احتمال وقوع حرب بين روسيا وأمريكا بات أقرب من أي وقت مضى، حيث قد يبدو فرصه أعلى حتى من فترة الحرب الباردة التي كان تتواجد بها آليات لتجنب نشوب حرب عالمية بين القوتين العظميين.
وفي الوقت الذي تبدو فيه الولايات المتحدة وروسيا قريبة من الصراع العسكري في أوروبا، يحث الخبراء على التعاون وبناء الثقة قبل أن يخرج الوضع عن السيطرة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وحذّر الجنرال السير نيك كارتر، رئيس أركان الدفاع البريطاني، في مقابلة حديثة مع The Sunday Times: "من أن خطر اندلاع حرب بين روسيا وأمريكا والغرب عامة بشكل غير مقصود، أكبر مما كان عليه في أي وقت خلال الحرب الباردة".
ويتردد صدى مشاعره في موسكو. إذ قال ديمتري سوسلوف، عالم السياسة الروسي البارز الذي يشغل منصب نائب مدير مركز موسكو للدراسات الأوروبية والدولية الشاملة، لموقع Responsible Statecraft، إن روسيا "لا تريد الحرب"، لكن خطر نشوب حرب بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) مرتفع، "ببساطة بسبب التصعيد المستمر الذي حدث خلال السنوات الأخيرة".
نشوب حرب بين روسيا وأمريكا محتمل بسبب شرق أوروبا
تتركز التوترات الحالية في أوروبا الشرقية التي يمكن أن تؤدي إلى صراع كارثي على الحدود الروسية الأوكرانية، والبولندية البيلاروسية.
وأثارت التقارير عن تحركات القوات الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية ضجة في الصحافة والمؤسسات الأمنية في العواصم الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن أزمة اللاجئين المستمرة على حدود بيلاروسيا وبولندا تحظى أيضاً بتغطية إعلامية كبيرة في الغرب.
ويقول العديد من أنصار السياسات الخارجية المتطرفة على جانبي المحيط الأطلسي إنَّ الأزمات كلها جزء من "حرب مختلطة"، دبّرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن الخبراء متشككون في ذلك، حسب موقع Responsible Statecraft، حيث يقول سام راماني، معلق جيوسياسي وزميل في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، إنَّ دور موسكو في الأزمة البيلاروسية لا ينبغي المبالغة فيه.
وقال للموقع: "روسيا تحمي بيلاروسيا من اللوم لكنها تحاول أيضاً تقييد سلوك لوكاشينكو الأخطر، مثل محاولة تعطيله صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا".
جادل عالم السياسة الروسي سوسلوف بأنَّ لوكاشينكو يريد "الحوار والاعتراف من الزعماء الأوروبيين، وحتى الآن حصل عليهما". في الواقع، بعد مكالمة هاتفية مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، نقل لوكاشينكو معظم اللاجئين بعيداً عن الحدود البولندية إلى مينسك، على الرغم من أنَّ بولندا لا تزال تشعر بالقلق.
هل يريد بوتين غزو أوكرانيا؟
لكن بؤرة الانفجار الرئيسية المحتملة بين الناتو وروسيا ليست بيلاروسيا، بل أوكرانيا. بعد أن استخدم الجيش الأوكراني الطائرات المُسيَّرة التركية الصنع "بيرقدار" لتدمير وحدة مدفعية من الانفصاليين الموالين لروسيا في دونباس في أواخر أكتوبر/تشرين الأول، بدأت روسيا في حشد قواتها على بعد 150 كيلومتراً من الحدود الأوكرانية.
ويدّعي أنصار السياسات الخارجية الغربية المتطرفة أنَّ روسيا تستعد لغزو أوكرانيا. حتى أنَّ البعض يجادل بأنَّ بوتين يعتبر الغزو الكامل لأوكرانيا وسيلةً لترسيخ إرثه.
لكن سوسلوف يستبعد شن روسيا غزواً واسع النطاق، قائلاً إنه سيكون "غير مرغوب فيه ومكلف للغاية بالنسبة لروسيا". وتاريخياً، ابتعدت روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي عن مثل هذه المساعي العسكرية واسعة النطاق، ولجأت بدلاً من ذلك إلى تكتيكات المنطقة الرمادية الأقل تكلفة، مثل استخدام الوكلاء والمرتزقة وحرب المعلومات وغيرها من الأساليب غير التقليدية.
من جانبها، قالت جولي نيوتن، المحققة الرئيسية في برنامج University Consortium التدريبي الذي يوحد أفضل الجامعات الروسية والغربية مثل هارفارد وأكسفورد، لموقع Responsible Statecraft، إنَّ هناك حلقة مفرغة بين روسيا والولايات المتحدة حيث "يعتقد كلا الجانبين أنه لا يمكن احتواء الآخر إلا من خلال استعراض القوة". وتدعم منطق جولي تصريحات بوتين الأخيرة؛ الذي قال، في حديثه إلى مسؤولي السياسة الخارجية يوم الخميس 18 نوفمبر/تشرين الثاني، "لوحظت تحذيراتنا الأخيرة وظهر تأثيرها. هناك بعض التوتر هناك. ونحن بحاجة إلى أن يبقى الوضع كذلك لأطول فترة ممكنة، حتى لا يفكروا في بدء صراع لا نحتاجه على حدودنا الغربية".
الحل في إنشاء آلية لفض النزاعات بين روسيا والناتو
وقال سوسلوف إنه يمكن منع التصعيد في المستقبل وتحاشي خطر نشوب حرب بين روسيا وأمريكا، وذلك عن طريق إنشاء "آليات لفضّ النزاعات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي". ولا توجد حالياً آلية متفق عليها لمنع الصدام -مثل الخط الساخن النووي الذي أُنشئ بعد أزمة الصواريخ الكوبية- ما يحرك مخاوف "الحرب العرضية".
لكن المعلق الجيوسياسي سام راماني يشير إلى أنَّ "الحوار بين روسيا والناتو معقد بسبب الافتقار شبه الكامل للثقة بين الجانبين"، واعتبر أنَّ "إضفاء الطابع الأمني على الناتو داخل حدود روسيا، وتوسعات الحلف، والثورات الملونة، والأزمات في أوكرانيا وليبيا وسوريا، وضعف العلاقات الثنائية بين روسيا ومعظم الدول الغربية" جميعها تمثل دوافع لغياب الثقة.
وأشار سوسلوف إلى أنَّ روسيا تعتبر تصريح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن الأخير بأنَّ هناك "باباً مفتوحاً لأوكرانيا في الناتو" انعكاساً لرغبة الأمريكيين في "دمج أوكرانيا في الناتو بطريقة أو بأخرى". لكن لا تزال حقيقة هذه الوعود غير واضحة؛ إذ رجح الفرنسيون أنهم سيستخدمون حق النقض ضد العضوية الأوكرانية، لأنها قد تؤدي ذلك إلى صراع عسكري واسع النطاق.
أمريكا تحتاج تحديد ما هي الدول التي يمكن أن تحارب من أجلها
وقال بن فريدمان، مدير السياسات في مؤسسة Defense Priorities، لموقع Responsible Statecraft: "تحتاج الولايات المتحدة إلى العودة إلى عادة التفكير بوضوح أكبر في التحالفات"، واستعادة قدرتها على "التفريق بين الدول [التي تدعمها] دبلوماسياً وتلك التي قد تقاتل من أجلها".
ومع ذلك، يعارض الكثيرون في واشنطن التعامل مع روسيا دبلوماسياً، ويفضلون بدلاً من ذلك الحفاظ على موقف المواجهة. في هذا الصدد، أشارت جولي نيوتن إلى أنَّ هناك "افتراض بأنَّ الروس دائماً ما يحركهم العدوان فقط، بدلاً من التفكير في أننا نتعامل مع دوامة فعل ورد فعل". وأضافت أنَّ العلاقات بين روسيا والناتو هي "معضلة أمنية كلاسيكية"، إذ يتفاعل كل طرف مع سلوك الآخر، ما يدفع الوضع إلى تصاعد لا نهائي. وترى جولي أنَّ "اللوم يقع على كلا الجانبين"، وفي حين أنَّ "أمريكا بحاجة إلى فزاعة لأسباب داخلية، فإنَّ الروس يجعلون هذا [التشهير] أمراً سهلاً" من خلال أفعالهم العدوانية.
ويمكن لإدارة بايدن استخدام النفوذ السياسي أو الاقتصادي لتخفيف التوترات وإيجاد حل سلمي للصراع المستمر منذ ثماني سنوات في شرق أوكرانيا. لكن التحركات، مثل ضخ المزيد من الأموال للجيش الأوكراني، ستعقد أي تواصل دبلوماسي.
من جانبه، قال أناتول ليفين، الباحث البارز في شؤون روسيا وأوروبا في معهد Quincy Institute for Responsible Statecraft، إنَّ المشاركة السلمية بين الولايات المتحدة وروسيا ستكون مفيدة أيضاً لأوكرانيا. وأضاف: "في الوقت الحالي، تتجه أوكرانيا نحو أسوأ سيناريو ممكن. إذا وقعت حرب فسيكون ذلك سيئاً لروسيا وللغرب. لكن سيكون الأمر أسوأ بالنسبة لأوكرانيا لأنها ستخسر ولن يساعدها الغرب".
بالنسبة للولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا، فإن أوكرانيا بلد شرق أوروبي بعيد شبيه بروسيا يحاول أن يكون أوروبياً أكثر من حقيقته، بينما الواقع أن أغلب الأوروبيين لا يستطيعون التفريق بين الروس والأوكرانيين.
بينما يأسف حلف شمال الأطلسي لسلوك التنمر الروسي ضد جيرانه، لا أحد من أعضائه مستعد للمخاطرة بمواجهة عسكرية مع روسيا بسبب أوكرانيا أو جورجيا، ولكن المشكلة أن هذه المواجهة قد تحدث بشكل غير مقصود، وقد تؤدي إلى حرب بين روسيا وأمريكا ومعها الغرب كله، أي حرب عالمية ثالثة.