهروب من أزمتها الداخلية، فذلك لن يجدي". وأردف: "ما يحدث في الفشقة لن يؤثر على حراك الشارع الرافض للانقلاب والاتفاق السياسي، وسيمضي في طريقه لإسقاط النظام".