زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى تركيا تلبية لدعوة الرئيس رجب طيب أردوغان تمثل تتويجاً لإشارات التقارب بين أبوظبي وأنقرة، وتفتح صفحة جديدة في علاقات البلدين، فهل تنعكس الاستثمارات على الاقتصاد التركي؟ وماذا عن الملفات السياسية؟
وصل ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات إلى تركيا، وكان أردوغان في استقباله، الأربعاء 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، فيما أفادت تقارير متطابقة باعتزام أبوظبي زيادة استثماراتها المباشرة في أنقرة.
كانت العلاقات التركية الإماراتية قد شهدت تحسناً كبيراً في الأشهر الأخيرة بعد قطيعة استمرت أكثر من ثماني سنوات. وجاءت زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد لأنقرة في 18 أغسطس/آب الماضي، كبداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، حيث التقى الرئيس التركي وناقش معه القضايا الإقليمية والاستثمارات الإماراتية في تركيا.
تغير المشهد بشكل كامل وتحولت القطيعة السياسية والاقتصادية الشاملة بين البلدين إلى تعاون وثيق انعكس بشكل مباشر في استثمارات اقتصادية في مختلف القطاعات.
تعاون استراتيجي في المجالات الاقتصادية
وستشهد زيارة محمد بن زايد إلى أنقرة توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التعاون بين تركيا والإمارات، تشمل مجالات التجارة والطاقة والبيئة والاستثمار. وسيشرف على توقيع الاتفاقيات ومذكرات التعاون المذكورة كلّ من مكتب الاستثمار بالرئاسة التركية وصندوق الثروة السيادي في تركيا من جهة، ومن جهة أخرى مجموعة أبوظبي القابضة، بحسب الأناضول.
وفي هذا الإطار، من المنتظر أن يتم التوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي، بين صندوق الثروة السيادي التركي ومجموعة أبوظبي القابضة، ومذكرة مماثلة بين الأخيرة ومكتب الاستثمار بالرئاسة التركية. وستقوم الإمارات في إطار هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بتعزيز حجم استثماراتها المباشرة على الأراضي التركية.
ولا شك أن تلك الاستثمارات تأتي في الوقت المناسب تماماً، أخذاً في الاعتبار الموقف الصعب للاقتصاد التركي، والانخفاض الهائل في قيمة الليرة مقابل الدولار الأمريكي، وتساءل تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني إذا ما كانت الاستثمارات الإماراتية تمثل "طوق نجاة" للحكومة التركية في هذا التوقيت.
ونقل الموقع البريطاني عن مصدر تركي مطلع قوله إن ولي عهد أبوظبي أخبر الرئيس التركي في اتصال هاتفي في وقت مبكر من العام الجاري، أنه (بن زايد) مستعد لاستثمار 100 مليار دولار في تركيا، بينما قالت مصادر أخرى إن المبلغ المقترح نحو 10 مليارات. وفي كل الأحوال تمثل تلك الاستثمارات دفعة قوية للاقتصاد التركي الذي يعاني بشدة حالياً.
وقبل زيارة بن زايد لأنقرة، عبرت هيئة أبوظبي للاستثمار وشركات مقربة من الأسرة الحاكمة في أبوظبي عن رغبتها في ضخ استثمارات تركيا، خصوصاً في مجالات الرعاية الصحية والتكنولوجيا والأوراق المالية وصناعات أخرى، بما قيمته 3 إلى 4 مليارات دولار.
وكانت وسائل إعلام قد تحدثت قبل أيام عن توقيع أنقرة اتفاقين منفصلين مع كل من أبوظبي وإسلام آباد، بشأن تدشين طريق شحن جديد لنقل البضائع، بحسب موقع إرم نيوز الإماراتي. وتباحث مسؤولو وزارة التجارة التركية مع المسؤولين الإماراتيين سبل تقديم الدعم اللازم لشركة النقل التي ستنقل أولى الشحنات عن طريق البر، خاصة في ظل عدم وجود اتفاقية ثنائية للشحن البري بين تركيا والإمارات، إلا أن التوقيع بين وزارتي النقل في البلدين سيُسهم في تطوير المسار الجديد.
ماذا عن الخلافات السياسية بين البلدين؟
موقع ميدل إيست آي البريطاني نقل عن مسؤولين أتراك، دون تسميتهم، أن إعلان الإمارات مطلع العام الجاري عن رغبتها في تحسين العلاقات مع تركيا خلال لقاءات بعيدة عن الإعلام فتح الباب أمام ما يحدث الآن، وزيارة ولي عهد أبوظبي إلى أنقرة.
وقال أحد المسؤولين الأتراك: "لا توجد مساحة للعواطف في السياسة الخارجية. والجميع يدركون أن السياسة الخارجية القائمة على الصراعات لا تخدم أي طرف من الأساس".
ويصر المسؤولون الأتراك على أن أنقرة لم تغير مواقفها السياسية كي تحسن علاقاتها مع الإمارات. "ما زلنا متواجدين في ليبيا وفي القرن الإفريقي. وما زلنا نواصل سياستنا هناك كما هي"، بحسب أحد المسؤولين الأتراك.
وكانت ليبيا أبرز ساحات الصراع بين الإمارات وتركيا، حيث تدعم أبوظبي قوات شرق ليبيا بزعامة خليفة حفتر، بينما وقفت أنقرة بجانب حكومة الوفاق الوطني السابقة، المعترف بها دولياً، كما تتهم تركيا الإمارات بتمويل مرتزقة فاغنر الروس، الذين يقاتلون إلى جانب ميليشيات حفتر.
ويرى المسؤولون الأتراك أن السبب وراء تغيير الإمارات بعضاً من مواقفها يرجع بالأساس إلى أن تلك المواقف أو السياسات، كما في حالة ليبيا، قد أتت بنتائج عكسية على أبوظبي. "كانت استراتيجيتهم السابقة مكلفة للغاية، الآن مع وجود إدارة بايدن في واشنطن، يحتاجون إلى حلفاء للتوازن في مواجهة إيران".
وتتفق سينثيا بيانكو، خبيرة في شؤون الخليج وتعمل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مع وجهة النظر هذه، إذ قالت للموقع البريطاني إن الإمارات اضطرت لإدخال تغييرات على سياستها الخارجية نتيجة لمواقف الإدارة الأمريكية الجديدة، إضافة إلى عوامل داخلية تخص أبوظبي وتتعلق بضرورة التراجع عن السياسات الخارجية العدائية وغير المجدية، والتركيز أكثر على مواجهة التأثيرات السلبية لوباء كورونا.
لكن بيانكو أضافت قائلة إنه "على الرغم من أن تركيا قد لا تكون غيرت كثيراً من سياساتها الإقليمية، فإن الحكومة التركية أصبحت الآن أكثر انفتاحاً ومرونة".
وكانت تركيا والإمارات في خلاف بسبب الاتهامات التركية بأنَّ الإمارات موَّلت المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 للإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان، والاعتراضات الإماراتية على الدعم التركي للإسلام السياسي، لاسيما جماعة الإخوان المسلمين.
وخاضت تركيا والإمارات حروب وكالة عسكرية و/أو سياسية في ليبيا وسوريا وشرق البحر المتوسط وفرنسا، حيث كانتا على طرفي نقيض. علاوة على ذلك، دعمت تركيا قطر ووسَّعت وجودها العسكري في الدولة الخليجية خلال الثلاث سنوات ونصف من المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية التي قادتها السعودية والإمارات على الدوحة وانتهت بالمصالحة الخليجية، في يناير/كانون الثاني الماضي.
هل يعني ذلك انتهاء الخلاف السياسي إذن؟
بالعودة إلى الشق الاقتصادي، نقل موقع ميدل إيست آي عن سياسي تركي أن الرئيس أردوغان أبلغه خلال اجتماع مطلع الشهر الجاري عن قرب وصول استثمارات إماراتية ضخمة ستساعده (الرئيس التركي) على جعل اقتصاد البلاد أكثر استقراراً.
ويرى المسؤولون الأتراك أن التعاون في مجال الاقتصاد والاستثمارات مسألة مربحة للطرفين، على أساس أن الإمارات تبحث عن دول جديدة تستثمر فيها من جهة وتركيا تمثل سوقاً رائجة ومربحة من جهة أخرى.
وقال مصدر تركي للموقع البريطاني: "ستكون هناك خطوات إماراتية تدريجية لتخفيف التوتر في المنطقة، وبما أن الاستثمارات الإماراتية لن تصل إلى تركيا خلال عام واحد، بل على مدى سنوات عديدة، فإن ذلك يمثل أساساً متيناً لتقوية العلاقات الثنائية".
ومن جانبها ترى بيانكا الخبيرة في الشؤون الخليجية أن أبوظبي تعتقد أن التحالف الإقليمي ضد تركيا في شرق المتوسط، والمصاعب المالية والاقتصادية التي تعاني منها أنقرة، إضافة إلى تراجع شعبية الرئيس أردوغان في استطلاعات الرأي الأخيرة، كلها عوامل تجعل الحكومة التركية أكثر قبولاً للتخفيف من حدة سياساتها الإقليمية مقابل الدعم المالي من الإمارات.
وتضيف بيانكا للموقع البريطاني أن "الاستثمارات الإماراتية عنصر هام، لكن أيضاً تغيير أبوظبي لأهدافها مرتفعة السقف في ليبيا، على سبيل المثال، مثلا معاً وصفة مناسبة لهذا التقارب. وفوق هذا وذاك، تسيل قيمة الليرة المنخفضة حالياً لعاب الإماراتيين لضخ الاستثمارات في السوق التركية لتحقيق أرباح أيضاً".
لكن تخلي كل طرف عن مواقفه السياسية بشكل كامل أمر مستبعد، بحسب كثير من المحللين الأتراك والإماراتيين أيضاً، لكن الواضح أن هناك توجهاً عاماً بين دول المنطقة عموماً نحو تخفيف حدة الخلافات حتى لا تتحول إلى صراع مفتوح، والعمل على التعاون في مجالات الاقتصاد والاستثمار، حتى وإن ظلت المواقف السياسية على حالها.
وهذا تحديداً ما عبر عنه تحليل نشره موقع Modern Diplomacy عنوانه "عالمٌ جديد: الشرق الأوسط يجرب التعاون إلى جانب التنافس"، رصد طبيعة التحولات في علاقات القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، وتحولها من العلاقات الصفرية التي يغلب عليها العداء إلى التنافس في ظل تحسن العلاقات.