وضعت الحكومة البريطانية، في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، برنامجاً خاصاً لتشجيع المواهب الاستثنائية وأصحاب جائزة نوبل في مجالات متعددة على العيش فيها، فماذا حدث؟
منذ بداية العام الجاري غادرت بريطانيا رسمياً الاتحاد الأوروبي، بعد انتهاء فترة انتقالية طوال العام الماضي، وبعد سنوات من ذلك الاستفتاء الذي جاءت نتيجته متقاربة للغاية وحسمته أغلبية بسيطة لصالح بريكست.
ولا تزال بريطانيا تعاني بشدة من تبعات بريكست، وكانت أزمة الوقود الخانقة، التي تسببت في طوابير ممتدة أمام محطات الطاقة من النادر أن تحدث في دولة أوروبية، أحدث حلقات تلك المعاناة.
بريطانيا بعد نحو عام من الانفصال عن أوروبا
وقبل أن تتم بريكست بشكل رسمي سعت حكومة بوريس جونسون إلى طمأنة مواطنيها بأن البلاد ستكون أفضل حالاً بكثير، ووضعت خططاً خاصة بتنظيم الدخول إلى البلاد وأنواع التأشيرات التي سيتم تطبيقها بعد الانفصال عن النظام المطبق في الاتحاد الأوروبي.
وتوقفت بريطانيا عن تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي منتصف ليلة رأس السنة الميلادية، العام الماضي، وبدأت في تطبيق إجراءات جديدة على أصعدة السفر والتجارة والهجرة والتعاون الأمني. وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، إن بلاده أصبحت تمتلك "حريتها في يديها، ويجب أن تستفيد منها إلى أقصى حد".
لكن بعد اقتراب عام كامل على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، لا تزال حكومة جونسون تعاني من أزمات متتالية، اضطرتها أواخر سبتمبر/أيلول الماضي إلى إعادة النظر في نظام التأشيرات الجديد المعمول به، بعد أن واجهت عجزاً كبيراً في عدد السائقين واضطرت إلى الاستعانة بالجيش.
وتسبب النقص في عدد السائقين في تعطيل عمليات تسليم الوقود، مع إغلاق بعض محطات الوقود تماماً، ووقوف طوابير طويلة من السيارات، ما أجبر الحكومة على إصدار حوالي 5000 تأشيرة مؤقتة.
وبينما تواجه دول العالم أزمة التضخم وارتفاع الأسعار بشكل عام وأسعار النفط بشكل خاص، تواجه بريطانيا أزمة مضاعفة بسبب النقص الحاد في الأيدي العاملة، بعد تطبيق نظام التأشيرة الجديد بأنواعه المختلفة.
إغراءات خاصة للمتميزين للمجيء إلى بريطانيا
اللافت في هذه القصة هو أن الحكومة البريطانية قد وضعت نظاماً خاصاً هدفه استقدام المواهب، من ضمن الأنواع المتعددة التي تضمّنها نظام التأشيرة الجديد. ومن بين هذه الأنواع، أعلنت الحكومة البريطانية عن برنامج طموح يستهدف إغراء المواهب النادرة في جميع المجالات بالقدوم للعيش والعمل على الأراضي البريطانية، وبدأ بالفعل تطبيق هذا النظام قبل ستة أشهر من الآن.
وتناول تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية قصة تلك الإغراءات، وما نجحت في تحقيقه خلال الأشهر الستة الماضية، رصد تفاصيل البرنامج التي تسمح للحاصلين على جوائز عالمية مرموقة، كجائزة نوبل في العلوم والهندسة، بالتقدم للإقامة والعمل في بريطانيا عبر مسار خاص جعلته الحكومة خالياً من الإجراءات الروتينية المعتادة.
وتم الإعلان عن النظام الجديد، في مايو/أيار الماضي، وهو مخصص للفائزين بجائزة نوبل في مجالات الفيزياء والكيمياء والطب بفروعه المختلفة، إضافة إلى حاملي جائزة فيسين الدولية، وهي جائزة فرنسية دولية على غرار نوبل بدأ منحها منذ عام 1980، إضافة إلى الفائزين بالميدالية الميدانية (تعادل جائزة نوبل في مجال الرياضيات). كما يطبق نفس نظام التأشيرة السريعة على المرشحين لنوبل أو الحاصلين على جوائز أخرى في مجالات الهندية والحاسب الآلي والعلوم الاجتماعية.
والنظام الجديد لا يتطلب تقديم نفس الأوراق المطلوبة للحصول على تأشيرة الإقامة والعمل في بريطانيا، بل يختصر الأمر في طلب واحد لا يطلب من المتقدم باقي الاشتراطات المعتادة، بل يكفي تقديمه للطلب مذكوراً فيه تفاصيل الجائزة التي حصل عليها.
وقالت وزارة الداخلية في بيانها، عند الإعلان عن النظام الجديد، إن من يتقدمون للمسار السريع للحصول على "تأشيرة المواهب الدولية" لن يكونوا مطالبين بتقديم خطابات توصية من ست جهات (كما هو الحال في طلبات التأشيرة المعتادة)، بل سيكفي تقديم طلب الحصول على التأشيرة فقط ما دام الشخص من الفائزين بالجوائز المنصوص عليها.
وتفاخرت وقتها بريتي باتيل، وزيرة الداخلية البريطانية بالنظام الجديد، واصفة إياه بأنه سيسمح "للأفضل والأذكى أن يأتوا إلى المملكة المتحدة"، وقالت: "هذه التغييرات الهامة سوف تعطيهم الحرية للمجيء والعمل في مجالاتنا الرائدة في الفن والعلوم والموسيقى وصناعة الأفلام، بينما نعيد بناء بلدنا بشكل أفضل".
وأضافت باتيل: "هذا بالضبط الغرض من نظامنا الجديد والرائد للتأشيرات، صممناه لنجتذب الأفضل والأذكى بناء على مهاراتهم ومواهبهم، وليس بناء على المكان الذين قد يأتون إلينا منه".
كم موهبة جاءت للعيش والعمل في بريطانيا إذن؟
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقال، فبعد أكثر من ستة أشهر على تطبيق بريطانيا النظام الجديد لم تتقدم موهبة واحدة ولا حامل لجائزة نوبل بطلب الحصول على تأشير المواهب الدولية، في صدمة أثارت سخرية البعض من الحكومة البريطانية.
وقال آندري غايم الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لمجلة New Scientist إن "فرصة تقدم حامل لنوبل أو أي جائزة دولية مرموقة للحصول على تأشيرة إقامة وعمل في المملكة المتحدة خلال العقد المقبل أو نحو ذلك تعد معدومة تماماً".
وأضاف غايم: "النظام نفسه عبارة عن مزحة لا يمكن مناقشتها بشكل جاد. فالحكومة تعتقد أنه إذا ما صدرت عنها تصريحات متفائلة لدعم المجتمع العلمي في البلاد، سيتحول ذلك بطريقة ما إلى نبوءة تحقيقها أمر محتوم".
واعترفت حكومة جونسون نفسها بالفشل الذريع لتلك الاستراتيجية التي كانت قد روجت لها بشكل حماسي للغاية عند إطلاقها، إذ قالت الحكومة لمجلة نيو ساينتيست إنه لم يتقدم ولا شخص واحد للحصول على "تأشيرة المواهب العالمية، بعد مرور أكثر من ستة أشهر على الإعلان عنها والترويج لها".
وقالت جيسيكا ويد، المتخصصة في العلوم في كلية إمبريال كوليدج بلندن للمجلة العلمية إنها "غير متفاجئة بالمرة من أن أحداً لم يتقدم للحصول على تلك التأشيرة النخبوية"، مفسرة ذلك بوجود قصور شديد في بريطانيا فيما يتعلق بالمجال العلمي بشكل عام.
"حصول العلماء البريطانيين على تمويل من المؤسسات الأوروبية أصبح محل شك، ونحن لسنا جذابين للغاية بالنسبة للطلاب الأوروبيين، لأن عليهم أن يسددوا رسوماً دولية، كما يتم وقف معاشاتنا، إضافة إلى أن الدرجات العلمية في بريطانيا نادرة أصلاً ونظامها غريب".
ودخلت تشي أونوراه وزيرة العلوم في حكومة الظل (حزب العمل المعارض) على خط الأزمة، موجّهة انتقادات لاذعة لحكومة جونسون. قالت تشي للمجلة العلمية: "من الواضح أن هذه القصة (تأشيرة المواهب الدولية) مجرد خدعة أخرى من حكومة اعتادت على التحدث كثيراً وإطلاق الوعود الرنانة دون أن تحقق شيئاً يذكر".
وأضافت وزيرة المعارضة: "ليس غريباً هذا الفشل الذريع للحكومة في أن تجتذب العلماء من الخارج (للمجيء إلى بريطانيا) في ظل فشلها في تقديم الدعم للعلماء البريطانيين من الأساس".
وحاولت وزارة الداخلية التخفيف من وقع الصدمة، فقال متحدث باسمها للمجلة العلمية إن "برنامج التأشيرات الجديد هدفه تسهيل الأمور على هؤلاء الذين "وصلوا إلى قمة مسيرتهم العلمية"، كي يأتوا إلى بريطانيا للعمل والإقامة، مضيفاً: "المسار المقصود هنا (تأشيرة المواهب الدولية) هو نوع واحد من ضمن البرنامج ككل، ووصلتنا آلاف الطلبات عبر برنامج التأشيرات الجديد بالفعل منذ إطلاقه في فبراير/شباط من العام الماضي".
رد وزارة الداخلية البريطانية بالطبع يأتي من باب ذر الرماد في العيون كما يقال، إذ إن القصة تتعلق تحديداً بمسار "تأشيرة المواهب الدولية"، الذي أعلنته الحكومة في مايو/أيار الماضي وليس بنظام التأشيرات الذي بدأت المملكة المتحدة في العمل به منذ فبراير/شباط 2020 خلال العام الانتقالي بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.